صنعاء نيوز - د. عبدالوهاب الروحاني

الإثنين, 13-يناير-2025
صنعاء نيوز/د. عبدالوهاب الروحاني -


(3/3)

تأثر جارالله عمر بأحداث ما بعد انتخابات 93م، وتأثر بالاغتيالات التي طالت بعض قيادات الحزب، لكنه لم يتأثر بانفعال علي سالم البيض واعتكافه في عدن، فرفض الانفصال وقاوم فرض استمرار الوحدة بخيار الحرب.. حاول مع قلة من الرفاق معالجة المشكلة بالحفاظ على الوحدة بالحوار، لكنه الموقف الذي تسبب بخلاف عميق مع بعض رفاقه فغادر الى القاهرة، ليعود بعد عامين الى صنعاء (1996)، بعد ضمانات قدمها له الرئيس صالح شخصيا، فكانت عودته مقدمة لعودة الكثير من القيادات الاشتراكية التي فرت بعد الحرب، واستطاع جارالله عمر مع بعض رفاقه أمثال القيادي الكبير علي صالح عباد (مقبل) إعادة ترتيب صفوف الحزب الذي انهكته مترتبات وآثار حرب صيف 94م.

ذات مساء وبعد عودته من القاهرة وجدته يسير راجلا في ميدان السبعين.. كانت لي معه وقفة عابرة، وكانت صنعاء في عينيه مختلفة.. مكسوة بالحزن بأثر الحرب التي خلقت وضعا جديدا ذهبت معه المعارصة بترتيب منه الى تشكيل اطار فعلي للمعارضة.

فكرة المشترك:
لم تكن عودة جارالله بمثابة إعادة إحياء للاشتراكي فقط، وإنما كانت إعادة احياء للعملية السياسية برمتها، والسير باتجاه لملمة صفوف احزاب المعارضة، التي كان بعضها على افتراق تام مع الاشتراكي، وبصورة خاصة حزب الإصلاح (أكبر أحزاب المعارضة)، الذي يتقاطع معه فكرا وعقيدة وسياسة، وشارك بقوة في مواجهته على كل المستويات منذ ما قبل قيام دولة الوحدة (1990) وحتى حرب 94م، التي كان الإصلاح رأس حربة فيها.

استوعب جارالله عمر المتغيرات التي افرزتها الحرب، ووجد ان الحزب الاشتراكي بعد خروجه من السلطة أصبح معنيا بلعب دور حيوي في المعارضة، فكانت مهمته التالية بعد إعادة ترتيب صفوفه هي تجسير الفجوة الكبيرة بين حزبه (الاشتراكي) وحزب التجمع اليمني للإصلاح، واستطاع جارالله كمحاور مرن وبارع أن يقود حوارا منفتحا ليس فقط مع الإصلاح، وإنما مع كل أحزاب المعارضة؛ فجمع المتناقضات على طاولة واحدة، بدءاً بـ"مجلس التنسيق" وانتهاء بفكرة تكتل "اللقاء المشترك"( 6 فبراير 2003)، وأصبح الإطار السياسي المعارض، الذي جمع الخصوم من اقصى اليسار - الماركسي، الى اقصى اليمين - الاسلامي .

وبفكرة جارالله عمر استطاع "اللقاء المشترك" أن يشكل معارضة صلبة وقوية في مواجهة الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) ووقف ضده في الانتخابات الرئاسية - 2006 بمرشح واحد للمعارضة، فكانت خطوة جريئة اقلقت الرئيس رغم فوزه بنسبة 77.2% وبمقابل 21.8% لمرشح "المشترك" فيصل بن شملان، الذي أعلن قبوله بنتائجها في 23 سبتمبر 2006م.

تميز جارالله بقدرة عالية على تقييم ومراجعة المواقف السياسية؛ فقد مر بمراحل نضالية مختلفة، لم يهتم بالمناصب بقدر اهتمامه ببناء الدولة ومنظومتها القانونية والادارية، وهو من أوائل قيادات الاشتراكي، التي امتلكت زمام المبادرة في نقد تجربة الحزب في الجنوب بعد أحداث 86، وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية العالمية، فقدم وثيقة الاصلاح السياسي والاقتصادي في 89، وهي الوثيقة التي سمحت بفتح حوار واسع مع الأحزاب الوطنية، واقرت التعددية السياسية وحرية الراي والتفكير، وهي ذات المفاهيم التي سحبت نفسها على اتفاقية دولة الوحدة 1990، التي بنيت على قاعدة الديمقراطية بمفهوم التعددية السياسية وحرية الراي والتفكير.

في بغداد:
ترافقت مع جارالله عمر ضمن وفد سافر الى بغداد في العام 2001م للمشاركة في المؤتمر القومي العربي.. كانت طائرة اليمنية محملة بوفد رسمي وحزبي وشعبي كبير برئاسة عبدالقادر باجمال (نائب رئيس الوزراء) ، ويحيى الراعي (نائب رئيس مجلس النواب)، حمل الوفد رسالة تضامن مع العراق والمساهمة في كسر الحصار الغربي، الذي كان مضروبا عليه بنتيجة غزوه للكويت 1990..

كان الحصار قد انهك العراق، وكانت روائح "كوبونات" النفط تزدادوانتشارا وهي توزع "هدايا" على قيادات سياسية وتحارية في اكثر من 57 دولة حول العالم منها 17 دولة عربية، تورطت فيها شخصيات سياسية وتجارية يمنية كبيرة نشرت اسماؤها حينها على نطاق واسع

سلم الوفد رسالة من الرئيس صالح لصدام مفادها "ان الترتيبات الامريكية لغزو بغداد جارية، وأن الانحناء للعاصفة اصبح ضرورة تقتضيها حجم التحديات"؛ اتذكر بعدها بوقت قصير استقبل الرئيس صالح المبعوث الخاص للرئيس صدام وزير الثقافة حامد يوسف حمادي، الذي رافقته حينها بكوني وزيرا للثقافة، وقال له بالحرف: " قل للرئيس صدام ان المخطط الأمريكي - الغربي هو ضرب العراق أولا، ثم التحرك لضرب سوريا، ولبنان، والسودان، واليمن، ورأيي أن بيده (بيد الرئيس صدام) احباط المخطط"..

في بغداد حضرت مع جارالله ( الاشتراكي العنيد الودود) أمسية نقاشية رتبها فرع اتحاد الطلاب اليمنيين في بغداد، شاركت فيها شخصيات سياسية وحزبية، كان منطق جارالله هو المنطق الجامع، الذي لم يختلف معه أحد.. وبخاصة دعوته لبناء أرضية سياسية سليمة للمعارضة، تقبل بالاختلاف، والحوار، من أجل الحفاظ على الوحدة وبناء الدولة المدنية.

لم يكن جارالله سهلا، كان صلبا عنيدا ومرنا في آن، ولم يكن من السهل احتوائه، ولذلك استعصى على الرئيس صالح اغرائه بالمال أو المنصب؛ فجارالله لم يكن كغيره من القيادات الاشتراكية او المعارضة الذين عرفت منهم الكثير.. كان مختلفا منهجا وسلوكا.. أكثر الاشتراكيين التزاما وتمسكا بقيم ومبادئ الوطن.

سياسي مثقف.. شغل مناصب تنظيمية وسياسية كثيره في الحزب والدولة، لكنه لم يكن مهتما بالسلطة كغيره من "الرفاق" وكان في متناوله أن يشغل أهم المواقع فيها؛ اكتفى بعد قيام دولة الوحدة بعضوية المجلس الاستشاري ثم وزيرا للثقافة، فزعيما سياسيا يقود حركة المعارضة اليمنية حتى رحيله عن 60 عاما من عمره، وكان الرحيل المفجع الذي هز اليمن في 28 ديسمبر 2002 على يد قاتل متطرف أطلق عليه رصاصات الموت بدعوى "كفره وعلمانيته"..!!

كان جارالله عمر رقما مهما في نشاط الحركة الوطنية، وفي حياة ونضال الحزب الاشتراكي اليمني، الامر الذي تحول الحزب بعد رحيله الى رقم ضعيف، بل وهامشي في حلقة استقطاب جديدة وواسعة (داخلية وخارجية) مزقت الأحزاب والقوى الوطنية، ودفعت أبرز قادتها الى التخلي عن القيم والمبادئ التي نشأت وتربت عليها.. وتركت وراءها تاريخا طويلا من النضال، وهرولت بالاتجاه النقيض، ليستقر أبرز قادتها في أحضان إمارات النفط ومن كانوا يطلقون عليهم بـ"الرجعية العربية"؛ وبمغادرة جارالله عمر وموته تلاشى دور الاشتراكي، وانحسر الرقم الصعب في المعادلة الوطنية، حيث المصالح الضيقة ابتلعت قياداته في ظل التمزق والتهافت على المال والوظائف الصغيرة، ومات الاشتراكي ومات معه اللقاء المشترك المعارض.
د. عبدالوهاب الروحاني
https://www.facebook.com/share/19m88xQCQK/?mibextid=oFDknk
تمت طباعة الخبر في: الثلاثاء, 14-يناير-2025 الساعة: 10:26 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-100884.htm