صنعاء نيوز/ -
بقلم: أ. د. عبد المنعم همت/ السودان
مقدّمة:
في قصتها "الفزّاعة" من المجموعة القصصيّة (قافلة العطش)، تنسج الكاتبة سناء شعلان مشهدًا حكائيًا بسيطًا في ظاهره، لكنه مشحون بتجليات شعورية عميقة، تنبض في قلب كائن مصنوع من الخشب والقشّ. الفزّاعة التي وُجدت لتفزع العصافير، تتجاوز وظيفتها المادية لتصبح شاهدة على حياة امرأة تعيش في عزلة، وتغني للحقل أكثر مما تغنيه للناس. صنعَتها بيدَيها، خاطت لها ثوبًا من ملبسها القديم، وأسندت ظهرها إليها في لحظات تعبها، دون أن تعلم أنها، بذلك، تودع في قلبها الخشبيّ شيئًا من الحياة، ومن الحبّ أيضاً. في سكونه الطويل وسط حقل الفراولة، يتعلّم هذا الكائن أن يُحبّ بصمت، وأن يتابع حبيبته من بعيد، دون اسم، دون صوت، ودون وعد. تتراكم مشاعر الصمت داخله حتى لحظة مفصلية، يرى فيها هذه المرأة منهارة، مكسورة، تبكي بعد رحيل زائر كانت تنتظره. حينها فقط، يحدث التحوّل: يترجّل عن صليبه الخشبي، ويخطو إلى عالمها، لا بطلب، ولا بكلمة، بل بالفعل الصامت الذي يشبه الحبّ حين لا يعود قادرًا على الاكتفاء بالمراقبة. هذه القصة، بما تحمله من تكثيف لغويّ رصين، وتصعيد شعوريّ هادئ، لا تكتفي بأن تحكي مشاعر غير مألوفة، بل تُعيد تشكيل مفهوم الكائن والمكان والوظيفة، وتعيد الاعتبار لما هو صامت، مهمَّش، غير منظور، كما تمنح القارئ تجربة تأملية دقيقة في الحضور الإنسانيّ حين يتكشّف في أكثر أشكاله هشاشة وصدقًا. في هذه القراءة، نحاول أن نغوص في أبعاد هذا النص من خلال خمسة محاور: البنية الرمزية للفزّاعة، صورة المرأة الغائبة الحاضرة، اللغة الشعرية كأداة تشكيل، التصعيد الداخلي الهادئ، وأخيرًا، الخاتمة المفتوحة بوصفها مساحة تأويل لا نهاية لها.
الفزّاعة كرمز وجودي بين الجماد والحياة:
تنبض شخصية الفزّاعة في قصة سناء شعلان بوعي خفيّ لا يحتاج إلى عضلات أو دماء ليعبّر عن حضوره. منذ اللحظة الأولى، تُقدّم الفزّاعة بوصفها كائنًا يراقب العالم بصمت، يتربّى في ظلال الصوت، ويتشكّل وجدانه من حركات امرأة تمشي حافية في الحقل، وتغني كأن الأرض تصغي لأنينها وحدها. هذا الكائن المصنوع من الخشب والقشّ، يقف في قلب الحقل كحارس ساكن، تتنازعه مهمته في طرد الطيور، ورغبته في أن يبقى قريبًا من منبت صوته الأوّل. لم يُمنح اسماً، ولا وظيفة نبيلة، ومع ذلك يزدهر في داخله إحساس شفيف بالانتماء، كما لو أن العزلة صنعت منه قلبًا من إصغاء، لا من نبض. الفزّاعة لا تتكلّم، ولا تتحرّك، ولا تخرج عن دورها المرسوم. لكنها تُظهر تفاعلاً داخليًا يكشف عن شعور إنساني رقيق، يتسلّل من بين فواصل الخشب وعقدات القشّ. كلّ ما في العالم الخارجي يُختصر عنده في امرأة واحدة، في صوتها، في رائحتها، في الثوب الذي خاطته له ذات مساء. وجوده بأكمله يدور حول تلك اللحظات العابرة التي تمنحه، دون وعي منها، ما يشبه الخلود العاطفي. الصمت في هذه الشخصية ليس عجزًا، وإنما هوامش عميقة تفيض بالحياة. كلّ شيء يتحرّك من حوله، وهو وحده يبقى مصلوبًا، يذوب في التفاصيل الصغيرة، في وقع الخطى، في خلخال يرنّ، في شهقة تعب، وفي ضحكة حزينة. هذا التعلّق الهادئ لا يحتاج إلى لغة، ولا يسعى إلى تصعيد دراميّ، إنما ينمو على مهل، كما تنمو الأشياء التي لا تطلب أن تُرى. قلب الفزّاعة مصنوع من القشّ، لكنه يخفق بما لا تخفق به القلوب الحقيقية أحيانًا. يتورّط في الحبّ دون أن يطمح إلى المقابل. يشعر بالغيرة دون أن يملك حقّ السؤال. يتحرّق شوقًا، ويظلّ واقفًا في مكانه، كما لو أن الزمن لا يعنيه، طالما أن عينيه قادرتان على مراقبة تلك المرأة وهي تعيش. في شخصية الفزّاعة، ترسم الكاتبة ملامح كائن لا يعيش حياة مكتملة، لكنه لا يتخلّى عن شعوره. يقف وحيدًا، لا يعرف سوى نافذتين تطلان على كوخٍ قديم، وسياج يحدّ الحقل من الجهات الأربع. ورغم هذا الضيق، تتّسع في داخله عوالم من الحنين والانفعال والمراقبة الصامتة. كلّ لحظة معها تحرّك فيه شيئًا، وكلّ يوم يمرّ يزيده ارتباطًا بمن لا تعرف أنه يحبّها. هنا تتجلّى المفارقة التي يقوم عليها النص. الفزّاعة لا تفعل شيئًا، لكنها تمتلئ بما لا يُقال. تشهد الحياة تمرّ من حولها، وتكتفي بالحبّ من بعيد. لا رغبة في التغيير، ولا محاولة للخلاص. كلّ ما فيها خُلق ليرى، ويتأثر، ويبقى واقفًا. وهذا ما يجعلها رمزًا دقيقًا للإنسان المهمّش، ذلك الذي لا يطلب شيئًا سوى أن يُمنح حقّ الشعور، ولو دون اعتراف.
الأنثى الغائبة الحاضرة – بين الرمز والدور:
المرأة في هذا النص تظهر ككائن يتسلل من وراء المشهد، ويسيطر عليه بحضوره الطبيعيّ دون أن يحتاج إلى شرح أو توجيه. هي لا تتكلّم كثيرًا، ولا نعرف عنها شيئًا يقينيًّا، لكنها تسكن النص كلّه، تملأه بطيفها، بأغنيتها، بحزنها الذي يقطر في صمت البيت، وببساطة حضورها وهي تمشي في الحقل حافيةً، كأن الأرض تناديها من تحت قدميها. لا اسم لها، ولا تاريخ واضح. ومع ذلك، تتجذّر في القصة كقوّة فاعلة، تنشئ الحياة من لا شيء، تخيط فزّاعة من خشب وقشّ وتزرع فيها روحًا دون أن تدري. تُعطي ولا تنتظر المقابل. تُدندن لنفسها، وتتحدث أحيانًا مع من لا يردّ. تُعدّ الطعام، وتزرع الفراولة، وتغنّي، كأنها تمارس فعل العيش كنوع من المقاومة الهادئة. هذه الملامح لا تصنع منها بطلة نموذجية، إنما تمنحها نوعًا نادرًا من القوّة الصامتة التي لا تحتاج إلى مشهد دراميّ لتبرّر وجودها. كلّ ما حولها يوحي بالعزلة، الكوخ القديم، الحقل المحاط بسياج، الغياب التام لأيّ شخص آخر. حتى الصور المحفوظة في الإطارات لا تقول شيئًا عن أصحابها، كأن الماضي ذاته قرر أن يبقى مطويًّا في هذا المكان. ومن هنا تنشأ دلالة المرأة في النص: هي الكائن الوحيد الذي يتحرك وسط كلّ هذا الصمت، تُعطي القشّ حياة، وتمنح الفزّاعة ثوبًا فيه رائحتها، وتُغنّي للفراغ دون أن تنتظر التصفيق. المرأة أيضًا تُمثّل صراعًا خفيًا بين القوة والخذلان. حين تظهر مع ضيفها الوسيم، تلمع بهجتها، تهيّئ المكان، تلبس فستانًا قانيًا، وتُمسك بآلة البيانو كما يُمسك أحدهم بحلم قديم. إلا أن كلّ هذا الجمال ينكسر فجأة، ويتركها باكية على الأريكة، حيث تسقط الأنوثة في دائرة الخيبة. هذه اللحظة لا تقلّ أثرًا عن لحظة حبّ الفزّاعة، فكلاهما انكشاف للحاجة إلى الاحتواء، إلى يد تمتدّ لا لتأخذ، بل لتفهم. وجودها بهذا الشكل يمنح القصة بعدًا رمزيًا واسعًا. يمكن أن تُقرأ المرأة كرمز للحياة نفسها، حياة لا يمكن توقّعها، تُعطي دون مقدّمات، وتسحب بساطها فجأة دون اعتذار. يمكن أن تكون الوطن، الحبيبة، الأم، أو حتى الحلم الذي نجاوره بصمت دون أن نجرؤ على الحديث معه. غير أنها في كلّ حالاتها تظلّ نقطة الجاذبية التي تدور حولها حركة السرد، من أول سكون الفزّاعة إلى آخر خطوة خطاها خارج مكانه. في هذه المرأة تختزن الكاتبة صورةً أنثوية ناعمة، غير مألوفة في القصص التقليدية. فهي لا تصرخ، ولا تُعلن مشكلتها، لكنها تُظهر من خلال أفعالها اليومية ما يجعل القارئ يشعر بوجعها دون أن تشرحه. لا يُقال لنا لماذا تعيش وحدها، ولا ما الذي جعلها تبكي بهذه المرارة، لكنّ كلّ شيء فيها يوحي بأنها تحمل عبئًا أقدم من الحكاية نفسها. إنها الحضور الذي لا يحتاج إلى إعلان، القوّة التي تنبع من فعل الرعاية البسيط، والخذلان الذي يختبئ في الموسيقى قبل أن يظهر في العيون. امرأة لا نعرف لها اسمًا، لكنها صارت عنوانًا للقصة كلّها.
اللغة كأداة تشكيل حسّي ورمزي:
حين نقترب من عالم "الفزّاعة"، لا نقرأ نصًا يُسرد بترتيب تقريري، بل ننزلق في نسيج لغويّ مشغول بعناية، حيث تُصبح الكلمة شظيّة نور، والصورة تجسيدًا يتجاوز الوظيفة البلاغية إلى المعنى المعيوش. سناء شعلان لا تكتب وحسب، وإنما تُحيك، تخيط جملاً كما خيط الثوب على جسد الفزّاعة، وتترك بين السطور نَفَسًا يُشمّ أكثر مما يُقرأ. اللغة في هذا النص ليست مجرّد وعاء لحكاية، وإنما هي الخيط الخفي الذي يربط القلب بالعين، والجسد بالحقل، والمرأة بالصمت الممتد في الفزّاعة. كلّ شيء يُقال كما لو أنّه يُهمَس، دون أن ينقصه الوضوح. الجمل تنساب بخفة ورقّتها، تحمل الإحساس على ظهرها، وتدعوه لأن يستقرّ في القارئ لا في الصفحة. التفاصيل الصغيرة تُروى كما لو كانت أسرارًا. لا يكتفي السرد بوصف الفزّاعة مثلاً، بل يمنح القارئ شعورًا بملمسه، بعيونه الزرّية، بصوته الذي لم يُخلق، وبرغبة لاذعة في أن يكون حيًّا. كلّ مفردة تُحسَب بدقة، لتصنع صورة تنبض رغم سكونها. حين يُقال إن فم الفزّاعة "مخاطٌ على عجل"، لا يكون الهدف إضحاك القارئ أو إظهار غرابة الصورة، بل ترسيخ تلك الهشاشة التي تتربّى في جسد أُقيم لا ليُسمَع، بل ليُخيف. يستند النص إلى إيقاع ناعم، لا يُفرط في الموسيقى، لكنه لا يتخلّى عنها. في الخلفية دائمًا ظلّ غناء، دندنة، وقع خطوات، خلخال، أو شهقة. هذا الحضور الصوتي لا يمنح القصة زخرفًا، بل يصنع عالمًا سمعيًا موازيًا لعالمها البصري، كأن الفزّاعة لا ترى بقدر ما تُصغي. اللغة لا تصف الغناء، بل تنقله إلينا كارتجافة خفية، تتسرّب من الحروف إلى أعماق الشعور. العلاقة بين الفعل والوصف محكومة بإيقاع نفسيّ رفيع. حين تتقدّم المرأة نحو الفزّاعة، لا تُوصف خطواتها بكثافة، لكنّ النص يُشير إلى اللهاث، إلى احمرار الوجنتين، إلى ثقل الأكياس. من خلال هذه العلامات الجانبية، يخلق النص شريطًا داخليًّا من الترقّب والمشاركة، دون أن يفرض علينا انفعالًا مباشِرًا. في لحظات الحبّ والانكسار، لا تلجأ الكاتبة إلى مفردات ضخمة أو مشاعر مصنوعة. تُراهن على الاقتصاد اللغويّ، وعلى ما يمكن أن تقوله الأشياء من تلقاء نفسها. صمت الفزّاعة لا يُوصف بالأسى، بل يُترك يُفهم وحده. ودموع المرأة لا تفيض في استعارات، بل تظهر خفيفة، لكنها جارحة. هذا الانضباط في اللغة لا يُضعف التعبير، وإنما يمنحه نبلًا عاطفيًّا نادرًا. حتى التحوّل الأخير في القصة، حين يُنزِل الفزّاعة جسده عن السارية، لا يأتي في مشهد بطولي، وإنما يُقدَّم بهدوء مؤلم، كمن يتسلّل خارج قدره دون ضوء. الفعل مكتوم، لا يصاحبه انتصار ولا ندم. اللغة هنا تحتفي بالإنسان الضعيف الذي قرّر أن يتحرّك فقط لأن قلبه لم يعد يحتمل البقاء. كل ذلك يجعل من "الفزّاعة" نصًا لا يقوم على السرد فقط، بل يُبنى من الداخل باللغة، كما تُبنى الأرواح في صمتها الطويل.
التصعيد الدرامي والتحوّل الداخلي:
كل حكاية تحتمل المفاجأة، غير أن بعض القصص تُنسج على مهلٍ حتى تغدو المفاجأة امتدادًا طبيعيًّا للنبض الخافت الذي سبقها. في "الفزّاعة"، لا يتأسّس التصعيد على الأحداث المتلاحقة، بل ينمو من داخل الانفعال الصامت، ويتهيّأ منذ البداية كاحتمال يسري في الجسد الخشبيّ دون أن يعلن عن نفسه. التحوّل لا يأتي من الخارج، وإنما ينبعث من الداخل، من تراكم النظرات، من كثافة الصمت، من الحبّ الذي لا يُقال، ومن الخوف الذي لا يُدفع بعيدًا. الفزّاعة التي خُلقت لتبقى واقفة، تقف فعلًا لزمن طويل، لكنها لا تظلّ جامدة. شيئًا فشيئًا، تتراكم في قلبها القشّيّ مشاعر لا تحتاج إلى صوت لتصبح ثقيلة، ولا إلى حنجرة لتعلن عن وجودها. لقد ظلّت تراقب، وتُحبّ، وتخاف، وتشتاق، وكلّ هذه الانفعالات كانت تعمل في داخلها كشرارة طويلة الأمد، تنتظر لحظة الانفجار الصامت. هذه اللحظة لا تأتي من رغبة في التمرّد، ولا من توق إلى الحرية، بل من انكسار. من رؤية المرأة تبكي على مقربة منها، منهارة على أريكة، بعد أن أُغلِق الباب في وجهها. المشهد لا يحتاج إلى وصف طويل كي يُفهم، فالدموع كافية لتقلب موازين السكون. هنا، للمرة الأولى، لا تستطيع الفزّاعة أن تبقى في مكانها. تنهار كلّ خطوط الصبر القديمة، وتنسحب من الخشبة كما ينسحب الكائن من قفص طال به الزمن. هذا الفعل، رغم بساطته الظاهرة، يحمل دلالات عميقة. النزول من مكانه لا يعني الرغبة في الحضور فقط، بل استجابة لنداء غير منطوق. الفزّاعة لا تنقضّ على البيت، لا تفتح الباب بلهفة، ولا تطرق. تدخل بهدوء، كأنها تعرف أن العتبة لم تكن أبدًا بعيدة، وأن خطواتها كانت مؤجّلة لا مرفوضة. بهذا الفعل، تتحوّل من كائن يُراقب الحياة من بعيد، إلى كائن يقرّر أن يشارك في مصير الآخر، حتى دون أن يعرف كيف سينتهي ذلك. التصعيد هنا لا يحتاج إلى صراخ، لأنّ التوتّر نابع من الشعور، لا من الفعل الظاهر. كلّ لحظة مرّت في النص كانت تمهيدًا لهذا الخروج: كلمة قالتها المرأة، لمسة ثوبها، نغمة في الغناء، شهقة عند التعب، دمعة على الوسادة. هذه الشظايا الصغيرة صنعت في داخله تحوّلاً تدريجيًا لم يصرخ، بل تسرّب ببطء، حتى صار الفعل ضرورة لا مفرّ منها. الفزّاعة لا تتكلّم، ولا نعرف ما إن كانت ستُفزع المرأة حين تراها، أو ما إذا كانت ستُحتضن، أو تُطرد، أو تُغلق في وجهها الأبواب. لكن المهمّ هنا ليس النتيجة، وإنما اللحظة نفسها: لحظة القرار، لحظة مغادرة الخشب نحو العتبة، لحظة تحرير الصمت من سياجه الطويل. إنه تحوّل لا يبحث عن بطولة، ولا عن انتقام، ولا حتى عن اعتراف. كل ما يطلبه هذا الكائن هو أن يقترب. أن يقف، ولو لمرة واحدة، في المكان الذي كان يراه من بعيد، ويتنفّس الهواء نفسه الذي كان يُراقَب عبر النوافذ. بهذا الفعل، تنفتح القصة على ذروة صامتة، تحتشد فيها المشاعر كلها دون أن تتكلّم.
الخاتمة المفتوحة ومعمار التأويل:
ليست كلّ النهايات تُكتب لتجيب. أحيانًا، تكون أقوى ما في القصة لأنها تترك الباب مواربًا، وتضع القارئ في مواجهة سؤاله الخاص: ماذا بعد؟ في "الفزّاعة"، تأتي الخاتمة كوميض خاطف، لا يُغلق الباب، بل يفتحه على أوسع احتمالات التأويل. فحين تترجّل الفزّاعة، وتدخل إلى الكوخ دون استئذان، لا يكون ذلك نهاية، وإنما بداية مشوّشة لما لا يُعرف وجهه بعد. لا نعرف ماذا سيحدث داخل البيت. لا توضيح، ولا جملة فاصلة، ولا نهاية مغلقة. وهذه الـ"لا معرفة" مقصودة، لأن القصة لا تُبنى على تسلسل حدثي يُفضي إلى نتيجة، بل على نموّ شعوريّ يسلك طريقًا خفيًا من الداخل، وينتهي في اللحظة التي يجرؤ فيها الكائن على كسر جدار الصمت. هذا الانفتاح ليس فراغًا، إنما هو فسحة للتأمل. كلّ قارئ يمكنه أن يتخيّل نهاية تناسب رؤيته: ربّما ستخاف المرأة من هذا الكائن الذي خرج من سريّته، وربّما سترى فيه تجسيدًا لحبّ لم تعلم بوجوده، وربّما لن تراه أصلًا، لأنّ دخوله كان مجازيًّا، أو حلمًا، أو فعلًا داخليًا لم يتحقّق إلا في ذهن الفزّاعة نفسها. الخاتمة إذًا لا تكمّل القصة بقدر ما تُعلّقها، وتتركها معلّقة في الفضاء ذاته الذي ولدت فيه. لا شيء يُقال، كلّ شيء يُحتمل. وهذا ما يمنح النصّ جماله وفرادته: أنّه لا ينتهي، بل يستمرّ كخيط شعوريّ في ذهن القارئ، يُعيد ترتيب ما قرأه وفق ما يشعر به، لا وفق ما فرضته عليه حبكة نهائية جاهزة. النصّ كلّه يقوم على هذا النوع من البناء، حيث كلّ مشهد يُلمّح دون أن يُصرّح، وكلّ فعل يُقترح دون أن يُفرض. المعمار السردي هنا معمار هشّ، لكنه ممتلئ. يُشبه بيتًا من زجاج، يرى القارئ من خلاله ما يريد أن يراه، لا ما يُطلب منه أن يراه. والكاتبة لا تدفع القارئ إلى استنتاج محدّد، بل تترك له المجال ليكتب، بصمت، الخاتمة التي تليق بقلب الفزّاعة. ولأن الفزّاعة ليست بطلًا مألوفًا، ولأن قلبه من قشّ، فإن كلّ خطوة يخطوها، وكلّ لحظة يقرّر فيها أن يقترب، تكون حدثًا هائلًا في المعنى، حتى وإن جاءت دون ضجيج. دخوله إلى الكوخ، إذًا، ليس مجرد عبور باب، وإنما عبور نحو العالم الذي ظلّ مستحيلًا. سواء قُبل أو رُفض، احتُضن أو هُجر، فإنّ تلك اللحظة تحقّقت، وما عاد الصمت وحده يملأ الحقل. بهذه الخاتمة، تُعيد سناء شعلان صياغة مفهوم النهاية في القصة القصيرة: لا تضع نقطة، ولا تسدل الستار، بل تفتح فضاءً شعوريًا ليبدأ القارئ قصته هو، حيث تنتهي القصة المكتوبة.
يومك فرح وسعادة
أرسل لك الخبر التالي آملة اطلاعك الكريم عليه، والتكرّم بنشره لأهميّته إنْ أمكن، وتفضّلت بذلك.
قراءة في الحبّ الصّامت والوجود الهامشيّ في قصّة (الفزاعة) لسناء الشّعلان من مجموعة (قافلة العطش)
لك كلّ تقديري ومحبتي
أ. د. سناء الشعلان (بنت نعيمة)
|