صنعاء نيوز/ بقلم: الدكتور اسماعيل الجنابي -
لم يشهد العراق عبر تاريخه، وحتى تأسيس الدولة الحديثة، حكمًا قائمًا على أساس طائفي أو مذهبي ، الا بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 وما تلاه من نفوذ إقليمي، أحدث شرخًا عميقًا في النسيج المجتمعي العراقي ، من خلال عمل الاحتلال بشكل مباشر وغير مباشر على إذكاء خطاب المظلومية وتكريس الثقافة الطائفية المقيتة في البلاد.
لقد تجلت التداعيات الكارثية لهذا التحول بشكل واضح وجلي في تفجير المرقدين العسكريين في سامراء الذي كان يقف وراءه ويخطط لتنفيذه الحرس الثوري الإيراني ، ايذاناَ بدق إسفين الاحتراب الطائفي عبر أدواته المتعددة من السياسيين الموالين له والتنظيمات الإرهابية التي تلقت تدريباتها في معسكرات إيرانية وسورية وبتمويل إيراني سخي ، سواء كان تنظيم “داعش” أو “القاعدة”، اللذان تمتعا قادتهما بالنفوذ المالي والسلطوي لاجل شيطنة المكون السني وتضخيم صورة إيران كمنقذ وحامٍ للمكون الشيعي.
هذا المناخ المسموم سمح لإيران الاستفراد بالسيطرة على مقدرات الشعب العراقي ، خاصة بعد أن سلمهم الرئيس أوباما العراق على طبق من ذهب ونتيجة لذلك ، أصبحت المناطق السنية منزوعة السلاح بشكل ممنهج ، بينما المناطق الشيعية متخمة بالسلاح ، ما أخل بالتوازن المذهبي في المؤسسة العسكرية والأمنية على المستويين الفردي والقيادي ، وهو ما يتعارض صراحة مع نصوص الدستور العراقي والاتفاقات التي سبقت الاحتلال.
لقد عانى المكون السني في العراق من حالة انكسار حقيقية بعد موجة العنف الطائفي وما تلاها من أحداث مأساوية بعد عام 2014 ، تجلى ذلك في مظاهر الذل والمهانة والاعتداءات المستمرة، بالإضافة إلى إحكام القبضة الأمنية على مناطقهم الجغرافية والسيطرة على مقدراتهم الاقتصادية وفرض ممثلين سياسيين عليهم ، بل وصل الأمر إلى تدخل فصائل مسلحة وشخصيات سياسية مدعومة خارجيًا في الانتخابات بالمحافظات السنية، ليصبح قرار أبناء السنة مرتهنًا بإرادة طهران وحرسها الثوري وسفيرها في بغداد ، حتى بلغ تجاوز التدخل الإيراني الى تسمية الحكومات المحلية ومدراء الدوائر، ليصل إلى سيطرة الميليشيات الولائية بشكل كامل على القرار الأمني في تلك المناطق.
ارتدادات التغيير في سوريا وتأثيرها على سنة العراق
تقول الحكمة أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه، وهذا ما بدأ يلوح في الأفق مع سقوط نظام بشار الأسد وانكفاء النفوذ الإيراني الذي سعى لجعل المحافظات السنية في العراق جسر عبور نحو هلاله المكتمل عبر سوريا. والدليل على هذا الانكفاء يظهر في الحديث العلني الذي يروج له حلفاء طهران في العراق ، سواء على المستوى السياسي أو العسكري ، حول إقامة إقليم شيعي أو دولة شيعية في جنوب العراق ، بعد ان كان هذا المطلب خطًا أحمر لإيران في ظل سعيها للسيطرة الكاملة على العراق، وليس مجرد أجزاء منه.
إن ما قامت به إيران عبر حكومة المالكي والتنسيق المباشر مع تنظيم “داعش” من حملات إبادة وتدمير للمحافظات السنية يؤكد حقيقة هذه الأهداف ، ولهذا جرى تزييف الحقائق عبر ترويج مسرحية مفادها أن تنظيم “داعش” سيصل إلى أعتاب بغداد ويهدد المراقد الدينية ويسيطر على العراق، وقد دفعت هذه المسرحية إلى إصدار فتوى “الجهاد الكفائي” التي توجت فيما بعد بتشكيل حرس ثوري عراقي على غرار نظيره الإيراني ، كما هو الحال في لبنان واليمن ، وقد انطلت هذه المسرحية على قطاعات واسعة من الجمهور، سواء كانوا مؤيدين أيديولوجيًا أو غير مطلعين ، وقد اكتمل هذا المخطط بإطلاق سراح الإرهابيين من السجون العراقية، إيذانًا ببدء مرحلة القتل والتدمير والتهجير والاختفاء القسري لأبناء المحافظات السنية.
السقوط المدوي للنظام الطائفي
في ظل المعطيات والأحداث المتسارعة على الساحتين الدولية والإقليمية، والوضع الداخلي العراقي المتردي، وانهيار ما يُعرف بـ “محور المقاومة” وتقطع أذرع إيران الخارجية، والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية لإيران في حال فشل مفاوضات الملف النووي، بالإضافة إلى التغيرات المحتملة لنظام الحكم في سوريا ذات الأغلبية السنية، تخشى إيران ووكلاؤها وحلفاؤها في الإطار التنسيقي بالعراق من عودة الحكم إلى المكون السني وان هذا الخوف سيخلق أجواء من الريبة والمصير المجهول للنظام السياسي القائم في العراق.
يزيد من هذا القلق إقرار الكونغرس الأمريكي بتحرير العراق من الهيمنة الإيرانية ونزع سلاح الميليشيات الولائية، والاستحقاق الانتخابي المزمع إجراؤه نهاية هذا العام وسط مقاطعة من أكبر قاعدة جماهيرية متمثلة بزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي وصف أقطاب العملية السياسية بالفاسدين الذين لا يمكن الوثوق بهم أو التعامل معهم ، ما انعكس هذا الوضع إيجابًا على المناطق السنية التي كانت ترزح تحت قبضة السلاح الولائي، والتي ضاقت ذرعًا بسطوة النظام الطائفي وتطمح إلى التحرر والمشاركة في قرار الحكم بما ينسجم مع ثوابت العقد الوطني ، ولهذا انصب غضب الإطار التنسيقي على الرئيس السوري احمد حسين الشرع واتهامه بارتكاب مجازر في العراق والانتماء لتنظيم “داعش”، خوفًا من انعكاس التغيير في سوريا على الجمهور السني في العراق.
لقد اكتوى الشعبين الشقيقين العراقي والسوري بنار الميليشيات الإيرانية والعراقية، وكذلك ميليشيات حزب الله بشقيها اللبناني والعراقي والجدير بالذكر أنه لم تُسجل أي حالة لميليشيا سنية عراقية حملت السلاح للقتال بالنيابة داخل العراق أو خارجه ، بل إن الجمهور السني في كلا البلدين كان ضحية للمؤامرة الإيرانية التي مولت هذه الميليشيات التي قاتلت في سوريا بأموال العراقيين تحت ذريعة حماية مرقد السيدة زينب (عليها السلام)، بينما كانت في الحقيقة تجهض ثورة الشعب السوري السلمية ، ولهذا لم يعد لهذا النظام السياسي القائم في العراق أي شرعية لدى الشعب الذي شُيد بنيانه على العنف والإقصاء الطائفي واختطاف قراره من قبل النظام الإيراني، وأصبحت العلامة الفارقة فيه هي “الفساد” الذي أضحى ثقافة متجذرة من أعلى الهرم حتى اسفله.
نفحة بين الأمس القريب والحاضر المريب
عندما اسقط التحالف الدولي النظام السياسي في العراق كان اغلب المؤيدين والمتعاطفين يرقصون فرحاً لهذا التغيير الذي يعتقدون انه سينعكس على الشعب العراقي بالخير والسعادة والرخاء والعيش الرغيد وطي صفحة الماضي ذات الحزب الواحد ، في حين ذهب اصحاب العقل الراجح بالقول ان تبعات هذا التغيير سوف تحرق الاخضر واليابس وتؤسس الى نظام هجين لا اصل له وسيهد البنيان المرصوص ويسيد الجهلاء على العقلاء ويعم الفساد في ارجاء البلاد ويسود الظلم وتنتشر الرذيلة و يغيب العدل والقانون وفي النهاية سيلعن العراقيون هذا التغيير ومن اتى به ومن سار معه او ايده وبعد مرور عقدين ونيف من الزمان رجحت كفة الطرف الثاني التي تنبأت بالمستقبل وبدء الطرف الاول يلعن شخوص العملية السياسية العاقرة الذين حولوا العراق الى بقرة حلوب لهم ولاسيادهم من خلف الحدود وبدل ان يلعنوا حقبة الماضي باتوا يترحمون عليها ربما ليس حباً بل نكالاً بالسياسيين الجدد الذين اسقطوا البلاد في وحل الطائفية وسبوا العباد.
الخاتمة:
ان سقوط هذا الشهاب وتردي ذلك النجم لا يعني افول الشمس الذي سيبقى شعاعها ساطعاً وسيبقى مركب الجبارين سائراً ما دامت الجذوة وضوئها دليلهم.
|