صنعاءنيوز / الفنانة : آمنة النصيري - عندما يوصف ويحلل فنان ، تجربة فنية لغيره ، تكون هذه الكتابة الرصينة :
(( السمات الحداثية في الخطاب البصري العربي . دراسات جمالية. ))..
فــنـان تــشـكـيـلي د/ يـاســر الـعـنـسـي .
تجربة الفنانة / آمنة النصيري : Amna Al-Nasiri
........................................
الفنانة : آمنة النصيري :
من الضروري قبل الخوض في تجربة الفنانة أمنه النصيري، الرجوع والعودة إلى الوراء نظراً لما تحمله هذه التجربة من خصوصية كونها أهم تجربة تشكيلية نسائية في اليمن، ونظراً لما تحمله الظروف الثقافية والإجتماعية التي عاشتها الفنانة أمنة، حيث فرضت طبيعة المجتمع اليمني على المرأة اليمنية العديد من الموانع والقيود، ومما ساعد على ذلك هو عدم تبلور ملامح حقيقية للثقافة اليمنية بسبب العزلة التي عاشتها هذه الثقافة وهذا ما انعكس على تهميش دور المرأة وإلغاء وجودها وحقوقها للمشاركة في عملية البناء والنهضة في اليمن، لنلاحظ أن الفنانة آمنه التي تعيش في مجتمع ذكوري قد استطاعت ونجحت في أن تتجاوز بخطوات واثقة كل تلك الظروف والقيود والحواجز المفروضة عليها.
إن المتأمل لتجربة الفنانة والكاتبة آمنة النصيري عبر مختلف انعطافاتها سيلاحظ، مدى عظيم استفادتها من ممارستها للنقد الفني.. فهي تؤمن بأنه كلما كانت لدى الناقد رغبة في إنجاز دراسات خلاقة وعميقة كلما اقتضى ذلك مزيداً من البحث والمعرفة ، وهو ما رأت فيه جانباً إيجابياً كونها فنانة وتمارس النقد الفني.
ومنذ بداياتها الأولى.. سكنتها هواجس عدة.. جعلتها تنشغل في هموم تفاوتت بين الذاتية والموضوعية.. حيث أصبح يشغلها التفكير في إشكالياتها الناتجة عن كونها امرأة في مجتمع ذكوري ، وهذا ما دفعها إلى التحرك في اتجاهين الأول بحثها عن صيغة للتعامل مع العالم الخارجي والثاني البحث عن لغتها الخاصة لتجاربها ومحاولة أن تجد نفسها في أسلوب ما.. تطرح من خلاله موقفها الجمالي من كل ما حولها في أعمالها البصرية .
في فترتها المبكرة.. تأثرت كثيراً بقراءاتها الواسعة.. التي تكاد تغطي معظم المجالات المعرفية، نتج عن ذلك تراكم معرفي، أدركت من خلاله أن مهمة الفن ليست تقديم الشكل الخارجي للأشياء بل تقديم مدلولها الداخلي ، وأن الفن لم يوجد لينقل صوراً مماثلة للمرئيات.. بل ليوفر رؤية لما يقبع خارج حدود العالم المرئي .
وعلى هذا الأساس اندفعت الفنانة آمنة النصيري في تجاربها البصرية .. بعد أن تملكها هاجس البحث لتتجنب المباشرة والفجاجة في التعبير ، بحرصها المعتاد على سبر أغوار تجارب جديدة وارتياد عوالم مغايرة، تثري تجربتها الفنية وتضيف إليها أبعاداً أخرى في رحلة البحث الملح عن المغاير والمختلف، حيث جسدت ذلك في مجموعة من أعمالها ، اتجهت هذه الأعمال إلى استقراء عوالم الكائنات والتداعيات المؤثرة في علاقة الإنسان بالفضاء والأشياء، من خلال انساق بصرية تتفادى المشهد التقليدي وتعتمد صياغات خلاقة محملة بصور جديدة وبفلسفة تطرح الإنسان كجزء أو طرف في متتاليات الحياة والوجود الكلي ، وقد تميزت هذه المجموعة من الأعمال باستخدام الخامات والألوان بطرق فنية مبتكرة ، مع عناية خاصة بالاشتغال على سطح اللوحة واستخدام مساحات كبيرة، تعكس تمكن الفنانة من أدواتها ووضوح رؤيتها للأفكار التي تعالجها.
ويقول في تجربتها الكاتب والناقد اليمني عمر عبد العزيز " في أعمالها لا تتوقف آمنه النصيري عند حدود المشهد المباشر، بل تسافر في ذاكرة المعرفة والتمازجات العرفانية القادمة من أساس الثقافة العربية الإسلامية وتجلياتها المختلفة فاتحة جسور اتصال وانفصال مع التاريخ اليماني القديم، ضمن متوالية تستقرئ المشهد في تكامليته وعبقريته، في وحدته وتشظياته " .
ومرت تجربة الفنانة آمنه النصيري بعددّ هائل من الأحداث والمواقف التي عاشتها وعايشتها.. متأثرة بها و مؤثرة فيها.. وهو ما يلمسه أي متتبع لمختلف محطاتها الحياتية.. التي زادت من رصيد نضوجها الفني.. وبدرجات متفاوتة ، كان لها التأثير العميق في تطوير أساليبها وصقل أدواتها مماعكس إيجابياً مدى ما أكتنز به وعيها الفني بالكثير من الأفكار والرؤى والمواقف.. دفعتها إلى الانطلاق بنزعة تعبيرية رمزية .
كما يتحدث عن تجربتها الناقد والكاتب العراقي حاتم الصكر : " إن تجربة الفنانة آمنه تراوح بين نزعة تشخيصية وحنين تجريدي ، وبين العودة لمنابع الطفولة وموضوعاتها ، واستلهام الموروث الشعبي والجانب الرمزي الأسطوري في الفكر عامة ، وذلك يطبع أسلوبيتها بالتردد بين احتواء الموضوع فنياً وصهره بعناصر اللوحة لا سيما الخطوط والألوان ، وبين عرضه (كموتيف) فكري أو ذهني يسجل موقفاً من قضايا الوجود والحياة ببعدها الواقعي " . كل هذا الوعي بالتجربة الإبداعية والإدراك العميق والتام بمسارات الاشتغال الفني أوصلها إلى ذروة لا تعد نهائية بقدر ما تعد مرحلية.. أي أنها مجرد نقطة على خط السير.. الوصول إليها.. والتوقف عندها.. ليس فيه شيء من استراحة محارب ، بقدر ما هو ممر آخر وجسر جديد يؤدي ويفضي إلى طروحات بصرية أبعد وأكثر وعياً.. وهو تماماً ما بدأ يتضح في مشاريع الفنانة آمنة النصيري عبر مسطحاتها التصويرية الجديدة والتي أنجزتها خلال الأعوام الأخيرة حيث نجدها تستشف رؤية خاصة من واقع مخزون ذهني بصري وخبرات تعددت بتعدد الأمكنة والناس والسنين وبالتالي نسجت نصوصها بعيداً عن الاعتيادي، مقارنة بتجاربها في السنوات السابقة ، حيث بات انشغالها يدور حول مدى إبداعية التجربة التي تخوضها .
تستدعي أمنه الخلاصات، لأنها تميل إلى صوفية علاقات ورؤى، لا صوفية سلوك وتطرف، تتحدد وتتآزر بذات سامية نابعة من تجاوز المحيط المغلق، والارتقاء بعيداً عنه، كأن الخلاص يساوي الهروب في بعض مبرراته، آخذة بثنائيات الحزن والفرح، وان تغلب الأول لأنه لون الواقع العربي، وسمة الحياة اليومية .
هذا ما تقودنا إليه تجربة آمنة النصيري فمن التعبيرية (بمراحل مختلفة) تجسد لدى الفنانة الحس القصصي ، والحكايات المجتزئة مع توظيف خيالي للأشكال ومعالجات ذكية للمواضيع ، وإدخال الزخرفة بحذر ، ونجد في هذه المرحلة (ترميز و تفكيك) للرموز الحيوانية التي تأتي أحيانا بانسيابية خيالية في التوصيف البصري وتمثل محور العمل الفني ، وفي مرحلة لاحقة نجد الأشكال الحيوانية أصبحت هدفاً يحمل أبعادا رمزية تحمل (موتيفات) خيالية وظفتها الفنانة لإيصال الهدف الاتساقي والمعرفي الذي لا يحمل أي عنوان بل يحمل دلالات معرفية تتكئ على عناصر الاستجلاب الشكلي والتوظيف المعرفي ، ونجد ان الحضور الجسدي مرتبط بمجموعة من التداعيات الجمالية في التوظيف .
استطاعت آمنه النصيري في تجربة (الطيور- وهي مجموعة واسعة في أعمالها-) أن تشكل عالماً من الألوان المتسقة مع حركة تبدأ بالمحور وتنتهي بالتلاشي ، كما في إحدى أعمالها في الشكل ،نجد في هذه التجربة تجارب شتى فالطيور الملونة المزخرفة ترسم على الخلفية الداكنة لتأكيد الهدف ، وتتطور هذه التجربة من الورق إلى القماش لتتخذ بعدا آخر و(ديناميكية) وحركة وتكوين مدروس يخاطب الحسي والجمالي الصرف ، امتزجت الطيور مع الورود المجردة بصيغ تعبيرية يختلط فيها التعبير مع التجريد وهذا ما سيقود الفنانة إلى التجريدية بشقيها الغنائي والهندسي .
تتعامل آمنة النصيري مع اللوحة بحالات من الصدق ، واختلاق الأشكال غير المألوفة ، وتوظيفها ضمن دائرة التجريب والبحث الذي يقود الفنانة إلى تجارب جديدة وتقنيات متعددة تتسم كلها بالمغامرة الخلاقة فعدم التشبث بأسلوب هو ما يعطي التنوع المدروس ، فالفن لا يحده حدود ولا يؤطره أسلوب ، وتظل بصمة الفنان رغم تعدد الأساليب والتقنيات.
ولإدراكها المسبق أن ثمة تفاعلاً جماً بين الفنان ومحيطة المرئي.. من ناحية أخرى.. تأتي معايشة الفنان لبيئته (قيم- ثقافات موروثة) برهاناً أكيداً عن ارتباطه بواقعه وتأثره فيه وانطلاقه منه واستيعابه لشتى مفرداته.. وهو ما ينطبق تماماً على الفنانة آمنه النصيري... حيث تأسرها أشكال معينة تعجز عن تبريرها لذا فهي ومنذ اختارت ممارسة التشكيل تعتمد على التقاط مفرداتها البصرية ، من الخارج.. بداية بصورة آلية.. ثم تعيد نقل المرئي مع بعض التعديلات ومع التجريب والتأمل الذي يقودها إلى الترميز، فتحولت عبر رؤية بصرية حداثية إلى العلاقات اللاظاهرة في المادة .
وعلى مدى أعوام قطعت الفنانة آمنه النصيري مسافات لتخوض تجربة التجريد التي يشكل اللون عنصراً أساسياً فيها ، كذلك اتسمت التقنية بانتقالية احترافية من حيث الأحجام الكبيرة ، مع اختلاف وتنوع في المعالجات الأسلوبية ،أشكال وايهامات ، انسجام وتضاد لوني ، توظيف للأشكال و رموز مستجلبة.
واستقرار تجريبي على الألوان - تجريد ما يمكن تجريده - مساحات وتفاصيل من الألوان التي لا يحكمها قانون ثابت في التكوين من (الأسفل إلى الأعلى ومن الجوانب إلى الوسط ، خطوط أفقية تخرج من اللوحة ، بعثرة للأشكال في الفراغ )، كل هذا في تجربة الفنانة التي لا يحدها حدود فالممارسة والخبرة أعطت الفنانة هذا الفضاء الحر في التجريب دون الاستقرار على شكل فمحور العمل يرتكز على التناول الحر للعمل الفني وتكيفه لونياً، وإيصاله إلى اتساق وسيطرة واضحة على اللوحة .
ويمكن القول أن الفنانة آمنة النصيري استطاعت أن تكون فنانة تجريدية بوعي واٌقتدار ، فمعرفتها بالتجريد وثقافتها كباحثة في الفنون البصرية ، إلى جانب مشاهدتها لأهم أعمال الفنانين في العالم ، يضاف إلى ذلك أن أبحاثها في الفنون البصرية المقدمة في المحافل الدولية أهلها لأن تنحو بتدرج معرفي إلى التمكن وخوض التجارب المتتالية خاصة وان اللوحة التجريدية تحتاج إلى سيطرة وخبرة وليس مجرد (شخبطات وعبث) كما يحلو للبعض تسميتها .
تمثل الفنانة آمنة النصيري اتجاهاً في المحترف التشكيلي اليمني تبلور خلال السنوات الأخيرة الماضية تحمل الجرأة في تقديم منجز بصري ينسجم وما يدور في المحترفات العربية والعالمية ، حيث تطورت التجربة لديها باستمرار من خلال إدخال عناصر جديدة في كل مرحلة ، وهذا يقود الفنانة إلى فضاء مفتوح لإيصال سلسلة من الأفكار والرؤى والتجريب برؤية حداثية جمالية خالصة .
من هنا تركت الفنانة لنفسها فضاء مفتوحاً لتطوير التجربة التجريدية سواء من الناحية الشكلية أو التقنية ، فالتجديد التقني يلازم اللوحة التجريدية التي تعتمد بشكل أساسي على التكنيك وقدرة على استعمال المواد وتكييفها باتساقية معرفية سواء في اختيار المواد(موضع التجريب) إلى جانب اختيار المقاسات المناسبة فالأحجام الكبيرة تلعب دوراً في عملية التلقي ، كما في أحدى أعمالها في الشكل .
السمات الحداثية للفنانة:
- إيمان الفنانة آمنه النصيري العميق الذي أدركت من خلاله أن مهمة الفنان ليست تقديم الشكل الخارجي للأشكال ، بل تقديم المدلول الداخلي العميق لهذه الأشكال، فاتجهت في أعمالها إلى استدعاء الخلاصات .
- رغبتها في تأكيد هويتها ويمنيتها في أعمالها من خلال استلهامها للعديد من الرموز المستجلبة من الموروث الشعبي وادخالها في فضاء العمل برؤية تجريدية واعية .
.......................................................
لازالت مسيرة التجريب والإبداع في تجربة الفنانة آمنه في حالة من التواصل والعمل الإبداعي في محترفها الفني . وهذا ما يؤكده إشتغالها حاليا وفق رؤية متجددة ومختلفة جمالياً وفكريا .. مقارنة بأعمالها السابقه . سنقدم لاحقا قراءة منفصله وخاصة بهذه السلسلة التي هي بصدد االإشتغال عليها في الوقت الحالي . . |