صنعاء نيوز/ عبد الباري عطوان - هل قتَلت أمريكا البغدادي فِعلًا أم أنّها “مسرحيّة” مِثل سابِقاتها؟ ولماذا لم نرَ جثامين بن لادن الأب والابن وأخيرًا البغدادي بينما عرضوا علينا جثامين صدّام ونَجليه وبعدهما القذافي؟ وكيف سيكون مُستقبل تنظيم “داعش” إذا صحّت الرّواية الأمريكيّة؟ ومتى سيكون الانتقام وأين؟
لم نَكُن نعرف أنّ الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب يُجيد التّمثيل إلا بعد أن رأيناه في مُؤتمره الصّحافي الذي عقَده اليوم وأعلن فيه مقتل أبو بكر البغدادي، زعيم “الدولة الإسلاميّة” (داعش) في عمليّةٍ عسكريّةٍ نفّذتها وحَدات أمريكيّة خاصّة في مِنطقة باريشا شِمال إدلب، فالرّجل ظهَر مَزهُوًّا مُدّعيًا نَصرًا كبيرًا، وكأنّه هزّم الاتّحاد السوفييتي وهو في قمّة عظمته، فكُل تحرّكاته كانت محسوبةً، وجرى التدرّب عليها مُسبَقًا، وكذلك ملامح وجهه.
المعلومات التي عرَضها الرئيس ترامب حول العمليّة، ومن بينها مقتل البغدادي وزوجتيه وثلاثة من أبنائه بأحزمةٍ ناسفةٍ كانوا يَرتدونها، وفي نفقٍ جرى إعداده خِصّيصًا لحمايته، ربّما تكون صحيحة، وربّما ليس الحال كذلك، ولدينا الكثير من الشّكوك في هذا المِضمار، لن تُبَدِّدها إلا الأدلّة المَدعومة بالصّور الحيّة والثّابتة. فالرّوس الذين شكَرهم الرئيس ترامب لتَعاونهم في العمليّة نفَوا عِلمهم، وأبدوا شُكوكهم في احتماليّة مقتل البغدادي بالأساس، أمّا السوريّون الذين ضمّهم الرئيس الأمريكيّ إلى لائحة المُتعاونين الشّاكر لهُم فَضل تعاونهم، فآخِر همهم أن يتصيّدوا المعلومات عن الرّجل، وسَخِروا من الإشارة إليهم، مُضافًا إلى ذلك أنّ المِنطقة التي اغتيل فيها البغدادي تقَع خارج سيطَرت الجيش السوري، وتخضع لسيطرة تنظيم “النّصرة”، وربّما خلط الرئيس الأمريكيّ بين السّلطة والمُعارضة، وهذا ليس مُستَغرِبًا منه على أيّ حال.
***
ترامب كاذِبٌ مُحترفٌ، ومُعظم تصريحاته وتغريداته تنطوي على كمٍّ هائلٍ من الأكاذيب، ومن غير المُستبعد أن يكون قد لفّق هذه المسرحيّة، مثلما لفّق أخرى مُماثلة عن مقتل حمزة بن لادن، نجل زعيم تنظيم “القاعدة” دون أيّ يُقدّم دَليلًا واحِدًا أو صورة واحدة تُؤكّد أقواله، ومن مُنطلقٍ سعيه لأيّ “انتصار” يُحوّل الأنظار عن فشل مشروعه السوريّ ويظهره بمَظهر “البطل” لكسب الأنصار في معركته الانتخابيّة، ولا ننسى أنّ لديه عُقدة أبديّة من سَلفه أوباما ويُريد تقليده في كُل شَيء، فالأوّل قتل بن لادن، وها هو يَقتُل البغدادي.
القوّات الأمريكيّة عندما اغتالت عدي وقصي نجليّ الرئيس الراحل صدام حسين، عرضوهما أمام المُصوّرين وعدَسات التّلفزة لتأكيد مقتلهما، وحِرصًا على تسريب شريط تلفزيونيّ عن كيفيّة إعدام والدهما بعد مُحاكمةٍ صُوريّة له، ووضعوا جُثمان الزّعيم اللّيبي الراحل معمّر القذافي في حاويةِ تبريدٍ للخُضار لبِضعَة أيّام “ليتفرّج” عليه الشّامتون، حتى فاحَت رائحته، فلماذا لا يَعرِضون علينا أيّ أدلّة على مقتل ثلاث شخصيّات أقدموا على قتلهما وسَط مهرجانات فرح ومُباهاة غير مسبوقة، وهُم أسامة بن لادن، ونجله وخليفته حمزة، وأخيرًا أبو بكر البغدادي، وما هو السّر وراء هذا السُّلوك؟
من خِلال تجربتنا، وأبحاثنا، ورَصْدنا لتنظيميّ “القاعدة” و”الدولة الإسلاميّة”، يُمكِن القول أنّه جرَت العادة أن يُصدِر التّنظيمان بيانات رسميّة مُوثّقة عن مقتَل أيّ مُقاتل في صُفوفهما وإبلاغ عائلته أو أفراد منها، وِفقًا للقواعد الشرعيّة، بغرض تيسير توزيع المِيراث، والسّماح للزّوجات بالزّواج بعد انتهاء عدّتهن إذا أردن ذلك.
اللّافت أنّ إدارتيّ أوباما وترامب، وعلى عكس إدارة بوش الابن، تَكتّما كُلِّيًّا عن مصير جثامين جُثث أسامة بن لادن الاب وحمزة بن لادن الابن، والآن جُثمان أبو بكر البغدادي، ولم نر أيّ صور لهُم، تُؤكّد قتلهم فِعلًا، ولا نعرف أين مكان دفنهما، ممّا يُوحي أنّ هُناك ما تُريد هذه الإدارات وقِيادتها إخفاءه عن مُواطنيها وعن العالم بأسرِه، وربّما سنحتاج إلى عُقودٍ لكيّ نعرف الحقيقة.
لا نعتقد أنّ مقتل إبراهيم عواد البكري أو أبو بكر البغدادي، إذا تأكّد، سيُؤثّر كثيرًا على تنظيم “داعش” فالرّجل في رأينا لم يكُن القائد الذي يُدير شُؤون مُنظّمته، وإنّما مُجرّد واجهة أو رمز، وإذا كان هذا هو حاله عندما كان زَعيمًا لدولة يَزيد تِعداد مُواطنيها 7 ملايين مُواطن ومساحتها 240 ألف كيلومترًا مُربَّعًا، فكيف سيكون حاله الآن بعد انهِيار هذه الدولة، وتَشتيت عناصرها، وتدمير عاصمتها الأُولى “الرقّة” في سورية، والثانية “الموصل” في العِراق، وفَرار مُعظم مُقاتليها وأسْر حواليّ 13 ألفًا منهم؟
البغدادي لم يتَمتّع برُبع الكاريزما التي كان يتمتّع بها مُعلّمه الأوّل بن لادن، فلم يظهَر على مدى أربع سنوات إلا في شريطين بالصَّوت والصُّورة، الأوّل أثناء إعلانه دولة الخِلافة من فوق منبر المسجد النوري في الموصل عام 2014، والثّانية في 29 نيسان (إبريل) الماضي، عندما حَثَّ مُقاتليه على مُواصلة القِتال بعد انهيار دولته، والانتقام من الأمريكان وحُلفائهم.
البغدادي جرى قتله أربع مَرّات وفق البيانات الرسميّة الأمريكيّة في السّابق، وربّما تكون هذه الخامِسة، ولذلك نُرجِّح صِدق الرّواية الروسيّة الأحدث التي تُشَكِّك في صحّة هذا الفيلم “الهوليودي”، لأنّ الرّوس نَفُوا جميع الرّوايات الأُولى وتَبيّن عَمليًّا صِدق نفيهم.
تنظيم “الدولة الإسلاميّة” لن ينتهي بانتهاء البغدادي بهذه النّهاية الدمويّة، فإذا كان انهيار تنظيم “القاعدة” الأُم أدّى لنُشوء تنظيمين أكثر عُنفًا ودَمويّةً وهُما “النصرة” و”داعش”، فإنّنا لا نَستبعِد أن تتكرّر السّابقة نفسها في الأشهر والسّنوات المُقبلة، خاصّةً أنّ “الحَواضِن” المُلائِمة والدّافئة ما زالت مَوجودةً في كُل من العِراق وسورية وفوقهما واليمن وأفغانستان وليبيا.
نَتوقّع عمليّات انتقاميّة لمَقتل البغدادي من قِبَل أتباعه إذا تأكّد مقتله في أكثر من مكانٍ في العالم، والغرب وأمريكا على وجه الخُصوص، مثلما نتوقّع أن يتحوّل البغدادي إلى شَيءٍ من “الأُسطورة” في نظر هؤلاء الأتباع، خاصّةً إذا صحّت الرّواية الأمريكيّة التي تقول إنّه كان يرتدي حِزامًا ناسِفًا حتّى أثناء نومه، وفجّر نفسه وثلاثة من أولاده وزوجتيه حتى لا يقعوا في أسر القوّات الأمريكيّة المُغيرة.
***
أحد أتباع “الدولة الإسلاميّة” الذي التَقيته أثناء إجرائي مُقابلات في إطار إعداد كتابي “Islamic State the Digital Caliphate”، وطلب منّي ألا أذكُر اسمه إلا بعد “استشهاده”، أكّد لي عندما سألته عن ردّ فعله إذا ما اغتيل زعيمه البغدادي مثلما اغتيل بن لادن، ردّ بعد بُرهةٍ من الصّمت “أنّ الثّأر لمقتل زعيمه سيكون مُزلْزِلًا، وأنّ “الدولة” لن تموت بموته، وستنزل إلى تحت الأرض حيثُ ستكون أقوى وأكثر شَراسَةً وحُريّةً لأنّها ستتخلّص من أعباء مُواطنيها المعيشيّة، الباهِظة التّكاليف.
هل ستَصدُق هذه النّبوءة حول مُستقبل “داعش” ونُهوضها من بين رماد جُثمان زعيمها إذا صدَقت الرّواية الأمريكيّة ونقولها للمرّة الخامسة؟ وكم سيحتاج هذا التحوّل والنُّهوض من الوقت في ظل ضخامة التّحالف الذي يستهدفها وتقوده عدّة دول على رأسها أمريكا، وهل ستكون أمريكا المُتّهمة بتأسيس هذا التّنظيم ومن ثم القضاء عليه، أحد الأسباب الرئيسيّة لعودته مَرّةً أُخرى، بطُرقٍ مُباشرةٍ أو غير مُباشرة، مِثلَما يعتقد الكثيرون؟
لا نملك أيّ إجابة، فهذه الأسئلة افتراضيّة، وما علينا إلا الانتظار.. واللُه أعلم في جميع الأحوال. |