صنعاء نيوز - في ضوء التطورات الأخيرة التي تشير إلى دخول عناصر من حزب العمال الكردستاني (PKK) إلى مناطق شمال العراق، تبرز أسئلة جوهرية حول موقف الحكومة العراقية

الإثنين, 27-أكتوبر-2025
صنعاء نيوز/إيهاب مقبل -



في ضوء التطورات الأخيرة التي تشير إلى دخول عناصر من حزب العمال الكردستاني (PKK) إلى مناطق شمال العراق، تبرز أسئلة جوهرية حول موقف الحكومة العراقية في بغداد وحول تبعات «الصمت» أو التريّث في التعامل مع هذا الملف. هذا التحقيق يستعرض أبرز العواقب التي تتحمّلها بغداد في ما يخص الأبعاد الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، والعلاقات الإقليمية، إضافة إلى المخاطر المتزايدة التي يفرضها وجود الحزب على محافظات الشمال والوسط، وعلى الجارة إيران التي تشترك مع العراق في حدود حساسة وطويلة.

البُعد الأمني: تآكل السيادة والمخاطر المتنامية
يرى محلّلون أن وجود حزب العمال الكردستاني أو أي نشاط مسلح خارج سلطة بغداد في شمال العراق يُشكّل تهديدًا مباشرًا لأمن الدولة ووحدة أراضيها. فبحسب تقارير ميدانية، يتمركز مقاتلو الحزب في جيوب جبلية وعرة تمتد من قنديل إلى سنجار، وتتحرك بعض خلاياه باتجاه مناطق متنازع عليها مثل مخمور وكركوك. هذا الامتداد الجغرافي المعقد جعل من شمال العراق منطقة رخوة أمنيًا، تُستخدم أحيانًا كمنصة لتحركات عسكرية أو سياسية تتجاوز سلطة الدولة.

الصمت الرسمي أو ضعف الرد من جانب بغداد يعزّز الانطباع بأن الحكومة المركزية غير قادرة على فرض سيادتها أو بسط نفوذها على جميع أراضي البلاد، ولا سيما في المناطق المتنازع عليها والمناطق الجبلية الحدودية. هذا الفراغ الأمني يتيح لحزب العمال الكردستاني تثبيت وجوده الميداني وتوسيع نشاطاته، كما يمنح تركيا لاحقًا مبررًا متكررًا للتدخل العسكري داخل الأراضي العراقية تحت ذريعة "ملاحقة الإرهاب".

ويحذر خبراء أمنيون من أن استمرار هذا الوضع يشكّل مخاطرة مزدوجة، لأنه من جهة يُبقي الثغرات مفتوحة أمام الجماعات المسلّحة العابرة للحدود، ومن جهة أخرى يُضعف قدرة بغداد على ترسيخ حضورها العسكري والإداري في الشمال. ومع استمرار العمليات التركية في العمق العراقي، تتحوّل السيادة الوطنية إلى قضية رمزية أكثر منها واقعية، ما يجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية بدلاً من أن يكون دولة تملك قرارها الأمني المستقل.

خطر الحزب على المحافظات العراقية الحساسة
يتجاوز خطر حزب العمال الكردستاني نطاق وجوده التقليدي في جبال قنديل وسنجار إلى محافظات عراقية حساسة مثل كركوك، ديالى، صلاح الدين، والموصل. فهذه المحافظات تمثل العمق الاستراتيجي لسيادة العراق ووحدته الجغرافية، كما أنها تشكل نقاط التماس بين المكوّنات القومية والدينية، ما يجعلها أرضًا خصبة لأي اضطراب سياسي أو أمني.

في كركوك المتعددة الأعراق، حيث التداخل الديموغرافي بين العرب والتركمان والأكراد، يثير تمدد الحزب مخاوف من إحياء مشاريع انفصالية أو إثارة توترات طائفية وعرقية. وجود جماعات مسلّحة كردية ذات ارتباط أيديولوجي بحزب العمال قد يُستغل لفرض أمر واقع أمني في بعض المناطق المتنازع عليها، ما يعقّد أكثر ملف كركوك الذي لم يُحسم منذ سنوات.

أما في ديالى وصلاح الدين، فثمّة مؤشرات على محاولات الحزب توسيع نفوذه السياسي عبر فصائل صغيرة تسعى إلى التغلغل في مناطق مختلطة قومياً، وهو ما قد يخلق احتكاكًا جديدًا مع الفصائل المحلية أو مع القوات الأمنية العراقية، ويعيد سيناريو النزاعات غير النظامية التي شهدتها تلك المحافظات بعد عام 2014.

وفي الموصل، التي تمثل القلب الاقتصادي والعسكري لشمال العراق، يُخشى أن يؤدي وجود الحزب في أطراف سنجار وسهل نينوى إلى تقويض جهود الاستقرار، خاصة مع سعي فصائل مختلفة إلى ملء الفراغ الأمني في المناطق المتاخمة للحدود السورية. فكلما اتسع نشاط الحزب، كلما صعب على الحكومة إعادة تنظيم تلك المناطق ضمن سلطة الدولة المركزية.

انعكاسات التمدد على إيران الجارة الشرقية
لا يتوقف تأثير حزب العمال الكردستاني عند حدود العراق وتركيا، بل يمتدّ إلى إيران التي تنظر بقلق إلى نشاط الحزب وفروعه القريبة من حدودها الغربية. فإيران تواجه بدورها فصائل كردية مسلحة محلية تتقاطع فكريًا وتنظيميًا مع حزب العمال، مثل حزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK)، الذي يتخذ من شمال العراق قاعدة خلفية له.

الصمت العراقي تجاه توسع الحزب يضع بغداد في موضع الحرج أمام طهران، التي تعتبر أن استقرار مناطقها الكردية مرتبط مباشرة بالوضع الأمني في شمال العراق. أي تمدد جديد لحزب العمال أو لفروعه داخل الأراضي العراقية قد يُفسّر في طهران كخطر مباشر على أمنها القومي، ما قد يدفعها إلى التحرك الأمني أو الاستخباري داخل الأراضي العراقية بطريقة مماثلة لما تفعله تركيا. هذا السيناريو سيحوّل شمال العراق إلى ساحة تنافس إقليمي مفتوح بين قوتين إقليميتين كبيرتين: تركيا وإيران، وكلتاهما تتحركان وفق منطق “الدفاع عن النفس”، بينما تتراجع سلطة بغداد أكثر فأكثر.

البُعد السياسي: فقدان التوازن الداخلي والخارجي
على الصعيد السياسي، يؤدي صمت بغداد إلى إضعاف صورتها في الداخل والخارج على حدّ سواء. فداخليًا، يشعر المواطن العراقي بأن حكومته عاجزة عن التعامل مع الملفات الحساسة التي تمسّ وحدة البلاد وهيبتها. ومع تصاعد الجدل حول من يملك القرار في المناطق الشمالية، تتنامى حالة من عدم الثقة بين المكوّنات العراقية المختلفة، خصوصًا بين العرب والأكراد، وهو ما يهدد بإعادة إنتاج الخلافات القديمة حول الصلاحيات والحدود الإدارية.

أما خارجيًا، فإن الموقف العراقي الحذر يضع بغداد في منطقة رمادية بين طرفين قويين: تركيا من جهة، وإقليم كردستان من جهة أخرى. فأنقرة تضغط باتجاه اعتبار حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية وتطالب بعمليات أمنية مشتركة ضده، بينما تتجنب حكومة الإقليم مواجهة مفتوحة قد تهدد استقرارها الداخلي. في هذا المشهد، تجد بغداد نفسها مضطرة للموازنة الدقيقة بين الحفاظ على سيادتها وعدم خسارة شراكاتها السياسية والاقتصادية مع أنقرة وأربيل. إلا أن استمرار الغموض في الموقف ينعكس سلبًا على مكانة العراق كدولة ذات قرار مستقل، ويجعله يبدو وكأنه متفرج في نزاع يدور فوق أراضيه.

البُعد الاقتصادي: ثمن الصمت
لا يقتصر أثر الصمت العراقي على السياسة والأمن فحسب، بل يمتد إلى الاقتصاد الوطني. فالمناطق التي ينشط فيها حزب العمال الكردستاني تعد من أغنى المناطق بالموارد الطبيعية والممرات التجارية الحيوية. ويؤدي استمرار التوتر فيها إلى تعطيل مشاريع استراتيجية مثل مشروع "طريق التنمية" الذي تراهن عليه بغداد لربط العراق بتركيا وأوروبا.

كما تسببت العمليات العسكرية التركية في تراجع النشاط الزراعي والسياحي في القرى الحدودية، وتسببت في نزوح مئات العائلات من مناطقها، ما يضيف أعباء مالية وإنسانية جديدة على الحكومة المركزية. ومع غياب خطة واضحة لإدارة تلك المناطق أمنيًا وتنمويًا، يتحول الاقتصاد المحلي إلى رهينة لمعادلات الصراع الإقليمي.

خاتمة
إن صمت بغداد أمام تمدد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق لا يمكن اعتباره موقفًا حياديًا أو تكتيكًا سياسيًا فحسب، بل هو خيار له عواقب عميقة تمس جوهر الدولة العراقية. فكل يوم يمرّ دون موقف واضح أو استراتيجية متماسكة، تتراجع فيه سلطة الدولة لصالح الجماعات المسلحة والتدخلات الخارجية.

وإذا لم تتعامل بغداد بجدية مع خطر الحزب على محافظات مثل كركوك وديالى وصلاح الدين والموصل، فإنها تخاطر بإعادة فتح جبهات جديدة من النزاع الداخلي وتآكل استقرارها الإقليمي. كما أن تجاهل تداعيات التمدد على الجارة إيران قد يدفع المنطقة بأكملها إلى مرحلة جديدة من التنافس الأمني المفتوح.

الحفاظ على السيادة لا يتحقق بالشعارات أو البيانات الدبلوماسية، بل بحضور فعلي للدولة في الميدان، وبسياسات تنموية تُعيد الثقة إلى السكان المحليين، وبعلاقات متوازنة تحمي مصالح العراق دون أن تمس كرامته الوطنية. فصمت اليوم، إن استمر، قد يكون الشرارة التي تفتح أبواب أزمات أكبر غدًا.

انتهى


تمت طباعة الخبر في: الإثنين, 27-أكتوبر-2025 الساعة: 12:47 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://sanaanews.net/news-105302.htm