صنعاءنيوز / القصر الكبير : مصطفى منيغ -
أجَابَت : أنا دجاجَة متَى ذُبِحَت رقصت لكَ لتُخَفِّفَ عنها الألم لآخر نفس قبل رحيلها وإلى الأبد ، أنا حمامَة متَى نُزِعَ ريشها وجدتكَ راعياً كما أوصاكَ بالمحتاجين دين أحمد ، أنا امرأة مِن بين الأخريات أتعس متَى نَفَرَ منها القوم أنتَ قابِلها دون أحَد ، أنا إنسانة إلى حين قبل عرضها على حفرة مغطاة بلحد ، أنا جسد مسكونُ بسقمٍ لا دواء له المُصابَة به مِثلي لا تَرى إلا السواد ، فجئتُ قاذفة ما تبقَّى مِن عُمري على امتدادِ تحمُّلِكَ أيها القويُّ المتَجلِّد الأشَد ، عَشِقَكَ عقلي وتعلَّق بكَ قلبي لأيامٍ أو شهورٍ لا فرق بَعْدَهَا بُعْدٌ أبْعَد بِعاد ، لا مناص مِن تحمُّلِ ما يحفره شقاء ملفوفاً سيصبح في ذكرى تُنزِل الدموع على خَد ، طالما سأقبِّلُه لتنْحَثَ شفتاي على بشرتِهِ حنيناً لا يَتَبدَّد ، يَرْوِي لمن ستلمسه بَعْدِي هنا سَكَنَ حُبّ امرأة مع الأيام مِن غيرِ وجودها يتجدَّد ، أنا "سين" ابنة الغنيّ المسكين الذائع التجارة مِن تطوان إلى مدريد إلى الصين حرمَهُ من عافيتي الحَيّ الصَمَد ، ما نفعتْه ثروته كلها مِن إعادة بسمة الشّفَاءِ لثَغْرِي فيَسْعَد ، ولمَّا يَئِسَ خيَّرني بأيّ ما في الدنيا أرغب ولو كان ذاك الأسَد ، الذي أُعْجِبْتُ به أثناء رحلة صيد رافقته مِن خلالها لأدغال إفريقيا تابعة لأغرب بلَد ، فاخترتُ صرفَ ما تبقَّى مِن حَقِّ في الحياة معكَ فوقَ رأسِكَ تحتَ قدَمَيْكَ المهم مهما أَمْرُكَ لي امْتَد .
... مسكتني مِن يدي لنتوجَّه صوب سيارة فتح السائق بابها الخلفي لنركبها معاً وننطلق لغاية مدخل بيت شُيِّدَ على مسافة من تطوان ، مُحاطاً بالخضرة من كل جانب محروساً جيِّداً مُتمتِّعاً ، في وحدته تلك ، بوقارٍ وسمعة طيِّبة كما تبيَّن لي بعد ذلك ، فُسِحَ لنا العبور والابتسامات تزيِّن وجوه مستقبلينا مِن سيدات لابسات زَياً موحَّداً يغلب عليه الأبيض الشَّديد البياض ، ومتى وصلنا لقلب البيت التُّحفة بما احتواه من أفرشةٍ تُبهر البصر بتنوُّع ألوانها ، وكأنَّ المساحةَ يُظلِّلها قوس قُزح ، تقدمت والدة (سين) لتعانقني وكأنها تستقبل عزيزاً عليها غاب عنها مدة ، مرحبة بي بأسلوبٍ تخيَّلتُ معه أنني أحلم حُلماً وردياً يتمنى أي محروم مِن تلك المناظر الشاغلة الخواطر بِعِدَّةِ تَهيُّؤات مِن الصَّعب تصديقها للوهلة الأولى ، لتُجلسني بجوارها على أريكة تتأرجح من تلقائها كلما تحرَّك أحدنا أو مال لأخذِ قطعة حلوى المرتَّب منها أطباق تَرْوِي للجائع انعدام مائدة هارون الرشيد من معظمها شكلاً وطُعماً ، أو لتناول كوباً من أكواب تُظهِر ما بداخلها ينادي العطشان أن يتذوق بلسم إطفاء حِرمانٍ سَكَنَ محيطه مِن زمان لا يتذكر بدايته ، أريكة معدة لمن ابتسمت الدنيا لجلساتهم فوقها لتدبير واردات ملايين استثمروها للاستيلاء عما يتوفَّر لدى النُّكساء المُقبلين على شراء أي ملفوفة بغلافٍ يبرق مِن الخارج مهما تضمَّن داخله من مادة عادية ، أريكة تخاطب العياء أن يرحلَ ومتَى عاد ندم عن عدم ارتمائه (مثل الذي انسلخ عنه قهراً) في حضنها ليخسر خاصيته التي أضافت لعيائه عياء المتدمِّرين من ثقل حسّه . سألت عن (سين) فجاء الرَّد من والدتها بمثابة قشعريرة خفيفة شعرتُ بها تسري في مجمل جسدي تعمل على استيقاظي من سبات غيَّبَ عقلي للحظات متأثراً في انسياقه لعالم أُقحِمَ كصاحبه داخله دون معارضة ولو سطحية يبديها ، قد تكون صدمة الانبهار مَنَ تآمَرَت لتُقَيِّدَ أي مبادة للمقارنة بين الواقع المألوف عندي وما وَقَعَ ممَّن لم يكن مُتوقعاً وُقُوعه أصلاً وبسرعة لا يحصرها عَدَّاد أو يتحكَّم في اندفاعها منطق ، بل هو انقلاب مَكَّنَ الأسفل ليتربَّعَ الأعلَى منه بغتة دون عناء ، جاء رَدّ الوالدة أن ابنتها (سين) انصرفَت مِن برهة لتتفقَّد الترتيبات التي أمرت بإلحاقها داخل مقرّ إقامتكما بالبيت المُلحق لبيتنا هذا ، متمنية أن يناسب ذوقكَ وتشعر أنه مِن مقامك الطيب وشهامتكَ المَضْروب بها المَثل ، حَسَبَ ما بلَّغَني به زوجي والد (سين)، الذي اهتمَّ بالسؤال عنك لدرجة أنه اتصل بشقيقك السيد عبد السلام الضابط رئيس مصلحة الجمارك بمدينة مرتيل ، وأطلعه عن سيرتك منذ وُلِدْت وإلى الآن ، وأيضا التقرير المفصَّل المنقول عن ملفِّك الأمني المعزز بشهادة حسن السيرة والسلوك ، إضافة لما تعرفه عنك السلطة المحلية ومنها السيد الباشا ، أنك وإن تبدو عصبيّ السمات ميالاً تكون للتعبير عما يخطر على بالكَ يجانب قناعتكَ دون خوفٍ من أحد ، إلا أنك من محبي وطنك وعشاق تطوان المرموقين ، طيِّب القلب حكيم التصرُّف دبلوماسي في مناقشاتك ومنها السياسية . فكن على يقين يا عزيزي مصطفى (استرسلت في حديثها إلي بنبرة جدية ليكون المُصَرَّح به مفعم بأدب جم ، صادر عن امرأة قوية قادرة على إبلاغ ما قرَّرته على انفرادٍ مُسبقاً بأسلوب لطيف ميَّالٍ لاحترام المُخاطَب العاقل ، الراغب في ربح ثقتها بما يضمن كل عوامل السلامة وراحة البال إلى أن أوقفتها مُنهياً صمتي عازماً إسماع صوتي لأوضح موقفي عسى تسترد هذه الأم صواب تصرف يأخذ الأمور ثابتة على قواعد مفهومة خالية من الشكوك أو الخروج عن النص ، المضبوط بتفاهم واضح يوازي بين التخطيط وأرضية الانجاز لأقول لها :) سيدتي الفاضلة أكاد لا أصدِّق ما تعرَّضتُ له حتى الساعة ، ويكفيني ثقة في نفسي أنني أجد الكلمات المناسبة لأجعلك ومن معك تفهمين أنني إنسان لا يهمه ما يرى من مظاهر البذخ المفرط أو ما يسمع من كلام معسول ، بل ما يتمشى مع قناعاته المستمدة كقرارات من مبادئ مُكتسبة بعد نضال مرير خضته شخصيا ضد أصناف من خدام الشر ، الحاملين الباطل في مخيِّخِهم بمقابل يتوصلون به بعدما باعوا شرفهم لمن هم أبشع منهم جشعاً ، لا أحد يرفض النِّعمة لكنها مَنْ سقطت حَبْلاً تطوق عنقه لينساق كالخروف لمذبحة المجهول أنا رافض لها بتاتاً ، مهما كانت لن ينفعها عقلي ولن يرتاح لها مهما حاولت بالي ، إنني يا سيدتي من طينة غير طينتكم ، أنا من بيئة قانعة بمصيرها وتجتهد لتحسين موقعها في الحلال ، نتجنًّب المشبوه ولا نشارك الأكل مِن طَبَقٍ مُذَهَّبٍ أصحابه مهما ابدوا من سمات الكرم في تواضع مثالي ، لن ينزلوا لمستوانا إلأ في حالة احتياجهم لخدماتنا ، وحتى لا أزعجك بحديثي الجاف هذا ، أو ما يتلوه من جرأة لن تقدرين على استحمالها ، أرجوك أن تأذنين لي بالانصراف لحال سبيلي ، فأنا لا زلت طالباً في السنة النهائية للتعليم الثانوي ، من ورائي امتحان أحسبه باباً يُفْتَح أماني إن اجتزته بنجاح ، أو يُقْفَل في وجهي وأنا لن أستحمل مثل الفشل بل أتمنى أن يبتعد عن طريقي
... وإن كنا على نفس الأريكة العجيبة جالسان اقتربت مني أزيَدَ من قبل ومسكت بيدي طالبة أن أحملق في عينيها لأقرأ حسن نية مشاعرها نحوي ، وهي تصدقني القول بلغة مبطنة برجاء ينبعث من حنجرة تنفي عن نفسها اصطناع مخارج استثنائية فقط المخلوقة معها ، لتخاطبني وعيناها يكاد الدمع ينفجر منهما لولا ما تبذله المرأة من مجهود حتى لا يحجب البلل بريقهما النافذ لأحاسيس إنسان مثلي أبعده الحياء عن رفض الوضعية والصبر معها للنهاية . قالت : عزيزي مصطفى لستُ والدة (سين) فقط زوجة والدها ، أمها اسبانية افترق عنها زوجي وهي لا تزال في سنتها الأولى ، بالتأكيد اعتبرتها ولا زلتُ مثل ابنتي ، مِن مدَّة أصيبت بمرض آخر كلمة سمعناها من أطباء إسبان في مدريد ، معروفين في اختصاصهم ، أن مصيرها محسوم لم يبق من عمرها سوى قليل يعلمه خالقها سبحانه وتعالى ، ومنذ عودتنا للمغرب عامة ومدينة تطوان خاصة ووالها غارق في بحر من الدموع لأنه أحبها حباً لا أعتقد أن أباً أحبَّ مثله ابنته ، لقد أصبح رجلاً آخر يعيش حياته مرتبطا لحظة بلحة بحياة ابنته ملبياً كل طلباتها مهما كانت ، ذات مساء عادت فرحة سعيدة من الثانوية التي التحقت بها كأخر مرة لتُخبر المدينة بتوقفها النهائي عن الدراسة ، وهناك قابلتكً فحكت ما جرى على والهدا دون ترك أي جزئية وأخيراً طلبت منه أن يبحث عنك ويبارك ارتباطها بكَ لأخر لحظة في حياتها ، فأرجوك عزيزي مصطفى أن لا تحرم إنسانة بريئة من رفقتك تحت أي مسمى تريده . وهنا انحنت لتقبيل يدي وتغسلها بدموع لم أقدر على مسحها حتى مصتها سخونة بشرة ظهر كفي الأيمن لأرفع رأسها وابتسم في محياها ابتسامة ساهمت في إشعال شمعتي خديها فاسحة المجال لثغرها كي يتبسم بدوره على شكل المحقِّقة صاحبة الشأن المراد كله دفعة واحدة .(يتبع)
مصطفى منيغ
مدير مكتب المغرب لمنظمة الضمير العالمي لحقوق الإنسان في سيدني – أستراليا.
سفير السلام العالمي
[email protected]
https://mounirhcom.blogspot.com
212770222634