صنعاء نيوز/بقلم: د. غسان شحرور -
في سباق المعرفة: أين مجلاتنا العربية؟
في كل لحظة، يطرق العلم أبواب حياتنا: من الهواتف التي نُمسك بها، إلى اللقاحات التي أنقذت أرواحًا لا تُحصى، إلى الذكاء الاصطناعي الذي يعيد تشكيل طرق تعليم أبنائنا، وأداء أعمالنا، وتواصلنا اليومي. لم يعد العلم ترفًا فكريًا أو حكرًا على المختبرات، بل أصبح ضرورة إنسانية تمسّ كل فرد، وتُلامس تفاصيل حياته. بل أجده حقًا من حقوقه، ينبغي أن يكفله له المجتمع، لا أن يُترك رهينة النخبة أو اللغة الأجنبية.
لقد أدركت كثير من الدول هذا التحوّل، فبادرت المجلات العلمية العامة بإصداراتها المختلفة إلى تبسيط المعرفة وتقديمها بلغة قريبة من الناس. نجحت هذه المجلات في خلق جمهور واسع يتابع بشغف، لا ليحفظ المعلومة فحسب، بل ليجد فيها نافذة لفهم ذاته، ومفتاحًا لتحسين واقعه وحياته. وهكذا غدت المجلات العلمية وسيلة حيوية لتعزيز المعرفة، لأنها تجسر الهوة بين الاكتشافات العلمية وحياة الناس اليومية.
أما في عالمنا العربي، فما زلنا نبني هذا الجسر الحيوي بين المعرفة والجمهور. ورغم وجود محاولات واعدة، فإن الحاجة إلى مجلات علمية عربية عامة، رقمية وورقية، مواكبة وسريعة، باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فالمعرفة لا تُغني عن الجهل فحسب، بل تبني الثقة، وتغذّي الإبداع، وتمنح الإنسان أدوات لفهم نفسه ومجتمعه، ومواجهة تحدياته بوعي واستقلال.
وليس هذا بالأمر الجديد على ثقافتنا، فقد ظهرت في القرن العشرين مجلات عربية حاولت سد هذه الفجوة، مثل العربي في الكويت، والعلوم في لبنان، ومجلات أخرى في مصر وسوريا. وقدّمت هذه التجارب محاولات جادة لتقريب المعلومة العلمية من الناس، لكنها لم تستطع أن تواكب التسارع الهائل الذي يعيشه العالم اليوم.
خلال جولاتي الأخيرة في المكتبات الأجنبية، كنت أتوقف طويلًا أمام الأركان المخصّصة للمجلات العلمية العامة. ولاحظت أنّ هذه المجلات تركّز على موضوعات معاصرة قريبة من حياة القارئ، تُقدَّم في قالب شيّق سلس، فيجد فيها الإنسان مرآةً لأسئلته، ورفيقًا لرحلته نحو الفهم. ومن بين أكثر ما شدّ انتباهي أنها تسلط الضوء على مواضيع تمسّ جوهر الإنسان، أذكر منها:
1. رحلة داخل دماغك
لا شيء يثير فضول الإنسان أكثر من نفسه: كيف يفكر؟ ولماذا يشعر على هذا النحو؟ وهكذا، تتناول المجلات العلمية موضوعات مثل:
• كيف يصنع الدماغ الذكريات؟
• لماذا تختلف طريقة التفكير بين شخص وآخر؟
• ما العلاقة الخفية بين العقل والجسد؟
• كيف تفسّر العلوم ارتفاع بعض الاضطرابات النفسية في العصر الحديث؟
• هل للسعادة وصفة علمية؟ وكيف نحافظ على صحتنا النفسية وسط ضغوط الحياة؟
هذه الأسئلة لا تُقدَّم بلغة معقّدة، بل بأسلوب إنساني يربط بين الاكتشافات العلمية وتجربة الإنسان اليومية، ليحفّز القارئ على معرفة ذاته، لا ليحفظ معلومة، بل ليعيشها.
تخيّل شابًا عربيًا يجلس في مقهى، يتصفح مجلة علمية رقمية على هاتفه. يقرأ مقالًا عن الدماغ، فيكتشف تفسيرًا بسيطًا لسرّ نسيانه السريع أثناء الامتحانات، فيبتسم وهو يشعر أن العلم صار أقرب إليه من أي وقت مضى.
2. الذكاء الاصطناعي: صديق أم منافس؟
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية لتحسين الكفاءة، بل دخل موجته الثانية: موجة إطلاق الطاقات البشرية، وفتح آفاق جديدة في التعليم، والصحة، والإعلام، وحتى في فهم الإنسان لنفسه. إنه يسهم في مواجهة بعضٍ من أكبر التحديات التي تعترض المجتمعات، ويعيد تشكيل علاقتنا بالزمن، بالعمل، وبالمعرفة ذاتها.
لكن السؤال الإنساني يبقى حاضرًا: هل نستخدمه لتعزيز كرامة الإنسان وحقوقه، أم نتركه يُعيد تشكيلنا دون وعي؟ سؤال ينبغي أن نتوقف عنده طويلًا.
وقد رأينا كيف أسهمت المجلات العلمية في تبسيط مفاهيم معقدة خلال جائحة كورونا، إذ لم تقتصر على نقل أخبار الأبحاث واللقاحات، بل ساعدت القارئ العادي على فهم معنى “المناعة المجتمعية” و”التحورات الفيروسية”، بلغة بعيدة عن التهويل أو الغموض. كذلك تلعب اليوم دورًا مهمًا في قضايا مثل التغير المناخي والطاقة المتجددة، حيث يحتاج الناس إلى معلومات دقيقة وواقعية لاتخاذ قرارات واعية تخص حياتهم ومستقبل أبنائهم.
ولعلنا نتصور مريضًا يجلس في غرفة الانتظار، يفتح مجلة علمية ورقية أو رقمية ليفهم طبيعة مرضه المزمن. يجد مقالًا يشرح بالعربية خطوات بسيطة لتدبير مرضه وتحسين نمط حياته، فيشعر بالطمأنينة، لأن المعرفة لم تعد حكرًا على لغة أجنبية أو على طبيب مشغول، بل صارت متاحة بوضوح وقرب.
في زمن تتسارع فيه الاكتشافات، يصبح السؤال ملحًّا: هل نلحق بركب المعرفة؟
الجواب لا يبدأ من المختبرات وحدها، بل من المجلات، من الكلمات، من لغة تُخاطب الإنسان بلغته، وتضعه في قلب التحوّل، لا على هامشه.
هنا يبرز دور الجامعات والمجتمع المدني والإعلام العربي في دعم هذه المجلات، وتوفير منصات مفتوحة تُسهم في رفع مستوى الثقافة العلمية، وتمنح الإنسان العربي حقه في أن يفهم، لا أن يُلقَّن.
فلنفتح نوافذ المعرفة بالعربية، قبل أن نجد أنفسنا غرباء عن زمننا؛ فالعصر لا ينتظر، ولا يرحم من يتأخر.
“الأمس بعين اليوم” — زاوية ثقافية دورية يكتبها د. غسان شحرور
بقلم: د. غسان شحرور
في كل لحظة، يطرق العلم أبواب حياتنا: من الهواتف التي نُمسك بها، إلى اللقاحات التي أنقذت أرواحًا لا تُحصى، إلى الذكاء الاصطناعي الذي يعيد تشكيل طرق تعليم أبنائنا، وأداء أعمالنا، وتواصلنا اليومي. لم يعد العلم ترفًا فكريًا أو حكرًا على المختبرات، بل أصبح ضرورة إنسانية تمسّ كل فرد، وتُلامس تفاصيل حياته. بل أجده حقًا من حقوقه، ينبغي أن يكفله له المجتمع، لا أن يُترك رهينة النخبة أو اللغة الأجنبية.
لقد أدركت كثير من الدول هذا التحوّل، فبادرت المجلات العلمية العامة بإصداراتها المختلفة إلى تبسيط المعرفة وتقديمها بلغة قريبة من الناس. نجحت هذه المجلات في خلق جمهور واسع يتابع بشغف، لا ليحفظ المعلومة فحسب، بل ليجد فيها نافذة لفهم ذاته، ومفتاحًا لتحسين واقعه وحياته. وهكذا غدت المجلات العلمية وسيلة حيوية لتعزيز المعرفة، لأنها تجسر الهوة بين الاكتشافات العلمية وحياة الناس اليومية.
أما في عالمنا العربي، فما زلنا نبني هذا الجسر الحيوي بين المعرفة والجمهور. ورغم وجود محاولات واعدة، فإن الحاجة إلى مجلات علمية عربية عامة، رقمية وورقية، مواكبة وسريعة، باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فالمعرفة لا تُغني عن الجهل فحسب، بل تبني الثقة، وتغذّي الإبداع، وتمنح الإنسان أدوات لفهم نفسه ومجتمعه، ومواجهة تحدياته بوعي واستقلال.
وليس هذا بالأمر الجديد على ثقافتنا، فقد ظهرت في القرن العشرين مجلات عربية حاولت سد هذه الفجوة، مثل العربي في الكويت، والعلوم في لبنان، ومجلات أخرى في مصر وسوريا. وقدّمت هذه التجارب محاولات جادة لتقريب المعلومة العلمية من الناس، لكنها لم تستطع أن تواكب التسارع الهائل الذي يعيشه العالم اليوم.
خلال جولاتي الأخيرة في المكتبات الأجنبية، كنت أتوقف طويلًا أمام الأركان المخصّصة للمجلات العلمية العامة. ولاحظت أنّ هذه المجلات تركّز على موضوعات معاصرة قريبة من حياة القارئ، تُقدَّم في قالب شيّق سلس، فيجد فيها الإنسان مرآةً لأسئلته، ورفيقًا لرحلته نحو الفهم. ومن بين أكثر ما شدّ انتباهي أنها تسلط الضوء على مواضيع تمسّ جوهر الإنسان، أذكر منها:
1. رحلة داخل دماغك
لا شيء يثير فضول الإنسان أكثر من نفسه: كيف يفكر؟ ولماذا يشعر على هذا النحو؟ وهكذا، تتناول المجلات العلمية موضوعات مثل:
• كيف يصنع الدماغ الذكريات؟
• لماذا تختلف طريقة التفكير بين شخص وآخر؟
• ما العلاقة الخفية بين العقل والجسد؟
• كيف تفسّر العلوم ارتفاع بعض الاضطرابات النفسية في العصر الحديث؟
• هل للسعادة وصفة علمية؟ وكيف نحافظ على صحتنا النفسية وسط ضغوط الحياة؟
هذه الأسئلة لا تُقدَّم بلغة معقّدة، بل بأسلوب إنساني يربط بين الاكتشافات العلمية وتجربة الإنسان اليومية، ليحفّز القارئ على معرفة ذاته، لا ليحفظ معلومة، بل ليعيشها.
تخيّل شابًا عربيًا يجلس في مقهى، يتصفح مجلة علمية رقمية على هاتفه. يقرأ مقالًا عن الدماغ، فيكتشف تفسيرًا بسيطًا لسرّ نسيانه السريع أثناء الامتحانات، فيبتسم وهو يشعر أن العلم صار أقرب إليه من أي وقت مضى.
2. الذكاء الاصطناعي: صديق أم منافس؟
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية لتحسين الكفاءة، بل دخل موجته الثانية: موجة إطلاق الطاقات البشرية، وفتح آفاق جديدة في التعليم، والصحة، والإعلام، وحتى في فهم الإنسان لنفسه. إنه يسهم في مواجهة بعضٍ من أكبر التحديات التي تعترض المجتمعات، ويعيد تشكيل علاقتنا بالزمن، بالعمل، وبالمعرفة ذاتها.
لكن السؤال الإنساني يبقى حاضرًا: هل نستخدمه لتعزيز كرامة الإنسان وحقوقه، أم نتركه يُعيد تشكيلنا دون وعي؟ سؤال ينبغي أن نتوقف عنده طويلًا.
وقد رأينا كيف أسهمت المجلات العلمية في تبسيط مفاهيم معقدة خلال جائحة كورونا، إذ لم تقتصر على نقل أخبار الأبحاث واللقاحات، بل ساعدت القارئ العادي على فهم معنى “المناعة المجتمعية” و”التحورات الفيروسية”، بلغة بعيدة عن التهويل أو الغموض. كذلك تلعب اليوم دورًا مهمًا في قضايا مثل التغير المناخي والطاقة المتجددة، حيث يحتاج الناس إلى معلومات دقيقة وواقعية لاتخاذ قرارات واعية تخص حياتهم ومستقبل أبنائهم.
ولعلنا نتصور مريضًا يجلس في غرفة الانتظار، يفتح مجلة علمية ورقية أو رقمية ليفهم طبيعة مرضه المزمن. يجد مقالًا يشرح بالعربية خطوات بسيطة لتدبير مرضه وتحسين نمط حياته، فيشعر بالطمأنينة، لأن المعرفة لم تعد حكرًا على لغة أجنبية أو على طبيب مشغول، بل صارت متاحة بوضوح وقرب.
في زمن تتسارع فيه الاكتشافات، يصبح السؤال ملحًّا: هل نلحق بركب المعرفة؟
الجواب لا يبدأ من المختبرات وحدها، بل من المجلات، من الكلمات، من لغة تُخاطب الإنسان بلغته، وتضعه في قلب التحوّل، لا على هامشه.
هنا يبرز دور الجامعات والمجتمع المدني والإعلام العربي في دعم هذه المجلات، وتوفير منصات مفتوحة تُسهم في رفع مستوى الثقافة العلمية، وتمنح الإنسان العربي حقه في أن يفهم، لا أن يُلقَّن.
فلنفتح نوافذ المعرفة بالعربية، قبل أن نجد أنفسنا غرباء عن زمننا؛ فالعصر لا ينتظر، ولا يرحم من يتأخر.
“الأمس بعين اليوم” — زاوية ثقافية دورية يكتبها د. غسان شحرور
|