صنعاء نيوز علي شكشك - "وطن حيّ لا تقطنه روحان"
حتى التسمية فقدت قدرتها على الإدهاش, فقد لكناها ولاكتنا حتى امتزجت فينا, وتعايشنا معها إلى درجة التآخي والتآلف, كما أنها لم تعد مجرد حدثٍ منذ أن أصبحتْ سيرورةً بصبغة الدوام, وهي هكذا حتى يجيء كلَّ فَينة شاعرٌ أو حاكي يُعيدُ لها ألقها ونضارتَها وبكارتها وإدهاشها ونكبتها, فقد تجددت عندما تشاءل إميل حبيبي, كما عندما عاد غسان كنفاني إلى حيفا ووضعنا في مأزق الهوية فتوهج فينا القُ النكبة وبرعمُها من جديد, وهي بهذا متميزة.
كما أنها تستعصي على الذاكرة, فلا تقبل النسيان, ولا التوطين, ولا التنازل أو التأويل ولا الذوبان,وهي تطفو على الضمير والواقع المَعيش, فكم عائلة فلسطينية اجتمعت كلها مرة واحدة في مكان واحد وزمان واحد منذ حدث ذلك الشيء؟, ولقد اضطرّ جبرا إبراهيم جبرا- وقد عزَّ البَرُّ- إلى وضع أبطال روايته الفلسطينيين في سفينة تمخر الماء, فكيف الآن وقد {ظهر الفساد في البر والبحر}.
وأصبح لشهر آيار مذاقٌ مختلف بمجرد أن يقترب شبحه, فنعبره ذاهلين, ويغادرنا متشائلين, إلى أن يذوي, فرائحة أحاديث سمر الآباء والجدّات تُهيّج ذائقتنا التخيلية لمجاهيل البيارة والبرتقال وزيتونةٍ في حوش الدار وجميزةٍ في القرية والجرن والمحجار, وكم كنا أطفالاً ونحن مستغرقون في خشوعِ صلاةِ الإصغاء, التي تُحرِّم في رهبة تلك التراتيل خطيئة السؤال.
وقد تأسّست منظماتٌ وهيئات لامتصاص الارتدادات, وصدرت قراراتٌ وتزلزلت الأرض بأيديولوجيات وانقلابات لِنَكْبِ النكبة, إذ لم يجرؤ التاريخ قبلاً ولا بعداً على إنتاج مثيلٍ لما جرى ولا على إنتاج شخصٍ يُبلفِرُ وعداً كذلك الوعد, ولم يُغلق التاريخ فضاءَ الفوسفور على أحد, ولم يسجن أحداً خارج الأرض.
وهي أيضاً متجدّدة, ففي كل يومٍ تضيقُ البسيطةُ الواسعة بالفلسطيني وكذا الأفق, وتضيق وثائقُ السفر وحقُّ الإقامة والعمل, كما يتعذّر عليه السفر لواجب تشييعٍ أخيرٍ لأبيه, أوالالتحاق بزوجته وبنيه, أو اقتراف الحلم بالصلاة في معراجه ومسراه حيث وَضَعَ الخاتمُ ختمَه على الأرض وحولَها والجدار, تلك غاية المشتهى, وعاصمته وسدرة المنتهى, حيث فرض الله على عباده الصلاة, وأرادها لنا عاصمةً, تعصمُنا وتنهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وإذا كانت كلُّ أزمة تولدُ كبيرةً ثم تهون بحكم سنن الرحمن, فإن نكبتنا بدأت كبيرة وما زالت تكبر, فالإحلال والإعلال والتهويد والتهجير والإبدال لا يتوقف تحت أي حال, كما ضاق شعارُ الذين استقبلوا اللاجئين بالتهليل والتكبير يوماً ما, والقادمون من أسفار الملوك يُشعلون الماءَ في أحشاء البيت, ويقطعون الطريق على العهد, وأمام حائط البراق يقطعون الطريق إلى السماء, وعند النهر يصادرون ماء معمودية يوحنا, وعند الجبل الذي لاح منه عمر وتابِعُه على الأتان شيّدوا المصفاة لِرصدِ أيِّ احتمال.
وهي الأولى التي تتحالف فيها القبائل لِرصدِ الداء والدواء والغذاء وحقك الذي اغتصب لا يُسترد بما به اغتصب, وأنت إن نطقتَ متّ وإن سكتّ متّ, ووحدَك تكون- مثل يوسف- وجُبُّك مَدى, لا يلتفت إليه السّيّارة الذين التقطوه وباعوه بثمنٍ بخْس, وحدَك والحقيبة, نبعُ الحقيقة, فقد زيفوك حيّاً, واستباحوا وردَ الحديقة, وشوارعك, ومضجعك, ومقعدَك, والزاوية التي كنت تركن إليها في مُصَلّاك, والنافذة التي أنضجتْ حواسّك على مُشتهاك, واللوحة المعلقة على الجدار لطفلٍ قبل أن يُصبح جداً لك, وسلبوك عيون أبيك, {وحتى لو وضعوا مكانهما جوهرتين, تُرى هل تَرى, هي أشياءُ لا تُشْتَرى}, وأنت الساميُّ ابن الساميّة, كلما دخلوا قريةًّ ورفعوا أعلامهم أخرجوك, غريباً هناك في ديار الخليل تكون,لا يجتمع هناك اثنان, أنت وهم, فكيف هنا وقد أَعلن التاريخ أن الوطن جسدٌ حيٌّ لا تقطنُه روحان. |