صنعاء نيوز/ إيهاب مقبل -
بعد العام 2003، أصبح إقليم كردستان العراق نموذجًا سياسيًا فريدًا في الشرق الأوسط. ففي الوقت الذي كانت المنطقة تعيش صراعات وعدم استقرار، تمكن الأكراد في شمال العراق من بناء تجربة حكم ذاتي متماسكة ذات مؤسسات سياسية وأمنية واقتصادية قوية.
هذه التجربة تحوّلت إلى نموذج ملهم للأكراد في دول الجوار، خصوصًا في سوريا، حيث ظهرت بعد 2011 إدارة ذاتية كردية في شمال البلاد تُعرف باسم "روج آفا".
غير أن هذا التحول أثار مخاوف جدية لدى بغداد، إذ باتت ترى في تمدد النفوذ الكردي عبر الحدود خطرًا على وحدة العراق وأمنه القومي.
أولًا: نموذج كردستان العراق – تجربة إلهام للأكراد
بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، اعترف الدستور العراقي بإقليم كردستان ككيان اتحادي يتمتع بسلطات واسعة تشمل التشريع والإدارة والاقتصاد.
الإقليم يمتلك برلمانًا ورئاسة وحكومة وقوات أمنية (البيشمركة)، كما اعترفت الدولة العراقية باللغة الكردية كلغة رسمية ثانية. كما استحوذ الأكراد على مشاركة كبيرة في الحكم المركزي مثل جعل رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية العراقي من حصة الأكراد. ورغم أن الدستور ينص على أن القوات المسلحة يجب أن تكون اتحادية، إلا أن إقليم كردستان احتفظ بجيشه الخاص عمليًا، الذي لا يخضع مباشرة لبغداد. وزيادةً على ذلك، يحصل الإقليم على 17% من موازنة الدولة وفق الدستور، لكن يتم خصم الإيرادات النفطية التي يصدّرها بشكل مستقل.
هذه المكاسب جعلت الأكراد في العراق نموذجًا ناجحًا للحكم الذاتي في منطقة تعاني من التوترات القومية والطائفية.
ثانيًا: تأثير التجربة على أكراد سوريا
عندما اندلعت الحرب السورية عام 2011، انسحب النظام من مناطق شمال البلاد ذات الغالبية الكردية. عندها بادرت القوى الكردية، وعلى رأسها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، إلى إنشاء الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
هذا المشروع استند فكريًا وتنظيميًا إلى تجربة كردستان العراق، من حيث إنشاء مؤسسات حكم محلية، وهيئات تشريعية، وقوات عسكرية عُرفت لاحقًا باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
لقد مثّل نجاح الأكراد في العراق دافعًا نفسيًا وسياسيًا قويًا لأكراد سوريا، الذين رأوا في التجربة العراقية برهانًا على أن الكيان الكردي يمكن أن يتحقق ويستمر بدعم أمريكي، خاصة من التحالف الغربي ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
ثالثًا: الطبيعة الجغرافية والديموغرافية لمناطق قسد
رغم أن بعض مناطق شمال سوريا مثل عفرين، وكوباني، والقامشلي، والمالكية ذات أغلبية كردية تقليديًا، فإن معظم المناطق التي تسيطر عليها قسد حاليًا – مثل الرقة، ومنبج، ودير الزور – هي عربية في الغالب.
هذا يجعل من المشروع الكردي هناك تجربة مختلطة إثنيًا، تعتمد على السيطرة العسكرية والدعم الأمريكي أكثر من الانتماء القومي أو السكاني.
وقد أدى ذلك إلى توترات مع العشائر العربية المحلية التي تشعر أحيانًا بالتهميش السياسي والإداري.
رابعًا: المخاطر التي يثيرها المشروع الكردي السوري على بغداد
1. تعزيز النزعة الانفصالية لدى أكراد العراق: تخشى بغداد من أن يؤدي نجاح الإدارة الذاتية في سوريا إلى تشجيع أكراد العراق على تجديد طموحهم في الاستقلال الكامل، خصوصًا بعد تجربة استفتاء 2017. فأي حكم ذاتي كردي جديد في المنطقة يعيد إلى الواجهة فكرة "كردستان الكبرى" الممتدة من إيران إلى البحر المتوسط.
2. التهديد الأمني والعسكري: وجود قوات قسد المتحالفة مع أمريكا الشمالية، واتصالها الجغرافي مع حدود العراق في سنجار والمالكية، يثير مخاوف من تسلل عناصر حزب العمال الكردستاني (PKK) إلى الأراضي العراقية، وخلق مناطق نفوذ مزدوجة تُضعف سيادة الدولة. كما أن هذا الوضع يمنح تركيا مبررًا دائمًا للتدخل العسكري داخل العراق بحجة ملاحقة المسلحين الأكراد.
3. التأثير السياسي الداخلي: قد يؤدي نجاح أكراد سوريا إلى زيادة الضغوط على الحكومة الاتحادية من قبل الأحزاب الكردية في العراق لتوسيع صلاحيات الإقليم أو السيطرة على المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وسنجار، مما يزيد من هشاشة العلاقة بين أربيل وبغداد.
4. الانعكاسات الإقليمية والدولية: وجود كيان كردي مسلح ومدعوم من أمريكا الشمالية في شمال سوريا يجعل العراق في موقف حساس بين جيرانه:
تركيا تعتبر قسد امتدادًا لحزب العمال الكردستاني وتضغط على بغداد لمحاربتها.
جمهورية إيران الإسلامية تخشى من انتقال عدوى الحكم الذاتي إلى أكرادها.
أمريكا الشمالية ترى في قسد حليفًا موثوقًا ضد الحركات الإسلامية، ما يخلق توازنات معقدة على الحدود العراقية السورية.
خامسًا: ما الذي ينبغي على الحكومة العراقية أن تفعله تجاه قسد؟
لمواجهة هذه التحديات، تحتاج بغداد إلى سياسة ذكية ومتوازنة لا تقوم على الصدام بل على الإدارة الحذرة للمخاطر. وفيما يلي أبرز الخطوات التي يُنصح بها:
1. تعزيز السيطرة على الحدود العراقية–السورية: نشر قوات حرس الحدود الاتحادية في المناطق الحدودية الحساسة مثل ربيعة وسنجار والمالكية، والتنسيق الميداني مع حكومة إقليم كردستان لتبادل المعلومات الأمنية حول تحركات عناصر PKK أو قسد.
2. العمل الدبلوماسي الإقليمي: فتح قنوات حوار مع دمشق لتنسيق المواقف بشأن مستقبل المناطق الكردية في سوريا، والتعاون مع تركيا وإيران لتشكيل تفاهم أمني يمنع تمدد المجموعات المسلحة عبر الحدود دون الدخول في تحالفات تضر بسيادة العراق.
3. منع تحول سنجار إلى قاعدة للفصائل الكردية الإقليمية: فرض سلطة الحكومة الاتحادية الكاملة في قضاء سنجار، وضمان انسحاب جميع الفصائل غير الرسمية منه، ودعم عودة السكان المحليين وإعادة الإعمار لكسب ولاء المجتمع المحلي للدولة العراقية بدل الفصائل.
4. دعم الحلول السياسية في سوريا: تشجيع الحوار بين أكراد سوريا ودمشق للوصول إلى صيغة حكم محلي ضمن الدولة السورية، بدل الانفصال الكامل، وذلك لان أي استقرار سياسي في شمال سوريا يقلل من احتمالية انتقال الفوضى والحركات الانفصالية إلى العراق.
5. الموازنة في العلاقة مع أمريكا الشمالية: الاستفادة من العلاقة مع واشنطن لدعم استقرار العراق دون أن يتحول الدعم الأمريكي للأكراد إلى غطاء لتمدد نفوذ قسد على الحدود العراقية، والمطالبة بدعم دولي لتقوية الجيش العراقي وحرس الحدود بدل الاعتماد على قوى كردية غير رسمية.
خلاصة دقيقة
الخطر السياسي على العراق: تقوية فكرة "كردستان الكبرى" والانفصال الكامل.
الخطر الأمني على العراق: تمدد نفوذ PKK داخل الأراضي العراقية.
الخطر الجغرافي على العراق: احتمالية تواصل إقليمي كردي من إيران إلى المتوسط يخسر فيه العراق مدينة كركوك النفطية ذات الخليط المشترك عبر التاريخ.
الخطر الإقليمي على العراق: زيادة التوتر مع تركيا وإيران واحتمالية نشوب مواجهة عسكرية تركية وإيرانية ضد PKK داخل الأراضي العراقية.
الخطر الاقتصادي على العراق: فقدان السيطرة على المعابر والموارد الحدودية الشمالية.
خاتمة
إن تجربة كردستان العراق بعد 2003 لم تكن مجرد حدث داخلي، بل أصبحت منعطفًا إقليميًا أثّر في توازن القوى داخل الشرق الأوسط.
فبينما ألهمت الأكراد في سوريا لتأسيس إدارتهم الذاتية، فإنها في الوقت ذاته أطلقت موجة جديدة من القلق في بغداد حول مستقبل وحدة العراق وحدوده وسيادته.
ولذلك، فإن السياسة الواقعية المتوازنة هي الخيار الأفضل للحكومة العراقية: (حماية حدودها وأمنها القومي، وتجنّب الصدام مع الأكراد، والعمل على دعم الحلول السياسية التي تحفظ وحدة كل من سوريا والعراق، وتمنع قيام كيانات مسلحة عابرة للحدود).
انتهى
|