صنعاء نيوز/علي ربيع -
لا تبحثوا عن مربط الفرس وابحثوا عن مربط الجماجم، الخطأ ليس في الرئيس ولا في الوزير ولا المدير، الخطأ في الجماجم المتكورة على ثقافة التخلف البدائية، الخطأ في إيماننا أن قشرة الحضارة أو غطاءها الخارجي الاستهلاكي هو التقدم في حين أننا لا نزال نؤمن في أعماقنا اللاواعية أن إشارات المرور وقواعد السير تحدّ صارخ لمفهوم الرجولة.
هذه فقرة البدء من فقرات مكرورة يجب أن يستوعبها دعاة التغيير وداعياته حتى لا يبحثوا في المكان الخطأ، فمشاكلنا جميعها في اليمن والعالم الثالث على علاقة وطيدة بإشكالية الثقافة في معناها الكبير الواسع، الثقافة باعتبارها مطلق الأداء الاجتماعي الناتج عن بنى الوعي الفردي والجمعي، إنها أنماط السلوك البشري الذي يترتب عليه تقدم المجتمعات ونهضتها أو ركودها وتبعيتها، وبالتالي فالثقافة ليست تلك التي تفرد لها دول العالم «النائم» حقائب وزارية تبرع في إعداد فقرات احتفالية مملة في المناسبات الوطنية.
الثقافة تمظهر أدائي أو سلوكي للمجتمع يشمل كل شيء، وبقدر ما يكون هذا السلوك إيجابياً فاعلاً يحدث التغيير وتنطلق الحياة، وثقافتنا الآن هي معضلة حياتنا، فهي ثابتة ونمطية، وصارت جزءاً من البناء العقلي للفرد تتحكم به إن شاءت وفق معطياتها الخاصة، ومن خصائصها أنها مترسخة وقديمة وتعيد إنتاج ذاتها في لبوس جديد، وبالرغم من قيام ثورة سبتمبر وأكتوبر والتضحيات التي قدمها شعبنا العظيم فلا زالت رواسب ثقافة الماضي على حالها تتحكم فينا بملء إرادتنا.
فشيخ القبيلة أهم من مدير المديرية، المشروع يأتي عن طريق الشيخ، والوظيفة عن طريق الشيخ، وهو عضو مجلس النواب، وعضو المجلس المحلي، وتاجر المنطقة، ورئيس فرع الحزب المحنك، والقائد العسكري المغوار، إنه الجامع المانع لكل ما سبق ولا اعتراض على أن يكون كذلك لكن على أساس الفرص المتكافئة التي تمليها المواطنة والكفاءة، لا على أساس القوة والمنعة والقبيلة والمال.
هذه ثقافة كنا نعتقد أنها بائدة، لكنها حاضرة كحضور ثقافة الحق التاريخي وثقافة الوصاية والأبوية والذكورية والسلالية، وللأسف كثير من مؤسساتنا تكرس هذه الثقافة وتذعن لها على حساب هيبة الدولة والنظام والقانون، ثقافة مجتمعية تقضي بأن «شبر مع الدولة خير من ذراع مع القبيلي»، شبر مع الدولة يعني الفائدة مضمونة والمحاسبة مفقودة والإنتاج الفردي والكلي حسب المزاج، والقاعدة المهيمنة «ماحد يدي من حق أبوه»، ثقافة تجعل أمين الصندوق أو مراقب الدوام أهم من مدير التخطيط، ثقافة تجعل من موضوع حقوق المرأة فاكهة كل مقيل واجتماع بينما تصدح ثقافة اللاوعي الذكورية في أعماقنا «ماهي إلا مرة» أو على رأي الغربي عمران «حريم أعزكم الله»، ثقافة تملي على أثرياء المجتمع المخملي ومسؤولي الدولة أن يدبجوا لبعضهم التهاني في الصحف بزفاف أبنائهم أو نجاحهم، لكن أتحدى أن تسمح هذه الثقافة لأحد منهم بتهنئة الآخر بزفاف ابنته أو نجاحها، وهاتوا لي أحد مسؤولي الإعلانات في الصحف ليثبت عكس ذلك، فاللاوعي لثقافتنا يصر على اعتبار المرأة عيباً ونقيصة، فإذا ماتت وتقاطرت التعازي على استحياء أتحدى أيضاً أن يذكر اسمها بغير «الفقيدة» فقط، أليست هذه أيضاً واحدة من تجليات ثقافة التخلف الماضوية؟
قل ذلك أيضاً عن ثقافة الانتصار للقدم والكبر باعتباره ركيزة أخلاقية في وعينا «واللي أكبر منك بسنة ادعه ياباه»، وليس مهماً أن تكون أعلم منه أو أكثر إنتاجاً نوعياً، أما إرادة الرجل الأول في أي مرفق اجتماعي فهي القول الفصل، وبالتالي فالكل رهن للمشيئة الأحادية التي لا ترضخ لأي مشيئة جمعية، وإذا جاء قيادي أو مسئول يحاول الخروج عن الطوق الشائك لهذه الثقافة فهو ضعيف ما بش معه قرار «ما يفهمش»، وبناء على هذه الثقافة تصبح لغة المؤسسية ديكوراً شكلياً ومباني فخمة لا أكثر.
قد أكون مخطئاً لكن دوافعي صادقة وبريئة ومحبة لهذا الوطن الذي نسومه بثقافتنا سوء الوفاء، مما يحتم علينا البحث عن أطواق نجاة حقيقية لا تشبه الأطواق التي ينثرها اليوم في الساحات مبيحو زواج الصغيرات، وحراس ثقافة التخلف، ونافخو كير الثأرات، وتجار الدم ولصوص الجغرافيا، أطواق نجاة تنقذ الوعي الفردي والجمعي من استمرار الغرق في الثقافة التي تحسب أن التقدم مبان أسمنتية وسيارات دفع رباعي وحمامات على الطراز الإفرنجي، وشهادة مؤقتة بنسبة مقبول تهرع بفظاظة لإقلاق سكينة الخدمة المدنية من أجل الحصول على «شبر الدولة».