صنعاء نيوز/خير الدين الجابري - تعد المحكمة الجنائية الدولية أعلى محكمة جنائية في العالم، حيث تحاكم أمراء الحرب ورؤساء الدول على حد سواء. ولكن العديد من الدول القوية، بما في ذلك الولايات المتحدة، لا تعترف بسلطتها وترفض الانضمام إلى أعضائها.
وأعلنت الجنائية الدولية في لاهاي اليوم الخميس 21 نوفمبر 2024، أنها أصدرت مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه المقال يوآف غالانت، وذلك بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.
بناء على هذا القرار، سيتم إرسال مذكرات الاعتقال إلى الدول الأطراف في “نظام روما الأساسي” المؤسس للمحكمة الجنائية، وهي 124 دولة، والتي تكون ملزمة بالتعاون مع المحكمة لتنفيذ مذكرات الاعتقال. وسيفكّر نتنياهو وغالانت كثيراً قبل أن يقررا السفر إلى أي من هذه الدول الـ 124، خشية تعرضهما للاعتقال.
التقديرات لا تستبعد أن تدفع مثل هذه الأوامر دولاً عدة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل” وعزلها للضغط عليها لوقف الحرب. وقد تزداد عزلة دولة الاحتلال بعد صدور قرار محكمة له قوة القانون الدولي يقر بأن “إسرائيل” ارتكبت جرائم ضد الإنسانية في غزة.
إلا أن حكومة الاحتلال سبق وأشارت إلى أن “إسرائيل” كما الولايات المتحدة، ليست عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، وتجادل بأن هذه المحكمة لا تملك اختصاص النظر بأي قضية تتعلق بها، لكن المحكمة تؤكد انطباق ولاية المحكمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، حتى وإن كانت “إسرائيل” ترفض وجود هذه الولاية، ما يجعل المحكمة قادرة على محاكمة مسؤولين ارتكبوا جرائم في الأراضي الفلسطينية، كما تقول صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
لماذا لا تعترف بعض الدول بالمحكمة الجنائية الدولية وترفض الانضمام إليها؟
تأسست المحكمة سنة 2002 لمحاسبة الأشخاص على الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية بموجب نظام روما الأساسي، وهي معاهدة عام 1998. وتمول المحكمة الجنائية الدولية من مساهمات الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي، وفقاً لنظام الحصص الذي يعتمد على الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة ومدى التزامها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تتلقى المحكمة تبرعات طوعية من دول أو أفراد أو منظمات دولية، ولكن هذه التبرعات تخضع لضوابط صارمة للتأكد من استقلاليتها.
المحكمة لا تمتلك مصادر تمويل مستقلة؛ ولذلك يعتمد ميزانها المالي على دعم الدول الأعضاء. غياب بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة، يزيد من التكاليف على الدول الأعضاء الأخرى التي تتحمل الحصة الأكبر، مثل اليابان، ألمانيا، فرنسا، وبريطانيا.
الولايات المتحدة، التي كانت متورطة في حروب وصراعات كبرى منذ إنشاء المحكمة، امتنعت عن العضوية، سعياً لمنع استخدام المحكمة لمحاكمة الأمريكيين.
تضم المحكمة أكثر من 120 دولة، بما في ذلك العديد من الدول الأوروبية، وتلتزم الدول الأعضاء رسميًا بتنفيذ أوامر الاعتقال إذا وطأت أقدام شخص مطلوب أراضيها. لكن الدول القوية بما في ذلك الصين والهند وروسيا وإسرائيل، مثل الولايات المتحدة، ليست أعضاء.
وكانت الإدارات الرئاسية الأميركية من كلا الحزبين قد زعمت في الماضي أن المحكمة لا ينبغي أن تمارس سلطتها على المواطنين من البلدان التي ليست أعضاء في المحكمة.
وقال ديفيد شيفر، السفير الأميركي السابق والمفاوض الرئيسي في النظام الأساسي الذي أسس المحكمة لصحيفة “نيويورك تايمز”: “لا يزال هناك خوف من التحقيق الفعلي من جانب المحكمة بشأن ارتكاب جرائم فظيعة، نظراً للتوقعات العسكرية لكلا البلدين على المستوى الإقليمي أو العالمي، والخوف من الملاحقة القضائية لأسباب سياسية وليس لأسباب تستند إلى أدلة”.
وأضاف شيفر أن هناك ردوداً قوية على هذه المخاوف، بما في ذلك أن “أي زعيم دولة لا ينبغي له، كمسألة سياسة وقانون، أن يتمتع بالإفلات من العقاب على ارتكاب إبادة جماعية أو جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية عمداً”. مشيراً إلى إن هذه الحجة “تم متابعتها بإصرار (وبدعم أميركي) في أوكرانيا، التي ستصبح قريباً العضو رقم 125 في المحكمة الجنائية الدولية”.
كيف تعاملت أمريكا مع القرار الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت؟
سارعت إدارة بايدن إلى التنديد بقرار المحكمة الجنائية الدولية تجاه نتنياهو وغالانت، وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي للرئيس بايدن في بيان: “ترفض الولايات المتحدة بشكل أساسي قرار المحكمة بإصدار أوامر اعتقال بحق كبار المسؤولين الإسرائيليين”. وأضاف: “ما زلنا نشعر بقلق عميق إزاء اندفاع المدعي العام في السعي للحصول على أوامر اعتقال والأخطاء الإجرائية المزعجة التي أدت إلى هذا القرار”.
هدد الجمهوريون وإدارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الجنائية الدولية بـ”موقف حاسم”، وتعهد النائب مايك والتز -الذي اختاره الرئيس المنتخب دونالد ترامب مستشارًا للأمن القومي- بالرد على المحكمة ومن ورائها الأمم المتحدة في يناير المقبل.
وقال والتز في بيان إن إسرائيل تصرفت “بشكل قانوني” أثناء الحرب في غزة وأن الولايات المتحدة رفضت اتهامات المحكمة. كما حذر والتز المحكمة والأمم المتحدة من موقف إدارة ترامب تجاه الهيئات بمجرد توليها منصبها. وكتب على موقع X: “يمكنك أن تتوقع ردًا قويًا على التحيز المعادي للسامية من قبل المحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة في يناير”.
أدان السفير الأمريكي السابق والجمهوري المتطرف جون بولتون، الذي عمل مستشارا للأمن القومي لترامب خلال ولايته الأولى، المدعي العام للمحكمة، واتهمه بـ “المساواة الأخلاقية”. وقال: “تثبت هذه الاتهامات على وجه التحديد ما هو الخطأ في المحكمة الجنائية الدولية. المدعي العام المتعطش للدعاية يلاحق أولاً ضحايا الهجوم الإرهابي، قبل ملاحقة المجرمين الحقيقيين”، مضيفًا “آمل أن يكون هذا ناقوس موت المحكمة الجنائية الدولية في الولايات المتحدة”، على حد تعبيره.
هل تعاقب واشنطن المحكمة الجنائية الدولية؟
سبق وأن هدد الكونغرس الأمريكي الجنائية الدولية قبل توجيه الاتهامات لنتنياهو وغالانت، ثم عادت بشكل أقوى بعد توجيه الاتهام، حيث قال رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون إن المشرعين الأمريكيين يدرسون إمكانية فرض العقوبات حال إصدار أمر اعتقال بحق نتنياهو. وقال بلينكن إن الإدارة الأمريكية ستكون سعيدة بالعمل مع الكونغرس بشأن “رد مناسب” على تحرك الجنائية الدولية ضد “إسرائيل”.
رغم أن الولايات المتحدة ليست عضواً بالمحكمة الجنائية الدولية، فلقد أعربت مراراً عن استعدادها للتعاون معها إذا استهدف خصوم واشنطن، وفي الوقت ذاته رفضت أي تعاون معها بشأن جرائم الحرب التي يرتكبها جنود أمريكيون أو إسرائيليون، بل عاقبت مسؤولي هذه المحكمة التي ينظر لها كأعلى محكمة لمحاكمة الأفراد في العالم.
كما يرتبط الموقف الأمريكي من المحكمة عادة بعامل آخر، وهو هل الإدارة الأمريكية جمهورية أم ديمقراطية، حيث يناصب الجمهوريون عادة المحكمة العداء بشكل فج، بينما يحاول الديمقراطيون تدجينها.
في السنوات الأولى لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، قادت إدارة جورج دبليو بوش حملة ضد المحكمة. ومارست ضغوطاً على الحكومات في مختلف أنحاء العالم لحملها على إبرام اتفاقيات ثنائية تطالبها بعدم تسليم مواطني الولايات المتحدة إلى المحكمة الجنائية الدولية، حسب تقرير لمنظمة “هيومان رايتس واتش” الحقوقية الأمريكية.
ولكن عندما تعلقت قرارات المحكمة بدول معادية لأمريكا، فإن واشنطن كانت تترك المحكمة تؤدي عملها أو حتى تحفزها. وظهر ذلك عندما لم تستخدم واشنطن عام 2005، حق النقض ضد طلب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الموجه إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في الجرائم المرتكبة في دارفور بالسودان في عام 2005.
وفي عام 2005، صوتت واشنطن لصالح إحالة مجلس الأمن الدولي الوضع في ليبيا إلى المحكمة في عام 2011. وكان الدور الأمريكي حاسماً في نقل إلى بوسكو نتاغاندا، زعيم المتمردين الكونغوليين في عام 2012 ودومينيك أونجوين، قائد جيش الرب للمقاومة الأوغندي في عام 2015 إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وفي عام 2013، وسع الكونغرس الأمريكي برنامجه الحالي لمكافآت جرائم الحرب ليشمل تقديم مكافآت للأشخاص الذين يقدمون معلومات لتسهيل اعتقال الأفراد الأجانب المطلوبين من قبل أي محكمة دولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية.
وسبق أن هددت واشنطن بسلاح العقوبات ضد المحكمة إذا مسّ جنودها أو مسؤوليها أو حتى حلفاءها. وفي هذا الإطار سبق أن فرضت واشنطن في عهد ترامب في يونيو/حزيران 2020 عقوبات على المدعية العامة السابقة فاتو بنسودة وموظفين آخرين بالمحكمة، شملت تجميد أصولهم وحظر السفر عليهم، بسبب التحقيقات في جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات التحالف الغربي في أفغانستان وقوات الاحتلال الإسرائيلية في فلسطين.
وقبل ذلك توعد وزير الخارجية الأمريكي جورج بومبيو بـ”عواقب وخيمة” إذا واصلت المحكمة الجنائية الدولية “مسارها الحالي”، أي إذا مضت المحكمة قدماً في التحقيق في القضية الفلسطينية، وذلك في 15 مايو/أيار 2020.
ورُفعت هذه العقوبات في أبريل/نيسان 2021 في علامة على تحسن العلاقة بين واشنطن والجنائية الدولية بسبب غزو روسيا لأوكرانيا وإصدار مذكرة اعتقال بحق بوتين. |