صنعاء نيوز/ كفاح محمود كريم -
لامتلاك المال والسلطة طريقان، طريق سهل جدا لا يتطلب الا قليل من الفهلوة والتخلي عن بعض الثوابت الرئيسية، وطريق وعِرٌ جدا وامتحانه عسير، وفي نهاية المطاف ينتهي الطريقان الى اختبار عويص يخرج منه معدن الرجال والنساء، وتظهر فيه حقيقة الفرد والمجتمع، بل ويفصل بين الحرية والعبودية، وفيه أيضا يكرم المرء أو يُهان.
بهذه المقدمة المقتضبة ادخل الى صلب قضيتنا في العراق، هذه البلاد التي لا تختلف عن أي بلاد في الأرض الا في حظها السيء وإداراتها الأسوء، منذ تأسيس كيانها السياسي مطلع القرن الماضي بإرادة اجنبية وهي مجرد إدارات تسلطت بغفلة من الزمن التعس والاستغلال البشع لتخلف الأهالي وفقرهم، مستغلةً شتى أنواع المفاتيح الغرائزيّة والدينيّة والعنصريّة لتبرير استمرارها في الاستحواذ على المال والثروة والحكم وترك الأهالي يتلظون فقراً تغطيهم أكداس من "اللنكات والبالات" في الملابس والأفكار والثقافات، حتى حولوا البلاد إلى سوق شعبي لبيع وشراء المستهلكات، ولكي يدرك قراءنا من خارج البلاد العراقية، ما تعنيه "اللناكات والبالات" كمفردات ومتداولات شعبية عراقيّة موروثة تعطي صور بلاغية في التوصيف، قد لا ترتقي له الفصحى في كثير من الحالات، خاصةً لدى القراء العراقيين، ولكي يكون قارئنا على دِراية بمعنى هذه المفردات الدارجة، علينا أن نعرف معناهما في الفصيح، فـ "اللنكة" تعبر عن أي شيء قديم بسبب الاستخدام وليس بالزمن فقط، وكذا الحل في "البالات" التي تصف الملابس المستخدمة، والتي تكثر اليوم في أسواق العديد من مدن الشرق الأوسط، وتضاعفت كثيراً بعد اندلاع مهرجانات الربيع العربي الدامي، وهي في معظمها قادمة من أوربا وأمريكا بأكداس معفرة بمشاريع الديمقراطية والعولمة ومراكز ومعاهد تعليمها، التي انتشرت بكثافة تشبه غزارة دكاكين منظمات المجتمع المدني وأسواق هرج ومريدي العراقية!
ولكي تتضح الصورة اكثر دعوني استعير اللفظتين الدارجتين اللتين تعبران عن المواد المستهلكة وأحياناً كثيرة المهترئة، للتعبير عن شريحة من السياسيين والإعلاميين المستخدمين والمستهلكين كثيراً إلى درجة ربما أكثر من اللنكات أو البالات، حيث وصل حال بعضهم إلى درجة مزرية تقترب من الرثاثة والاندثار، رغم كل الإكسسوارات والمنشطات الداعمة من الممولين، والتسميات والعناوين الممنوحة لهم على شاكلة مدير معهد أو مركز كذا للديمقراطية وحقوق الإنسان، خاصةً أولئك الذين أنتجتهم تخمة السحت الحرام ونافورة الإعلام ومفرخات السياسة البلهاء في بلدان ما يزال سياسيوها اللصوص يصرّون على نزاهتهم باسم الرّب والكتاب المقدس والأمة العظيمة، حالهم حال رفاقهم في داعش الإرهاب التي ادّعت وكالتها للرّب على الأرض، وقيامها بواجباته المفترضة على أساس عقيدتها الفاسدة، في ذبح وسلق وحرق وتقطيع المختلف معهم كما حصل في سنجار وتلعفر وسبايكر، التي سبو نسائها واستعبدوا أطفالها وقتلوا آلافاً من شبابها وشيوخها، لا لشيء إلا لأنهم لا يجيدون الشهادة على طريقتهم ولا يعرفون الوضوء كما يشتهون هم!
هؤلاء المستهلكين حدّ الرثاثة، لا لكونهم مخضرمين، بل لكثرة استخدامهم من ممولين وأصحاب أجندات وأموال، ينفذون من خلال مواسم الأزمات والوفرة المالية ليقدموا خدماتهم في بيئة فاسدة تستدعي استخدام المستخدم وأن كان مستهلكاً كما يفعل الكثير من الساسة والإعلاميين، وما يُسمون بالخبراء الاستراتيجيين ومدراء معاهد ومراكز ما يُسمى بالديمقراطية أو كما ينطقها بعض الأهالي تهكماً "الديموغلاجية" أي ديمقراطية الحرامية وحكمهم، حيث عجت السوق السياسية العراقية وبازار الفضائيات وقاعات مزايدات المشاريع بالمئات من هؤلاء الحاملين لعناوين لا أساس لها في تكوينهم أو قابلياتهم أو تأهيلهم، فتراهم منتشرين في البرلمان والحكومة والإعلام ومنظمات أو دكاكين ما يُسمى بالمجتمع المدني ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ولكي لا نظلمهم ونفرق بين "اللنكة"و"البالات"، فإن "اللنكة" خير ما تنطبق على الكثير من شاغلي كراسي البرلمان والحكومة وملحقاتها في جميع الوزارات، وخاصةً غالية الثمن التي تحولت الى اقطاعيات ومغارات علي بابا، أما "البالات" فخير ما ينطبق عليهم هذا التوصيف هم إعلاميو الصدفة وفضائيات البذاءة وأصحاب دكاكين ما يُسمى بمراكز ومعاهد الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تأسست في السنوات الأخيرة لبيع وشراء كافة أنواع المشاريع والكوبونات والمقابلات الفضائية مدفوعة الأجر، بعد أن فشل أصحابها بالاستئثار على منصب في أفشل دولة بالعالم؛ ففتحوا دكاكينهم لبيع أكداس من "اللنكات والبالات" السياسية والإعلامية وحسب المقاسات والأحجام!
إن ما جرى اليوم في عروسة الشرق والبحر المتوسط بيروت الحضارة من محاولة إزالتها من الوجود لصالح الهمج، وما يجري في عراق سومر وبابل واور واكد وآشور وميديا لمسخه وتشويهه، هذه البلاد التي تعوم على بحور من الثروات وتعلوها أجمل وأثرى ما في الطبيعة من تضاريس ومياه وخصوبة، وتسكنها أقوام وأعراق لو أتيحت لها فرصة التحرر والتقدم وحق تقرير المصير، لأقامت حضارة تفتخر بها الإنسانية جمعاء، وما يجري فيها اليوم إزاء هذا الكم الهائل من الفساد والافساد، من محاولات تغيير الوضع لا يمكن له النجاح بالترقيع والمسكنات، فقد غارت غرغرينا الفساد المالي والسياسي في اوصالها، ولن يشفى منها الجسد الا ببترها، لأن الأوباش العنصريون والمتطرفون قومياً ودينياً، أحالوها إلى دولة للبالات واللنكات، تعج فيها عصابات ومافيات باسم الرّب تارةً وباسم المذهب تارةً أخرى، وما هم في حقيقة الأمر إلا كما يقول العراقيون "سلّابة نهّابة"، حولوا البلاد إلى ركام وخراب، فباتت أكثر بلدان العالم فساداً وفشلاً وتخلفاً بعد أن كانت منارة للحضارة والتقدم لكل البشريّة.
انه تحدي كبير بدأ في تشرين 2019 وتخضبت فيه شوارع العراق وشبابه وشاباته بدماء زكية، فهل نجح فيروس كورونا المرض وغرغرينا الفساد في ابطاء المسيرة، ام ان الأيام المقبلة تُنبأ بتحولات تنزع فيها البالات واللنكات، وتستعيد البلاد ازيائها الاصلية الزاهية!؟
[email protected]