بقلم / توفيق أبو شومر - كنا نرى في قضيتنا الفلسطينية جزءا من حركة التحرر العالمية ضد الظلم والاضطهاد والاحتلال، حتى أن كثيرين من أحرار العالم كانوا يتوافدون على ثورتنا ويلتحقون بها،يقاتلون معنا باعتبار ثورتنا ثورة شعب يخوض حربا ضد الطغيان والاحتلال.
كان الفلسطينيون في بداية نضالهم يدرسون في خلاياهم الأولى الثورات العالمية كشرط رئيس لالتحاقهم بالحزب ، وكانت قدراتهم ودرجتهم الحزبية تُقاس بحجم معارفهم عن الثورات الأخرى، فقد كانوا يدرسون الثورة الفيتنامية مثلا، وقصة انتصار الفيتناميين بقيادة هوشي منه على فرنسا في معركة ديان بيان فو 1954.
وكانوا أيضا يتدارسون في خلاياهم الحزبية أيضا الثورة في نيكاراغوا في الثمانينيات، ولم يكتفوا بذلك ، بل كان مساق ثورة الجزائر من عام 1954- 1962 حاضرا على موائد الثقافة في كثير من الأحزاب الفلسطينية.
ولا أنسى أنني قرأت أيضا علاقة الثورة الفلسطينية بالثورة الكردية، فقد عثرتُ على رسالة موجهة من ممثل منظمة التحرير في إيران الأخ هاني الحسن في سبعينيات القرن الماضي، إلى زعماء الحركة الكردية، يحذرهم فيها من مؤامرات تحاك ضد الأكراد،وجاءت الرسالة على إثر اتفاق التفاهم الذي وُقِّع بين شاه إيران والعراق في الجزائر 1975 ، وكان مضمون الرسالة يشير إلى أن ضحية الاتفاق ستكون هي الحركة الوطنية الكردية، وحدث ما توقعه الأخ هاني الحسن.
ولم أعد أسمع هذه النغمة منذ عقود طويلة ، بعد أن كفَّتْ الأحزاب والحركات الوطنية عن الحديث بلغة العالم الجديدة، ولم تعد ترى في علاقتها مع الأحزاب والحركات العالمية سوى أنها (مجاملة) برتوكولية ثانوية، تتمثل في الزيارات وتبادل الوفود في المناسبات ، واكتفت كثيرٌ من أحزابنا بأن تُسوِّقَ بضاعة فلسطين في سوق فلسطين والعالم العربي فقط، ولم نعد نتقاسم مع الدول في العالم قضاياها وثقافتها ومصالحها.
وللحقيقة فإن هناك أسبابا أخرى لا ترتبط بأحزابنا الفلسطينية فقط ، بل ترتبط بالتحولات العالمية.
وأبرز هذه الأسباب؛ استبدال الأيدلوجيا الفكرية بالمنافع الاقتصادية ، فقد حلَّت منظومة التجارة العالمية بمفهومها الشامل محل النظريات التقليدية ،فأُسدل الستار على مصطلحات الاشتراكية والإمبريالية والإقطاعية والبرجوازية الشيوعية والرأسمالية وغيرها، ورافق ذلك اختفاء الأفكار والفلسفات المصاحبة للأيدلوجيات السابقة.
يضاف إلى السبب الجوهري السابق أيضا ضعف الأحزاب الفلسطينية ثقافيا، وانعدام الإنتاج الفكري وسط تلك الأحزاب والتيارات ، واكتفت معظم أحزابنا بثدي الأم وعباءة الأب، ولم تعد تحمل حقائب السفر الدائم في فضاء الأمم، ولم تعد تسعى لتثقيف محيطها، وانتشال أهلها من ضعف الثقافة والوعي.
أنا أرى بأن هذه العودة تُعدُّ نُكوصا وتراجُعا، ولا أعتبرها عودة سليمة ومُبرَّرة، لأن آثارها الجانبية كانت جِدَّ خطيرة على ثورتنا وأهدافها، فقد لبست حركاتنا الوطنية من جديد الزي القبلي الذي خلعته منذ ستينيات القرن الماضي، فأصبحت الانتماءات الحزبية انتماءات أسرية في كثير من الأحيان، كما أن كثيرا من أحزابنا الفلسطينية عمدتْ إلى استخدام وسائل جديدة لتنظيم الأتباع في صفوفها، غير الفكر والإقناع، فاستخدمت الإغراءات بالمناصب والمال كأهم وسيلة من وسائل جذب الأنصار لهذه الحركات.
وإذا أضفنا إلى ما سبق من تراجع وضمور في خلايا الأحزاب الثقافية ، أن معظم أحزابنا صارتْ تقيس قوة الحزب والحركة بالكم العددي للمسجلين في صفوفها، أي بعدد المُنتخبين، فإن ما سبق يشير إلى خطورة هذا القُصورٌ في الفكر الحزبي الفلسطيني،
ومن الشائع في أحزابنا أيضا، غياب البرامج التي تهدف إلى تثقيف المنتمين إلى الأحزاب، مما يجعل الأعداد في تلك الأحزاب مجرد أرقامٍ ، لا قيمة لها.
إن العضو غير المثقف يتحول فيما بعد إلى عبء على كاهل حزبه، يُسبب له المشكلات ، ويتحول إلى عالة، ويصبح حالة مَرضيَّة حزبية.
ويمكننا أن نشير أيضا إلى بعض المظاهر الأخرى التي تنتج عن انكفاء أحزابنا نحو نفسها ، وعودتها إلى قوقعتها الداخلية، ومنها أيضا تحول الأحزاب إلى ميليشيات عسكرية فقط ، بدون أن تنجح في تفريع أنشطتها وتعديد مهماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المدنية.
وفي كثير من الأحزاب الفلسطينية ونظيراتها في العالم العربي، نرى التركيز على التجييش الحربي ، وكأن هدف الحزب الرئيس هو القتال والصراع فقط ، أما المسؤوليات المدنية الأخرى واللجان الخدماتية الاجتماعية والثقافية والدعوية، هي ماكياج وديكورات للحزب، أو هي بعبارة أخرى هياكل عظمية ورسومات وبراويز معلقة على الجدران، لا تقوم بدورها، ولا تعمل وفق تسمياتها، بل تظل ديكورا لتجميل بوسترات الحزب الدعائية!
فما أكثر اللجان (العددية)الحزبية الاجتماعية في كثير من الأحزاب، والتي لا تقوم بدور نشط وسط المجتمع، لتتمكن من إشفائه من أمراضه الاجتماعية العديدة والخطيرة!
وما أكثر اللجان الثقافية في أحزابنا والتي تؤدي رقصات فوق حلبة الثقافة ، غايتها إعجاب المسؤولين فقط، ونيل رضاهم، لغاية المنفعة الشخصية لا غير، فمعظم الندوات الثقافية التي تقودها الأحزاب الفلسطينية، ليست سوى أصباغ لتجميل وجه زعماء الأحزاب، ولكنها لا تُثري الثقافة ،عند أتباع وأنصار الحزب!
نعم إننا بحاجة إلى أن نعيد لأحزابنا وتياراتنا منظومة العلاقات مع الأحزاب والكتل والتيارات العالمية.
نعم إن الأحزاب تهرم وتشيخ، إذا تكلّس فكرها، وتصاب أيضا بمرض الرُّعاش، إذا توقّفت عن ممارسة رياضة السياحة الثقافية في العالم.
نعم إننا بحاجة إلى أن ندرس تاريخ الحركات الثورية في العالم لنتمكن من الحكم على تجربتنا الثورية، ويجب علينا أن نتواصل مع هذه الحركات والأحزاب العالمية ، بكل الطرق المتاحة، في عالم الأفق المفتوح، لكي نرسل للعالم رسالة تقول، نحن نستحق الحياة الحرة الكريمة، ونسعى لتحقيق العدالة والديمقراطية. |