صنعاء نيوز - 
في عام 1995، انكشفت أولى الشقوق العميقة في الجدار الذي طالما ظنه البعض محكمًا: جدار عائلة الرئيس صدام حسين. لم يكن الخطر المحدق

الثلاثاء, 05-أغسطس-2025
صنعاء نيوز/ إيهاب مقبل -


في عام 1995، انكشفت أولى الشقوق العميقة في الجدار الذي طالما ظنه البعض محكمًا: جدار عائلة الرئيس صدام حسين. لم يكن الخطر المحدق حينها قادمًا من المعارضة الخارجية، ولا من الجوع الاقتصادي الخانق بفعل الحصار الدولي، ولا حتى من الانقسامات الطائفية، بل كان الخطر كامنًا في مكان غير متوقع: من داخل العائلة ذاتها. ومع أن العائلات السياسية قد تختلف، إلا أن بنية النظام العراقي كانت قائمة على تماسك الدم وهندسة الولاء العائلي، أي أن انهيار الأسرة كان يعني، بشكل مباشر، انهيار الدولة.

العداء بين الأبناء وصهر العائلة
الشرارة الأولى جاءت من الصراع المستعر بين عدي وقصي صدام حسين من جهة، وحسين كامل المجيد، صهر صدام، من جهة أخرى. حسين كامل كان زوج رغد صدام حسين، وأحد أقوى رجالات النظام: قائد التصنيع العسكري، ومسؤول برامج الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، والمتحكم بكثير من العقود السرية مع شركات أجنبية. إلا أن طموحه المتصاعد، وجرئته الزائدة، جعلاه مصدر تهديد حقيقي لبنية السلطة القائمة، خاصة في عيون الأخوين عدي وقصي، اللذين كانا يسعيان كلٌ بطريقته إلى وراثة النظام.

بدأ عدي وقصي حملة خفية لتحريض والدهما على حسين كامل، عبر فتح ملفات تجارية تتعلق باختلاسات وشبهات استغلال السلطة. هذه الحملة دفعت حسين كامل إلى اتخاذ قرار مفاجئ وخطير: الهروب من العراق.

فرار صهرَي صدام حسين إلى الأردن
في 7 أغسطس آب 1995، غادر حسين كامل وشقيقه صدام كامل العراق متجهين إلى الأردن، ترافقهما زوجتاهما، رغد ورنا، بنات صدام حسين، وأطفالهما. استقبلهم الملك حسين بنفسه، في مشهد أذهل المراقبين. كان الانشقاق صادمًا ليس فقط بسبب الموقع الحساس الذي شغله حسين كامل، بل لأن صدام فقد جزءًا من عائلته بالمعنى الحرفي والرمزي.

في الأردن، بدأ حسين كامل يُدلي بتصريحات لوكالات المخابرات الغربية والأمم المتحدة، كاشفًا بعضًا من أسرار برامج التسلح العراقية، وأحدثت تصريحاته صدمة في الأوساط الدولية. ومع ذلك، لم تكن الانعكاسات الأخطر في العواصم الغربية، بل في بنات صدام أنفسهن، حيث اندلع صراع خفي بين الشقيقتين رغد ورنا على خلفية الخيانة الواضحة لوالدهن.

حادثة إطلاق النار بين عدي ووطبان
مع نهاية ذلك العام الدراماتيكي، وقعت حادثة كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الهيبة العائلية. في ديسمبر كانون الأول 1995، وقع شجار عنيف بين وطبان إبراهيم الحسن، شقيق صدام غير الشقيق ووزير الداخلية حينها، ولؤي خير الله طلفاح، شقيق ساجدة زوجة صدام، داخل مناسبة خاصة في بغداد. تطوّر الخلاف إلى عراك، ثم تدخل عدي صدام حسين، الذي أطلق النار على وطبان، فأصابه في قدمه. كانت الحادثة كاشفة تمامًا: العائلة التي تحكم البلاد بالحديد والنار، لم تعد تملك السيطرة على أعضائها.

وإن كانت النيران قد خمدت في الإعلام الرسمي، فقد بقيت الجراح مفتوحة. وطبان لم يُعفِ عدي، وعدي أصبح في أعين كثيرين عنيفًا لا يُمكن الاعتماد عليه، مما مهّد الطريق لصدام ليبدأ تهيئة قصي ليكون خليفته في الظل.

مقتل حسين كامل وشقيقه: "ثأر العشيرة"
بعد ستة أشهر من الفرار، نجح الرئيس الراحل صدام حسين عبر وسطاء عشائريين في إقناع حسين كامل وشقيقه بالعودة إلى العراق في فبراير شباط 1996، بعد أن وعدهما بـ"العفو والغفران". لكن العائلة الحاكمة كانت تعدّ شيئًا آخر.

ما إن عاد الرجلان إلى بغداد، حتى جُردا من مناصبهما، وعُزلا في منزل عائلي وسط حماية رمزية، وأُعلن عن اجتماع عشائري لقبيلة "المجيد"، العشيرة التي ينتمي إليها صدام وحسين كامل. هناك، أصدر العرف العشائري حكمًا بقتلهما "ثأرًا لشرف العشيرة"، على اعتبار أن الفرار والكشف عن أسرار الدولة يعتبر خيانة لا تُغتفر.

وفي غضون أيام، حوصرت الفيلا التي كان حسين كامل وشقيقه يقيمان فيها في بغداد. تم إطلاق النار عليهما من قبل أفراد من عشيرتهما أنفسهم، وكان من بين المشاركين أقرباء مباشرين، بعضهم تلقى الضوء الأخضر من صدام شخصيًا. قُتل حسين كامل وشقيقه في مشهد دموي، يُقال إنهما قاتلا حتى اللحظة الأخيرة، بعد أن رفضا الاستسلام.

وبهذا، تكون العشيرة قد "طهّرت نفسها" أمام النظام، ووجّه صدام رسالة قاسية للجميع: "الدم لا يشفع، والخيانة لا تُغتفر".

شبكة صراعات داخلية أوسع
كانت تلك السنة أيضًا انعكاسًا لسنوات من الاحتقان داخل عائلة الحكم. الصراع بين عدي وقصي لم يكن جديدًا، بل كان يغلي تحت السطح منذ أن بدأ قصي يستحوذ على مفاتيح الأجهزة الأمنية، فيما ظل عدي غارقًا في الفضائح الشخصية، من قتل كامل حنا (مرافق والده)، إلى صراعاته في النوادي والمناسبات. أما على المستوى العائلي، فقد كانت ساجدة طلفاح، الزوجة الأولى لصدام، تكن عداءً واضحًا لسميرة الشهبندر، الزوجة الثانية، وهو ما ورثه عنها ابنها عدي الذي اعتبر زواج والده من سميرة خيانة لأمه.

ومن جهة الاقتصاد، كانت هناك صراعات مالية وتجارية داخل العائلة، من بينها النزاع بين حسين كامل وثائر عبد القادر المجيد (محتكر السكر والسجائر)، وتبادلهما إطلاق النار. هذه الصراعات لم تكن مالية فحسب، بل كانت تعبيرًا عن التنافس داخل "نخبة المال الحاكم" في العراق.

انهيار الصورة… مقدمة لانهيار الدولة
كل تلك الصراعات، على كثافتها، كانت تُدار داخل قصر الرئاسة، لكنها بدأت تتسرّب إلى الخارج، وتُفقد العائلة هالتها المعهودة. لم تعد "عائلة صدام" تُرى كجبهة صلبة، بل كعش للدسائس، والثأر، والخيانة المتبادلة. ومع حلول عام 1996، بعد تصفية حسين كامل، كانت العائلة قد بدأت بالتهام نفسها.

ولأن العراق في ذلك الوقت لم يكن يُدار بمؤسسات، بل بعائلة، فقد كان تفكك العائلة مقدمة حتمية لتفكك الدولة. حين جاء الاحتلال الأميركي في عام 2003، لم يكن النظام فقط قد انهار أمام جحافل الجيوش، بل كان قد تفكك داخليًا منذ عقد تقريبًا.

ختامًا:
الدول التي تُبنى على رابطة الدم، لا تصمد حين يتحوّل الدم إلى لعنة. وعائلة الرئيس الراحل صدام، رغم قبضتها الحديدية، سقطت حين مزقتها المصالح، ودفن العراق بأكمله معها في عقدين من النار والفوضى.

لكن الدرس الأهم الذي يجب ألا يُنسى: أن بناء الدولة الحديثة لا يجب أن يُعاد تكراره على أسس عشائرية أو عائلية أو طائفية. العراق اليوم يحتاج إلى دولة تقوم على المؤسسات لا الأفراد، وعلى الكفاءة العلمية لا القرابة، وعلى الولاء للوطن لا للزعيم.

فمن أسباب انهيار الدولة العراقية في الأمس أن مفاصلها أُسندت إلى الأقارب والموالين، لا إلى المؤهلين. ومن أسباب نهوضها في المستقبل أن تُمنح المناصب لا وفق صلة الدم، بل وفق ما يحمله الإنسان من علم، وخبرة، وإخلاص للعراق وحده.

إنه درس التاريخ… لمن أراد أن يتعلم.

انتهى
تمت طباعة الخبر في: الثلاثاء, 05-أغسطس-2025 الساعة: 08:34 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://sanaanews.net/news-104135.htm