صنعاء نيوز/ الدكتور عادل عامر - الدكتور عادل عامر
مما لا شك فيه أن الاقتصاد المبني على المعرفة كان وما زال عاملاً رئيسياً من العوامل التي ساهمت في البناء والنهوض بالعديد من الدول النامية إلى الدول المتقدمة اقتصادياً، الأمر الذي انعكس فيما بعد على التجارة الدولية والاستثمار العالمي.
وفيما يلي نضع أمامكم أهم العوامل التي تشكل أهمية للاقتصاد المبني على المعرفة:
استخدام أساليب الاقتصاد المبني على المعرفة يؤدي إلى المساهمة في زيادة الإنتاج والقدرة على تحسين الدخل الاقتصادي، ومن ثم التقليل من تكاليف الإنتاج.
تستطيع المعرفة بشكل عام زيادة الدخل القومي للدولة، وذلك من خلال إنشاء المشاريع الكبيرة والمتوسطة، ومن ثم متابعة الأرباح المالية لها، الأمر الذي يؤدي إلى إنشاء دخل فردي مرتبط بهذه النشاطات.
الاقتصاد المبني على المعرفة يوفر فرص عمل جديدة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن الجدير بالذكر أن فرص العمل الذي يخلقها هذا الاقتصاد كثيرة ومتنوعة ومتعددة المجالات.
يساهم الاقتصاد المعرفي في تحديث وتطوير المجالات والنشاطات الاقتصادية، أضف إلى ذلك إلى أنه يدعم نموها بدرجة كبيرة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى النهوض الاقتصادي بشكل سريع.
الاعتماد على موارد المعرفة المتمثلة في الاقتصاد المعرفي يُقلل من الاعتماد على الموارد الطبيعية وتجنب التأثر بوجودها من عدمه.
تسليط الضوء على رأس المال البشري بشكل كبير، حيث نجد أغلبية الشركات العالمية تطلب عمالة على أساس الوضع الاقتصادي الجديد بما يتناسب مع مهارات هؤلاء العُمّال. لقد كان مسار تطوُّر المجتمع البشري دائماً مرتبطاً بتطوُّر معارف الإنسان. فالمعرفة رافقت الإنسان منذ أن تفتَّح وعيه، وارتقت معه من مستوياتها البدائية، مرافقة اتساع مداركه وتعمُّقها، إلى أن وصلت إلى ذراها الحالية. وعلى مدى تاريخ البشرية كله نجد أن كل مجتمع من المجتمعات قد تمتَّع بمستوى معين من العلم والمعرفة، بحيث يمكننا القول أن مراحل تطور هذه المجتمعات كانت تشكِّل انعكاساً لتطور المعرفة بمعناها الشمولي، والمرتبطة بجوانب الحياة الروحية والمادية والاجتماعية والبيولوجية... إلخ. ويمكن الجزم بأن تلك المعرفة اضطلعت بدور محوري ومتواصل في تطوير المجتمع البشري وفي دعم إنجازاته المادية، فضلاً عن إنجازاته المؤسساتية والثقافية.
وهكذا، فإن مفهوم "المعرفة" ليس بالأمر الجديد، بل الجديد هو حجم تأثيرها الراهن على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى نمط حياة الإنسان المعاصر عموماً. فقد شهد العالم ابتداءً من الربع الأخير من القرن العشرين أعظم تغيير في تاريخ البشرية، هو عبارة عن التحول الثالث، بعد ظهور الزراعة والصناعة. وتمثَّل هذا التحوُّل بثورة العلوم والتكنولوجيا الفائقة التطور، والتي تشكل ثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات ذروتها اليوم. لذا نرى أن مقاربة اقتصاد المعرفة لا بد من أن تبدأ بإلقاء نظرة سريعة على التحوُّلات الكبرى في حياة المجتمع البشري، والتي كانت انعكاساً لمدى التطوُّر الذي بلغته المعرفة في كل مرحلة من تلك المراحل.
تمثّل التحوُّل الأوَّل، العظيم والبالغ الأهمية في حياة البشر، في قيام الزراعة المستقرة التي نشأت في أحواض الأنهار الكبرى، كالنيل ودجلة والفرات. ولقد عرفت البيئات الخصبة تلك، التي شهدت في العصور القديمة وما تلاها أعنف صراعات دموية للسيطرة عليها، الأشكال الأولى للدولة والسلطة والحكم والشرائع والقوانين. وأدَّى قيام تجمعات سكانية كبيرة نسبيًا إلى بروز تنظيم إداري وسياسي ملائم لمستوى تطور المجتمع البشري في تلك المرحلة.
وعلى مدى بضعة آلاف من السنين تكرَّست الزراعة، بحكم ارتباط أشكال النشاط الاقتصادي الأخرى بها، بوصفها العالم الرئيس المحدَّد للنشاط البشري وللحضارة الإنسانية، باعتبارها مصدراً رئيساً للإنتاج والثروة في حياة المجتمعات. لقد قامت حضارات تلك الحقبة الطويلة على ما سمِّي "المعرفة الزراعية"، واتسمت بتركُّز تطوُّر المعرفة في مناطق محدَّدة، وبما سمِّي المعرفة واحتكارها. فعندما كانت جماعة ما تتوصل إلى ابتكار أو اكتشاف معين، فإنها كانت تحتكره وتحتفظ به لنفسها وتحجم عن تقاسم المعرفة الجديدة مع غيرها، الأمر الذي أدَّى إلى تباطؤ تطور المعرفة، وإلى ضياع الكثير من أسرارها وإنجازاتها مع زوال حَمَلتها (ومن أبرز الأمثلة على ذلك، ضياع الكثير من إنجازات الحضارة الفرعونية أو الحضارات القديمة في أميركا الجنوبية). لقد عُرف ذلك المجتمع بالمجتمع ما قبل الصناعي.
أما التحوُّل الثاني العظيم فتمثَّل بقيام الثورة الصناعية ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر في إنكلترا، ومن ثم انتشارها على امتداد القرن التاسع عشر في أوروبا الشمالية والغربية وشمال القارة الأميركية واليابان، وروسيا لاحقاً. وتُعدُّ الثورة الصناعية بداية تقدُّم عظيم في البلدان التي تحقَّقت فيها، وبالتالي في العالم أجمع. وقد شمل هذا التقدم فروع النشاط الاقتصادي كافة (الصناعة والزراعة والنقل والمواصلات والتجارة والمصارف...)، وشكَّل درجة أرقى وأعظم في اتساع مدارك الإنسان ومعارفه. وكان من سمات المعرفة في تلك المرحلة أنها كانت تستند إلى التطبيق، أي أن التطبيق كان يسبق النظرية، حيث صيغت نظريات كثيرة على أساس ابتكارات وتطبيقات كان يتوصَّل إليها المبتكرون والمخترعون في الممارسة العملية أولاً.
وقد أدت تلك الثورة وما تلاها من تطوُّر إلى حدوث زيادة هائلة في الثروة، كما أحدثت تحولاً كبيراً في المجالات السياسية والعلمية والثقافية، وكذلك الاجتماعية، لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل، كما أدت إلى انقسام العالم إلى عالمين: أحدهما صناعي متطوِّر، وآخر غير صناعي يلهث بعضه للحاق بالعالم الصناعي المتطوِّر من غير جدوى في غالب الأحيان، فيما البعض الآخر يعيش في تخلُّف وفقر مدقع من دون أمل في النهوض. وبذلك تعتبر الثورة الصناعية بداية لتأريخ جديد بين عصرين: العصر ما قبل الصناعي والعصر الصناعي.
أما التحول الثالث الكبير، الذي حمل أعظم تغيير في تاريخ البشرية بأكمله، فقد بدأ في الربع الأخير من القرن العشرين، وتمثَّل بثورة العلوم والتكنولوجيا الفائقة التطوُّر وما نجم عنها من ثورة في المعلوماتية والاتصالات، حيث باتت المعلومات والمعرفة مورداً أساسياً من الموارد الاقتصادية، لا بل المورد الاستراتيجي الجديد في الحياة الاقتصادية المكمِّل للموارد الطبيعية ونشوء ما اتفق على تسميته "اقتصاد المعرفة" أو "الاقتصاد المبنى على المعرفة". وهكذا، بعدما كانت الأرض والعمل هما المورد الرئيس للثروة في العصر ما قبل الصناعي، ثم حلَّ مكانهما رأس المال والطاقة (العمل) باعتبارهما المولِّد الرئيس للثروة، أصبح العلم والمعرفة هما العنصر الرئيس بين عناصر (عوامل) الإنتاج في المجتمع في العصر الراهن الذي صار يعرف باسم العصر ما بعد الصناعي، حيث صار إنتاج المعرفة واستثمارها واستهلاكها (بمعنى استخدامها) وتداولها (أو كما يقال تقاسمها أو تشاركها) المصدر الرئيس للنمو. وغدت المعرفة عبارة عن نوع جديد من رأس المال يقوم على الأفكار والخبرات والممارسات الأفضل. إنها تعبّر عن رأس المال المعرفي الذي يُعتبر في الاقتصاد الجديد أكثر أهمية بما لا يقاس من رأس المال المادي. وأدَّى التطور العلمي والتكنولوجي إلى التحوُّل من العمل الجسدي إلى العمل القائم على المعرفة. فأصبحت التكنولوجيا والمعرفة هما العاملان الرئيسان للنمو والتنمية المستدامة إذ أن الثروة الحقيقية للأمم تكمن اليوم في العقول بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعدها الثروات المادية الكامنة في باطن الأرض أو على سطحها.
إن السمة الرئيسة لهذه المرحلة هي في أن التطبيقات العملية صارت تأتي استناداً إلى النظرية. فعلى عكس المرحلة السابقة، صارت النظرية تسبق التطبيق. وتسارعت بصورة هائلة عملية وضع الاكتشافات النظرية موضع التنفيذ. فقصرت المسافة الزمنية بين الاكتشاف النظري ووضعه في موضع التطبيق. فعلى سبيل المثال، كانت الفترة الفاصلة بين اكتشاف الطاقة البخارية واستخدامها في الحياة العملية لا تقل عن ألفي سنة. أما بالنسبة إلى الكهرباء فكانت هذه الفترة مئة سنة، وإلى التصوير الفوتوغرافي مئة سنة أيضاً، والبلاستيك 55 سنة، والهاتف 50 سنة، والراديو 35سنة، والمضادات الحيويَّة 12سنة، والاتصال اللاسلكي 10 سنوات، والألياف الصناعية 9 سنوات، والترانزيستور 5 سنوات... الخ. أما اليوم فإن الاكتشافات والاختراعات في الميادين العلمية الجديدة فتتوالى باستمرار، ولا يستغرق وضعها موضع التطبيق سوى أشهر أو أسابيع قليلة. وصارت المؤسسات والشركات تنفق أموالاً طائلة على البحث العلمي وتخصِّص جزءًا كبيرًا من رساميلها لهذا الغرض. فالأبحاث العلمية أصبحت اليوم أشبه بمناجم الذهب، ولكنها غير قابلة للنضوب، وغدت ربحيتها وجدوى الاستثمار فيها مسألة لا شك فيها.
لقد كان للتطور العلمي الكبير في الميادين الإلكترونية والنووية والفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والفضائية، التأثير الأكبر في إحداث تغييرات حادة وجذرية في حياة الناس والمجتمعات، وجاءت ثورة المعلوماتية والاتصالات لتقلب هذه الحياة تفاوتاً في مستويات التطوُّر بين البلدان الصناعية نفسها، حيث نجح بعضها في ولوج مرحلة ما بعد الصناعية بينما يسعى بعضها الآخر جاهداً لتحقيق ذلك. أما الغالبية الساحقة من بلدان ما كان يسمَّى العالم الثالث فإنها ما تزال تتخبَّط في محاولات التخلُّص من قيود التخلُّف وضعف التطوُّر. وتعمَّقت أكثر الفجوة المعرفية بين البلدان والمجتمعات.
وتمارس ثورة المعلوماتية تأثيراً استثنائياً على مجمل منظومة العلاقات الاقتصادية الدولية اليوم. فتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الفائقة التطوُّر تتيح إقامة "مدى معلوماتي عالمي موحد". وقد بدأ العالم منذ اليوم يجني ثمار هذا بوتيرة متسارعة. فمع نهاية القرن المنصرم وبداية القرن الجديد أخذ يتكوَّن نظام العلاقات الدولية الذي يتحقَّق عبر شبكة الإنترنت تلك. إن الأهمية العظيمة والمستقلَّة لهذا النظام الجديد سوف تتجلَّى بالكامل في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. إن ثورة المعلوماتية واتساع "المدى المعلوماتي الموحَّد" لا يؤثِّر تأثيراً جذرياً في الاقتصاد فحسب، بل وفي حياة المجتمع وطبيعة العلاقات بين البشر والمواطن والسلطة، ويؤدي إلى تعاظم نفوذ وسائل الإعلام وتأثيرها، الأمر الذي يمكِّنها من السيطرة على سلوك الفرد وخصوصاً في مجال الاستهلاك وتكوين الوعي، ومقاربة الكثير من القضايا والمشكلات التي يواجهها وفهمها.
|