صنعاء نيوز/ ا.د.حمود العودي... -
استاذ علم الاجتماع في جامعة صنعاء
لقد كانت ثورة اليمنيين بقيادة عبهلة العنسي هي اول رد فعل تجاه بعض المتغيرات السلبيه لسياسة الخلافه في المدينة، التي خيبت بعض آمالهم في الطموح الى تأكيد استقلالهم الوطني من بقايا حكم الاحفاد الفارسيين ، او حكم الابناء كما عرف في تاريخ الخلافه ، حيث ذهبت سياسة الخلافة في المدينه الى تثبيتهم وتوطيد سلطتهم واعطائهم صبغه شرعية جديده باسم الاسلام وفي ظل مبادئه ، فقد كان اول حاكم يقره الرسول على اليمن بعد ان استكمل اسلامه في وقت وجيز هو "باذان بن التيجان" نفسه الذي كان يحكم باسم فارس وعين من بعده على مخلاف صنعاء ابنه شهر بن باذان بعد تقسيم اليمن الى ثلاثه مخاليف ، والذي قتله فيما بعد عبهله بن كعب العنسي الملقب بذو الخمار ، واستولى على صنعاء وحضرموت وغيرها ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن اليمنيين لاحظوا بان خراج بلادهم كله من الزكوات وغيرها تنقل بالكامل الى المدينه ولم يبق منها شي لا لفقراء اليمن كما تقضي بذلك مبادى الاسلام ولا لمنافعها العامه والذي كان هذا الامر وما قبله من اهم دوافع الانتفاضة الوطنية لعبهلة العنسي وغيره من اقيال اليمن الذين هبوا طوعا الى المدينة بحماس للدخول في الدعوه ومناصرتها من مفهوم ومنطلق سياسي وتاريخي معين ، فعادوا بعد حين ليعارضوها ويعترضوا على تصرفاتها بنفس السرعه ونفس الحماس ، ومنهم معد بن يكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي في مأرب، والاشعث بن قيس الكندي في حضرموت وغيرهم كثير.
فثورة عبهلة بن كعب العنسي ومعد بن يكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي والاشعث بن قيس الكندي وغيرهم من القيادات اليمنية البارزه لم تكن ردة ولا خروجا ونقض عهد الرسوله وخليفته ابو بكر ، وعوده الى الكفر والجاهليه والوثنيه وعبادة الاصنام وادعاء النبوة وغير ذلك مما درج عليه الرواة المتعصبون بلا فهم عقلي ، والمحدثون عن التاريخ من وجهة نظر معينه وبسذاجه لم تعد تقوى اليوم على الصمود امام مناهج العلم التاريخيه والاجتماعيه الحديثه ، فتلك الانتفاضه كان سببها واساسها الواقعي هو سوء تقدير القيادة السياسية في المدينه لسبب او لاخر للخلفيات السياسية والتاريخيه والاجتماعية والحضارية التي كانت تكمن وراء استجابة اليمنيين الواسعة النطاق على اختلاف مستوياتهم للدعوة الاسلاميه والدخول فيها ، والتي من اهمها طموحهم الى تأكيد وحدتهم مع اخوانهم في الشمال والقضاء على كل بقايا النفوذ الاجنبي في الجنوب ، وصولاً الى تكوين دوله عربية قومية موحده في ظل الدعوة الجديده، تعيد ما كانوا قد افتقدوه من قوة ومنعه وتضمد ما كان قد استفحل من جراحات الصراع مع الغزاة الاجانب من الاحباش والفرس، لكنهم فوجئوا بنتائج شبه عكسيه تماما، كما سبقت الاشارة وكما يؤكد ذلك ما جاء في رسالة من ابو بكر الى ذى الكلاع الحميري ، وهو من القادة اليمنيين الذين كانوا ما يزالون شبه محايدين تجاه احداث الانتفاضه الوطنية قوله في رسالته: أعينوا الابناء (اي ابناء الفرس وفيروز واحد منهم) على من ناوءهم واحوطوهم واسمعوا "من فيروز" وجدوا معه فاني قد وليته.
وفي رساله من قيس بن مكشوح المرادي الى ذو الكلاع نفسه حول نفس الموضوع وبعد ان علم برسالة ابو بكر إليه ورد قوله :
إن "الابناء" نزاع في بلادكم وثقلا عليكم وان تتركوهم لن يزالوا عليكم ، وقد ارى من الرأي ان اقتلوا رؤسهم واخرجوهم من بلادنا.
ومن رسالة لعبهلة العنسي لمعاذ ابن جبل حول خراج اليمن ونقله الى المدينة جاء قوله : أيها المتوردون علينا امسكوا علينا ما اخذتم من ارضنا وامسكوا ما جمعتم فنحن اولى به وانتم على ما انتم عليه.
ولقد استطاعت تلك الانتفاضه على الاقل ان تكشف لابي بكر بعد وقت قصير من توليه وللخلفاء من بعده مخاطر سياسية التمسك بتولية الابناء من الفرس على اليمن ، والتي اعرض عنها فيما بعد وقرب منه بقلب المؤمن الصادق والمخلص لجوهر الدعوة الاسلامية كل قادة اليمن ، بما فيهم قادة الانتفاضة نفسها ، امثال عمرو بن معد يكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي والاشعث بن قيس الكندي وغيرهم.
وامتص بذلك كل جذور الفتنه تماما في اليمن ، ولقد ترجم اليمنيون بعد ذلك كل ابعاد حبهم واخلاصهم للدعوة وطموحاتهم وامالهم التي علقوها عليها حقيقة تحت قيادة ابي بكر ومن بعده عمر بن الخطاب
لقدكانت الحركة الوطنية بقيادة عبهلة كانت تنطلق في موقفها من منطلقين رئيسيين الاول اقتصادي والثاني سياسي ، ولم تكن الحركة الوطنية بقيادة عبهلة دافعها مقاومة النظام الضريبي الجديد الذي يتجاوز حدود طاقتهم فحسب بقدر ما انه كان يتلخص في اعتراضها على نقل كل خراج اليمن وحاصلتها الكثيرة الى المدينة ولم يبقى منه شي للانفاق على المصالح العامه للمجتمع وفئاته الفقيره وفق ما تقتضي به التعاليم الاسلامية ، وهذا هو دافع الحركة الوطنية الاول فرض النظام الضريبي الجديد المرهق لأهل اليمن.
اما المنطلق الثاني لهذه الثورة فهو السياسي فقد كان اول قرار سياسي يصدر في المدينة فيما يتعلق بالسلطة في اليمن هو اقرار باذان بن ساسا حاكما عليها ، وهو محتل اجنبي اللحم والدم واللسان، والذي كان وجوده ومن معه من الفرس كحكام بأسم فارس في اليمن هو اعظم تحدي سياسي ووطني ظل اليمنيون يقاومونه من خلال نفس الحركة الوطنية بقيادة عبهلة منذ ما قبل وصول الدعوة الى اليمن ، وما ذهابهم الى المدينة طواعية في جماعات وافرادا معلنين اسلامهم وتأييدهم للدعوة الجديدة باعتبارها دعوة اخوة عربية وقومية إلا بحثا عن منطلق جديد لدعم موقفهم ازاء هذا التحدي ، |