صنعاءنيوز / محمد مهدي الشكري -
أعلنت وزارة الخارجية الروسية بدء مناقشة مجلس إدارتها، نسخة جديدة من مفهوم السياسة الخارجية الروسية على ضوء الحرب الأوكرانية، والأزمة الحادة مع الغرب.
وفقا لبيان الخارجية الروسية، فإن اجتماعاً قد عقد لمناقشة إعداد مفاهيم جديدة للسياسة الخارجية الروسية، طبقا لتعليمات الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، وأن "الاجتماع ناقش مهام السياسة الخارجية الروسية، في ضوء الحقائق الجيوسياسية المتغيرة جذريا، والتي تطورت نتيجة إطلاق العنان للحرب الهجينة المعلنة ضد بلادنا، تحت ذريعة الوضع في أوكرانيا، بما في ذلك إحياء نظرة عنصرية لأوروبا من كهف الروسوفوبيا، لإلغاء روسيا وكل ما هو روسي".
ذهب المراقبون لحد القول إن هذه اللحظة، تكاد تصبح فارقة ونقطة تحول، في مشهد العلاقات والتوازنات الدولية، وأن صيغة عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق تكاد تلفظ أنفاسها، لصالح بروز قوى وأدوار تطالب بتعددية الأقطاب.
فى عام 2005، قال الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى خطاب له أمام البرلمان إن انهيار الاتحاد السوفيتى، كان أسوأ كارثة جيوسياسية فى القرن العشرين، وقبل ذلك بعام واحد، كانت سبع دول قد انضمت لحلف الناتو: بلغاريا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وفى عام 2009، إنضمت ألبانيا وكرواتيا، وفى عام 2017 انضمت الجبل الأسود، وأخيراً فى عام 2020 انضمت مقدونيا الشمالية، وبهذا اكتمل التحاق كافة دول أوروبا الشرقية، وتبلور اتجاه واضح من الحلف لضم كلٍ من جورجيا وأوكرانيا، وهو ما عارضته روسيا، باعتبارهما المجال الحيوى لروسيا الاتحادية، التى ورثت الاتحاد السوفيتى عملياً، وأحبطت الحرب فى جورجيا 2008 ضمها للحلف، وحالياً تشكل الحرب فى أوكرانيا، العملية الرئيسية لإفشال هذا المشروع تماماً.
لنرجع قليلا في تأريخ هذه العلاقة المتأزمة بين الطرفين, ففي عام ٢٠١٤سقط الرئيس الموالي للروس (فيكتوريا نوكوفيتش) حيث تمت عملية اسقاطه بطريقة، اشبة بما حصل في بعض الدول، وخصوصاً مثل ما حصل في العراق, عندما سيرت مظاهرات تشرين المدعومة، من قبل اجهزة مخابرات امريكية وصهيونية وعربية, قادت إلى اسقاط الحكومة العراقية، ورئيسها المنتخب عادل عبد المهدي .
بعد سقوط (نوكوفيتش ) دفع الامريكان والغرب بالرئيس (بيترو بروشنكو), ليكون على رأس السلطة في اوكرانيا, وبعدها دعمت الرئيس الحالي (فلاديمير زيلنسكي)- وكلاهما كان مواليا للمشروع الغربي- وقادت هذه التدخلات المستمرة في اوكرانيا, إلى إثارة حفيظة وغضب الجانب الروسي, والذي كان يعتبرها خطوات تمهيدية, لاطباق كماشة الناتو اقليميا حول عنق الدب الروسي.
كما كان مبدأ (مونرو) غربيا امريكيا, يمنع أي قوة او دولة من السيطرة او الاستحواذ على الدول المحيطة منها, باعتبار هذه الدول المحيطة هي الحديقة الخلفية لأمريكا, كما حصل في أزمة الصواريخ الكوبية التي زودت بها روسيا كوبا القريبة من أمريكا, كذلك نجد اليوم نفس المنهج أو الخطاب الذي اجازته أمريكا لنفسها, يحاول الروس ان يوظفوه في حربهم، ضد تمدد حلف الناتو ونشر سلاحه بالقرب من حدودهم.
هنا يطُرح سؤالان:
اولاً:هل يجوز لأمريكا فقط المحافظة على أمنها القومي، وبالمقابل لا يجوز لروسيا ذلك؟
ثانياً:هل من مصلحة العراق استعداء جيرانه، مقابل رضى امريكا عليه؟
يعد العراق من دول الشرق الأوسط المهمة جدا بمصادر الطاقة والنفط في العالم, ولأمريكا ودول الغرب بالذات, ومع أن امريكا حاولت مؤخرا، رفع يدها عن الشرق الأوسط, والزهد بما يملكه من ثروات, إلا أن الحرب الأوكرانية الروسية, وتخلخل بنية توازن الطاقة في العالم, كشف عن عمق الخطأ الكارثي الذي اوقعت امريكا نفسها به, فاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية أواخر شباط-فبراير 2022 كشف خطأ الحسابات الدولية في التعامل مع الشرق الأوسط، اذ بان جليا ان سياسات الطاقة البديلة لا زالت في بدايتها وتحتاج –على الأقل- الى عقدين من الزمن لتؤتي ثمارها، وان مواجهة التحدي الصيني والروسي، لن يتم بمعزل عن موقف استراتيجي داعم من الحلفاء في الشرق الأوسط، وان اي تنازل او اهمال لموقف الحلفاء، لحساب طهران او غيرها من الدول المتحدية او الرافضة للهيمنة الغربية الدولية، لن يكون خسارة لمصالحهم فحسب، بل هو في المحصلة النهائية انتصارا وقيمة مضافة، تعطي الارجحية لموقف بكين وموسكو، فضلا على ادراك ان الابتزاز الروسي للغرب في ملف الطاقة، لا يمكن مواجهته بمعزل عن زيادة انتاج النفط والغاز من الشرق الأوسط.
الأمر الآخر وفق تلك التقديرات الجيوعسكرية، فإن واشنطن ربما خشيت من وقوع أسلحة أمريكية فى يد روسيا فى نهاية المطاف، إذا ما قررت غزو أوكرانيا، كأحد الدروس المستفادة من غزو أفغانستان، فالسلاح الأمريكى فى الأخير وصل إلى أعداء الولايات المتحدة، وهذه الاستنتاجات منطقية فى واقع الأمر، فلو كانت الأسلحة والمنظومات التى تم تدميرها بسرعة هائلة فى أوكرانيا، أمريكية أو تابعة للحلف فهو أمر يسىء لسمعة السلاح الأمريكى مقابل الروسى، وربما تمت الإشارة إلى تقديم أسلحة من نوعية منظومات «ستينجر» ومدرعات لأوكرانيا، وبالتالى فإن التسليح الذى قدم لم يكن سلاح ردع فى كل الحالات.
مع تحقيق روسيا أهدافها العسكرية فى أوكرانيا، فستكون موسكو قد وصلت إلى غايتها، بتحريك خطوطها الدفاعية إلى الأمام، على حدود التماس المباشرة مع «الناتو»، وهو ما يعنى أن الطرفين سينتقلان إلى قواعد اشتباك جديدة، وبالتالى سينتقل المشهد من لعبة «شد الأطراف» إلى صراع «موازين قوى» بين روسيا والحلف، فبلهجة واحدة فى الخطاب الأمريكى والحلف، تم التأكيد على تعزيز الوضع الدفاعى فى دول أوروبا الشرقية، وبالتبعية فإن موسكو فى حال إخضاع أوكرانيا ووفق دعوة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الصريحة، للجيش الأوكرانى لتولى مقاليد السلطة، فمن المؤكد أنها ستنقل بدورها بنية عسكرية هائلة خلف خطوط التماس مع الحلف فى المدى المنظور، الأمر الذى سيزيد الموقف العسكرى تعقيداً أكثر مما هو عليه.
على هذا السيناريو، فمن المتصور أن قواعد اللعبة تغيرت على رقعة الشطرنج بين روسيا و«الناتو»، وستيضاعف التعقيدات أكثر أن الحوار بين موسكو والحلف ذهب إلى نقطة اللاعودة، فالرئيس زيلنيسكى طلب التفاوض مع موسكو، عبر الوسيط الفرنسى الرئيس ايمانويل ماكرون، وفق صيغة «نورماندى» لكن اللافت للانتباه هو أن البيان الفرنسى فى هذا الصدد كشف عن أن زيلنيسكى اضطر إلى هذه الخطوة بعد الفشل فى الوصول إلى بوتين بشكل مباشر، ثم جاء الرد الروسى بالقبول بالمفاوضات لكن بصيغة استسلام، مع الإشارة إلى دعوة بوتين ــ كما سلفت الإشارة ــ الجيش الأوكرانى إلى الإطاحة بالسلطة، وبالتالى يفرض بوتين قواعد اللعبة من الآن فصاعداً، كما أن التسريبات بشأن أن تكون تلك المفاوضات فى وارسو تكتسب رمزية مهمة بالنظر إلى أن صيغة «مينسك» أصبحت من الماضى، وأن المفاوضات ستكون ما بين موسكو ونظام موالٍ لها فى الأخير وليس بينها وبين «الناتو» الذى يتعين عليه قبول قواعد اللعبة الجديدة. |