صنعاء نيوز/ جميلة شحادة -
عذرًا درويش، شاعرنا الكبير؛ “هذا البحر لنا”، وليس لك وحدك. نحبّه؛ لكننا نخشاه. نثق به، لكنه يغدر بنا؛ ألم يقل أسلافنا منذ سنين خلَتْ: “إنّ البحر غدّار”؟! فكم من بني البشر دخلوا ماءه معانقين طالبين متعة الرقص معه فصفعهم لأنهم لا يتقنون مبادئ الرقص مع جبروته؟! وكم من بني البشر دخلوه ليلبسوا زرقته فقذف بهم على شطِّه عراةً من الحياة؟! أهو غدار إذن؟
كنتُ في المرحلة الإعدادية، عندما رافقت عائلتي الى أحد شواطئ طبريا لقضاء ثاني أيام عيد الأضحى المبارك، وكان الوقت عصرًا عندما وصلت عائلة، عرفنا فيما بعد أنها أتت من الطيبة في المثلث الجنوبي، وجاورت موقعنا على الشاطئ. وأيضا، عرفنا لاحقا أنها نوَت أن تخيّم على الشاطئ وتقضي ما تبقّى من أيام عطلة العيد ما بين السباحة والمرح واللهو وشواء اللحم. وما أن حطّت العائلة رحالها بجوارنا، حتى راح ربّ العائلة يحضّر موقد النار للشواء وراحت زوجته تعدّ قطع اللحم لذلك. مرت 20 دقيقة، لا أكثر، وإذ برجل أربعينيّ، قوي البنية يتقدم باتجاهنا حاملًا على ذراعيْه طفلا في العاشرة من عمره، ومجموعة من النسوة والأولاد والبنات يزيد عددهم عن العشرة يتبعونه بوجوه فقدت لونها من رهبة الحدَث، وربما من الحزن، أو من كليهما معا. وصل الرجل منهكًا، وتبيّن أنه بذل أقصى جهده لإسعاف الطفل وإنقاذه قبل أن يحمله جثة هامدة ليسلمها لعائلته الطيباوية، التي لم يمر على وصولها الشاطئ أكثر من نصف ساعة؛ والتي ساقها القدر الى المجيء الى شاطئ بحيرة طبريا بدل الذهاب الى أحد شواطئ يافا كمعتاد سكان الطيبة والبلدات والمدن المجاورة لها. احتضنت الأم جثة ابنها غير مصدّقة الذي حدث؛ هزتها، علا صراخها، ناحت، ولولت، شدت شعرها، وزوجها يحاول انتزاع الجثة من حضنها وهو ينادي بأعلى صوته على ابنه الميت ظنًا منه أنه ربما يردّ عليه ويعود للحياة. وعندما لم يفلح بانتزاع جثة ولده من بين أحضان زوجته، التفت الى ابنته وابنه اللذين كانا يقفان بجوار أمهما ويبكيان بحرقة، ضمّهما الى صدره وراح يبكي معهما. كان الحدث مؤلمًا لدرجة لا تُحتمل، والحزن الذي خيّم على جميع المستجمين عظيما. ولم تفلح مواساة الجموع وبضمنهم أفراد عائلتي من أن تكفكف دموع العائلة المفجوعة. ومنذ ذلك اليوم، حُرمتُ من متعة السباحة حتى بعد أن أنهيت أكثر من دورة لتعلُّمها، ولم يكن السبب عدم إتقاني لتقنيات السباحة، وإنما هو العائق النفسي الذي ضاعف من رهبتي من البحر رغم حبي لزرقته، ولجبروته أيضا.
لقد سردت حدثا واحدا عن الغرق، ولكن للأسف، حوادث الغرق كثيرة ومتكررة، ولو قصصت عليكم تفاصيل كل حادثة غرق كنت شاهدة عليها أو سمعت عنها، لأطلت كثيرا عليكم. فلا يمرّ صيف، أو عيد، حتى نروح نحصي ضحايانا من أحبتنا ومعارفنا وأبناء جلتنا أو من البشر عامة، أو ضحايا البحر، كما يدعي البعض. لكن إذا كان البعض يتهم البحر ويحمله مسؤولية الغرقى؛ فلنسألهم ونسأل أنفسنا: هل حقا المسؤول عن ضحايا الغرق كل سنة، هو البحر؟ هل الذين لاقوا حتفهم غرقا؛ هم فعلا ضحايا البحر؟ إذا كانت الإجابة إيجابا؛ فلماذا إذن يغرق طفل في دلو ماء موضوع في ساحة بيته؟ لماذا يقوم البعض بالسباحة في شواطئ وأماكن بغياب منقذ مؤهل؟ لماذا يستهتر البعض بتعليمات المنقذ إن وُجد، ولا ينصاع لتعليماته وبعدم الاقتراب من المناطق غير الآمنة للسباحة؟ لماذا يخدع البعض أنفسهم ويعتبرون بأن هذه المناطق هادئة، وإذن لا خطر منها ولا سيما أنهم يجيدون العوم في اللجج؟ بينما الحقيقة غير ذلك، وظنهم الخاطئ وثقتهم الزائدة، تودي بهم الى التهلكة.
إنه شعور رائع أن نشاهد الناس يرتادون الشواطئ ويمارسون السباحة كرياضة، ومتعة. وإنه لأمر جميل وجيد أن يقضي أفراد العائلة عطلتهم معا على شواطئ بحرنا مستمتعين بشمس البلاد وهوائها المنعش. لكن المحزن والمخيّب للآمال أن لا يراقب الأب أو الأم أو كلاهما الأبناء، وتغيب عنهما المسؤولية بالمحافظة عليهم ليعودوا بهم الى بلدتهم أو مدينتهم وبالتالي الى بيتهم سالمين هانئين. والمحزن والمخيّب للآمال أن يغتّر الشباب بشبابهم، فيلقون بأجسادهم الى جوف البحر دون أن يكونوا مسلّحين بالمعرفة الكافية عن البحر ودون أن يكونوا متقنين للمهارات اللازمة للتعامل مع جبروته. هذا البحر لنا؛ فأنصفوه بالمعرفة، والعلم واتقان التعامل معه، وبالتزود بما يتطلب وسعه وعمقه، لنظل نحبه، ونبثه أسرارنا، ونخطف من زرقته متعة وراحة نفسية لذواتنا المرهقة من أعباء حياتنا.
الناصرة/ الجليل |