صنعاء نيوز/إيهاب مقبل -
في تصريح أثار جدلاً واسعاً، أعلن مسرور بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان، أن كركوك هي قلب كوردستان وأنها جزء لا يتجزأ من الأرض الكردية، مطالباً بـ«استعادتها قانونياً». هذا الادعاء، الذي يُروّج له منذ عقود من قبل بعض الأحزاب القومية الكردية، يبدو جذاباً سياسياً، لكنه يفتقر إلى أسس تاريخية وقانونية دقيقة، ويتجاهل الواقع المعقد والمتعدد الأعراق والمناطق في المدينة.
كركوك في العصور المبكرة
الفترة الساسانية وما قبل الإسلام: كانت منطقة كركوك جزءاً من مناطق حضارة ميديا القديمة والفارسية، وكانت تمر عبرها طرق تجارية مهمة بين بلاد ما بين النهرين وجبال زاغروس. السكان في ذلك الوقت كانوا خليطاً من الشعوب الكردية والعربية والآشورية، ولم تكن هناك إدارة مركزية موحدة، بل كانت المناطق تحت سيطرة زعماء محليين وملوك الفرس.
الخلافة العباسية (750–1258 م): مع قيام الدولة العباسية، أصبحت كركوك تقع ضمن نطاق السلطة العباسية في بغداد، وكانت المدينة تُدار وفق النظم الإدارية العباسية، مع وجود الأكراد في الريف والجبال المحيطة. العرب والتركمان كانوا جزءاً من التركيبة السكانية، مع تركز بعض الأقليات المسيحية في القرى الريفية. المدينة كانت مركز عبور تجاري مهم بين بغداد وبلاد الشمال، لكنها لم تكن مركزاً سياسياً كردياً أو موطن حكم مستقل للكرد.
الفترة المملوكية والصفوية: بعد سقوط بغداد في أيدي المغول، أصبحت كركوك تحت تأثير تحولات متكررة بين المماليك والصفويين، مع تبادل السيطرة بين القوى المحلية والإقليمية. السكان ظلوا متنوعين، وكان التركيز على إدارة الموارد والمواقع الاستراتيجية وليس الانتماء القومي.
تاريخ إدارة كركوك: العثمانيون والعهد الملكي والعراق الحديث
العهد العثماني (1534–1918): كانت كركوك جزءاً من ولاية بغداد، ولم تُدرج ضمن مناطق الإدارة الكردية بشكل ثابت. الإدارة كانت عسكرية ومدنية مختلطة، مع الاحتفاظ بحق السيطرة على الموارد وإدارة النزاعات العرقية بين العرب، التركمان، والأكراد.
العهد الملكي العراقي (1921–1958): تولت الحكومة المركزية إدارة المدينة مباشرة، مع تعزيز دور العرب والتركمان في الشؤون الحكومية والمناصب المدنية. الأكراد احتفظوا بوجود ريفي وسياسي محدود في ضواحي المدينة، لكن لم تتحقق أي سيادة كردية على كركوك.
العهد الجمهوري وما قبل صدام حسين (1958–1979): سيطرت الحكومة العراقية على المدينة بالكامل، مع إدارة مركزية. شهدت كركوك نزاعات سياسية متكررة بين مختلف المكونات العرقية حول الأراضي والوظائف الحكومية.
عهد صدام حسين (1979–2003): فرض النظام سياسة تعريب على المدينة والريف المحيط بها، خاصة في مناطق النفط، لتقليل نفوذ الأكراد في المنطقة. البداية الفعلية كانت خلال عقد الستينيات (1960‑1970)، لكنها توسعت فعليًا خلال ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي.
بعد الاحتلال الامريكي 2003: أصبحت كركوك منطقة متنازع عليها وفق المادة 140 من الدستور العراقي. الإدارة الرسمية تحت بغداد، لكن لحكومة إقليم كردستان وجود سياسي واقتصادي في بعض المناطق الريفية الجنوبية والشرقية. التوازن بين العرب، التركمان، والأكراد أصبح أساسياً لاستقرار المدينة، مع استمرار النزاعات حول النفط والديموغرافيا.
التاريخ لا يوافق الادعاء
كركوك مدينة متعددة الهويات منذ قرون. في العهد العثماني، لم تكن جزءاً ثابتاً من مناطق الإدارة الكردية، بل كانت تتبع غالباً ولاية بغداد، مع إدارات متغيرة حسب الحاجة الأمنية والسياسية.
المدينة احتضنت عبر التاريخ الأكراد، العرب، التركمان، والآشوريين والمسيحيين، ما جعلها فسيفساء ثقافية حقيقية. الاعتماد على مفاهيم مثل "شهرزور الكردية" لتأكيد أن كركوك قلب كوردستان يُعد تبسيطاً مفرطاً، فهو يتجاهل الوجود التاريخي للعرب والتركمان والأقليات المسيحية في المدينة والمناطق المحيطة بها.
حتى في القرن العشرين، أظهرت الإحصاءات أن الأكراد لم يشكلوا غالبية ساحقة، بل كانت المدينة تعكس توازنًا ديموغرافيًا معقدًا، ما يجعل أي وصف لكركوك بأنها قلب كوردستان تبسيطاً سياسياً بعيداً عن الواقع التاريخي والاجتماعي.
تقرير لـ House of Commons البريطاني ذكر أن في استمارة مكتوبة: «آخر تعداد موثوق هو 1957» وأنه في ذلك الوقت مركز مدينة كركوك كان يحتوي على: 37.6 % تركمان، 33.3 % كرد، 22.5 % عرب. دراسة تحتوي جدولاً تفصيلياً لنسبة الأعراق في محافظة كركوك في العام 1977 يظهر أن الأكراد 37.6 %، العرب 44.4 %، والتركمان 16.3 %.
الواقع الديمغرافي والمكاني المعقد
الأكراد: يتركزون في الريف الجنوبي والشرقي مثل داقوق وحويجة وصلاح الدين، وبعض أحياء المدينة مثل حي المشهد وحي المسافر.
العرب: يتركزون في مركز المدينة والأحياء الجنوبية والغربية، إضافة إلى الريف الشمالي والغربي مثل الحويجة ورياضة.
التركمان: يتركزون في وسط المدينة والأحياء التاريخية مثل حي الشيخ محمود وحي التركمان، مع امتداد محدود في الريف الشمالي والشرقي.
المسيحيون والآشوريون: وجودهم محدود في بعض القرى المحيطة، ويشكلون جزءاً من فسيفساء المدينة الثقافية.
النفط والسياسة: قلب اقتصادي لا قلب قومي
تُروّج بعض الأطراف الكردية بأن كركوك هي "قلب كوردستان" بسبب ثروتها النفطية الكبيرة. صحيح أن حقول النفط في كركوك تعد من بين الأغنى في العراق، وأن السيطرة عليها تمنح نفوذاً سياسياً واقتصادياً، إلا أن هذا لا يحوّل المدينة إلى جزء مؤسسياً من إقليم كردستان.
توزيع حقول النفط والواقع العرقي
حقول الجنوب والشرق الريفي مثل حويجة وداقوق وبابا كركر وحبانية: تقع في مناطق يتركز فيها الأكراد، وهي الأغنى والأكثر إنتاجاً.
حقول الشمال والغرب مثل الزبير وكاني كسرة: تقع في مناطق يقطنها العرب والتركمان، مع امتداد محدود للأكراد.
الحقول الغربية والريفية المختلطة: تمتد في مناطق مختلطة يسكنها العرب والأكراد معاً، ما يجعل السيطرة الاقتصادية على المدينة ليست ملكية قومية لأي طرف بمفرده.
بعد عام 2003، أصبحت كركوك نقطة نزاع بين بغداد وأربيل، وتم تصنيفها ضمن المناطق المتنازع عليها وفق المادة 140 من الدستور العراقي، والتي نصت على التطبيع والإحصاء والاستفتاء لتحديد مصير المدينة، لكن لم يُنفذ أي من هذه الخطوات بالكامل حتى اليوم.
المادة 140 والدستور العراقي
المادة 140، التي يُستشهد بها لدعم الادعاء، لم تُنفّذ بعد. نصها كان يهدف إلى معالجة «المناطق المتنازع عليها»، بما فيها كركوك، عبر التطبيع، الإحصاء السكاني، والاستفتاء. مرور عشرين عاماً دون تنفيذ كامل يُظهر أن أي ادعاء بالسيادة الكردية على كركوك لا يتوافق مع الواقع القانوني.
المحكمة الاتحادية العراقية أكدت مراراً أن تنفيذ المادة واجب، لكن لم تُحدد بعد طبيعة الحل النهائي، ما يجعل وصف المدينة بـ«قلب كوردستان» رؤية سياسية أحادية الجانب وليست حقيقة قانونية أو دستورية.
مواقف القوى الدولية والإقليمية
واشنطن: تدعو غالباً إلى الحفاظ على وحدة العراق وتفادي أي تغيير أحادي للسيادة على كركوك، معتبرة أن أي محاولة لضم المدينة إلى إقليم كردستان قد تزعزع الاستقرار الإقليمي.
تل أبيب: لم تتخذ موقفاً رسمياً مباشراً بشأن كركوك، لكنها تتابع التطورات السياسية والاقتصادية لأسباب استراتيجية تتعلق بالأمن الإقليمي ومراقبة النفوذ الإيراني والتركي. تل أبيب تعتبر المنطقة غنية بالطاقة، ووجود التوترات بين بغداد وأربيل قد يتيح لها تحليلاً أفضل للوضع الأمني والسياسي.
أنقره: تعتبر كركوك منطقة حساسة بسبب وجود الأكراد، وتعارض أي توسع كردي نحو المدينة خشية أن يشجع الأكراد الأتراك، وتضغط سياسياً للحفاظ على نفوذ العرب والتركمان.
طهران: تدعم غالباً السلطة المركزية في بغداد، وتعارض أي تغييرات أحادية في كركوك، مع التركيز على حماية مصالحها الاقتصادية في حقول النفط والمنافذ الحدودية، وهي حريصة على منع تصعيد أي صراع عرقي أو سياسي.
هذه المواقف الدولية والإقليمية تؤكد أن كركوك ليست ملكية قومية لأي طرف داخلي، بل منطقة استراتيجية دولياً، يتحكم فيها التوازن بين القوى المحلية والإقليمية والدولية.
الخلاصة
تصريح مسرور بارزاني، رغم جاذبيته السياسية، لا يتوافق مع التاريخ أو القانون أو الواقع الديموغرافي:
1. كركوك خضعت لإدارة متغيرة عبر العصور: من الساسانيين والخلافة العباسية، مروراً بالعهد العثماني، الملكية العراقية، صدام حسين، والحكومة المركزية بعد 2003.
2. كركوك لم تكن أبداً جزءاً ثابتاً من إقليم كردستان.
3. المدينة متعددة الأعراق، والأكراد يتركزون في الريف الجنوبي والشرقي وأحياء محددة، العرب في مركز المدينة والريف الشمالي والغربي، التركمان في وسط المدينة والأحياء التاريخية.
4. النفط الأكبر في الجنوب والشرق الريفي، لكنه يمتد إلى مناطق مختلطة.
5. القوى الدولية والإقليمية ترى كركوك منطقة استراتيجية متنازع عليها، وليست ملكية قومية لأي طرف.
كركوك ليست قلب كوردستان، بل مدينة محورية متعددة الثقافات والهوية، يتحكم فيها النفوذ السياسي أكثر من الانتماء القومي البحت، وأي محاولة لتصويرها خلاف ذلك هي قراءة أحادية ومضللة للتاريخ والقانون والواقع الاجتماعي والدولي.
انتهى
|