صنعاء نيوز/ -
لم تكن قصة الفنان العراقي حسين التركي مجرد حادثة عابرة في مواقع التواصل الاجتماعي، بل تحولت إلى ملف معقّد يكشف تحركات شبكات خفية تستدرج مواطنين عبر دعوات عمل وهمية، مستفيدة من ثغرات واسعة في منظومة السفر والرقابة داخل العراق. ظهور الفنان في تسجيل مصوّر يروي فيه تفاصيل رحلته المثيرة للشك أثار قلقًا عامًا، ليس فقط لأن الضحية شخصية معروفة، بل لأن ظروف رحلته تشبه سيناريوهات خديعة تتكرر في دول عديدة، ما يفتح الباب أمام تحليل أعمق لما حدث.
بدأت القصة عندما تلقّى الفنان عرضًا وصفه بأنه "دعوة فنية" للمشاركة في فعاليات خارج العراق. ترتيبات السفر، كما يروي، بدت منظمة ومطمئنة، تذكرة ذهاب وإياب، حجز فندقي، برنامج مقترح، وتواصل يومي مع الجهة الوسيطة. الاسم الوحيد الذي ذُكر صراحةً على لسان الفنان كان شركة الحرير للسفر والسياحة في منطقة المنصور ببغداد، دون أن يحدد مسؤولًا أو مالكًا معينًا، ودون أن يوجه اتهامًا مباشرًا. غير أن مجرد ذكر اسم الشركة جعلها في قلب النقاش، خاصة أن محاولة تتبع ملكيتها وبياناتها العلنية تكشف غيابًا لافتًا للمعلومات. فالتحقيق لم يعثر على بيانات واضحة تعرّف بمالك الشركة أو المفوض بالتوقيع عنها، وهي ثغرة تثير تساؤلات حول شفافية تسجيل بعض شركات السفر في العراق. وفي المقابل، لم يصدر أي دليل رسمي يثبت تورط الشركة في خديعة، غير أن القضية بحد ذاتها تستحق أن تُفتح على مصراعيها للتحقق بدقة.
المثير للانتباه أن عملية سفر الفنان جرت بسهولة لافتة عبر مطار بغداد، رغم أن مثل هذه الرحلات المهنية تتطلب عادةً تدقيقًا خاصًا. لا توجد جهة حكومية مختصة بمتابعة الدعوات الفنية، ولا يُفرض على الفنان أو المؤثر الحصول على موافقة نقابية قبل السفر، ما يترك الباب مفتوحًا أمام مكاتب وساطة يمكنها تمرير عقود لا تحمل أي مصداقية حقيقية. أحد المسؤولين السابقين في هيئة السياحة أكد أن بعض مكاتب السفر الحاصلة على تراخيص سياحية فقط تمارس أدوارًا وظيفية أو فنية خارج اختصاصها، مستفيدة من غياب الرقابة والإطار القانوني الضابط. مثل هذه الثغرة تجعل أي مكتب، سواء كان نظاميًا أو يدّعي النظامية، قادرًا على تنسيق رحلات لا تُعرف أغراضها الحقيقية.
بمجرد وصول حسين التركي إلى الجهة التي يُفترض أنه مدعو إليها، بدأت التفاصيل الحقيقية تتكشف. إذ يقول الفنان إن البرنامج الفني لم يظهر، وإنه لم يُنقل إلى فعالية أو موقع عمل كما وُعد. بدلًا من ذلك، صودر جواز سفره، وتغيّرت طبيعة التعامل معه، ليجد نفسه في مكان يحمل ملامح بيئة عسكرية أو لوجستية لا تتناسب مع شخصية فنية ولا مع غرض رحلته. هذه الخطوة، مصادرة الجواز تحديدًا، تتكرر عالميًا في حالات استدراج مدنيين إلى بيئات عمل قسرية أو غير معلنة، سواء كانت ذات طابع دعائي أو لوجستي أو حتى عسكري. وتشير منظمات حقوقية دولية إلى أن مثل هذه الممارسات تمثل العلامة الأولى لوجود شبكة استغلال منظمة.
هنا يبرز السؤال الأكثر حساسية: هل للحكومة الروسية دور في ذلك؟
حتى لحظة إعداد هذا التحقيق، لا توجد أي دلائل رسمية أو تقارير موثقة تشير إلى تورّط الحكومة الروسية مباشرةً في استدراج الفنان أو غيره من المسافرين العراقيين عبر دعوات مزيفة. موسكو، مثل جميع الدول، تشرف على بوابات حدودها وإجراءات الدخول، لكنها ليست الجهة التي تُنسّق عقودًا فنية أو تدير عمليات استقدام أفراد عبر الوسطاء المحليين.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل حقيقة أن بعض مناطق روسيا، خلال فترة الحرب في أوكرانيا، أصبحت مسرحًا لتدفق عمال أجانب عبر قنوات غير منظمة وربما غير مرئية للسلطات المركزية. وثّقت تقارير دولية وجود شبكات خاصة، لا تتحرك بالضرورة بقرار حكومي مباشر، تقوم باستقطاب أجانب للعمل في مشاريع لوجستية أو دعائية، مستغلة ضعف الرقابة في دولهم وعدم وعي المسافر بطبيعة الجهة المستقبلة.
وهذا يعني أن الإطار الأوسع للنزاع الروسي الأوكراني قد يخلق بيئة خصبة لنشاط وسطاء خارجيين يعملون على هامش الدولة الروسية وليس من خلالها، وهو فارق جوهري يجب الانتباه له.
أما المستفيدون المباشرون، وفق تحليل التحقيق، فيقعون ضمن ثلاثة مستويات:
الوسطاء المحليون الذين يحصلون على عمولات، والجهات الأجنبية التي توظف مدنيين لأعمال لم يوافقوا عليها، ثم الشبكات العابرة للحدود التي تتولى عملية الاستدراج وتجهيز المسار من بغداد إلى نقطة الوصول. هذه الشبكات ليست روسية بالضرورة، بعضها يستخدم روسيا أو غيرها كمحطة نهائية أو وسيطة، دون أن يكون للدولة علاقة مباشرة.
في أثناء التحقيق، بدا لافتًا أن غياب المعلومات العلنية حول مالكي بعض شركات السفر ليس حالة فردية. فهي مشكلة أوسع تتعلق بآليات تسجيل الشركات في العراق وغياب قاعدة بيانات علنية تتيح للصحفي أو المواطن معرفة من يدير الشركة، وما هو تاريخها، ومن يقف وراءها ماليًا وإداريًا. هذا الغياب بحد ذاته يشكل نقطة ضعف يمكن استغلالها في عمليات استدراج أو خداع، سواء كانت الشركة متورطة أم جرى استخدامها بغير علمها.
ما يجعل القضية أكثر خطورة أن حالات مشابهة حدثت في دول عديدة، وأبرزها اليمن، نيبال، كوبا، طاجيكستان، وعدد من دول أفريقيا، حيث استُدرج مواطنون بعروض عمل مزيفة قبل تحويلهم إلى مواقع صراع أو إلى أعمال شاقة دون علمهم المسبق. هذه الظاهرة العابرة للحدود تُشبه إلى حد كبير ما وصفه الفنان العراقي، ما يعني أننا أمام نمط متكرر، وليس حادثة عراقية معزولة.
أهداف التجنيد:
• استخدام المدنيين في أعمال لوجستية أو دعائية أو شبه عسكرية دون علمهم.
• استغلال الشخصيات العامة والفنانين لأغراض إعلامية أو دعائية.
• تحقيق أرباح مالية للوسطاء المحليين والدوليين من خلال العمولات ورسوم الاستقدام.
• تعويض نقص القوى البشرية في مناطق نزاع أو مشاريع خطرة.
• استغلال ضعف الرقابة والفراغ القانوني في بلدان المنشأ لتسهيل الاستدراج.
المشترك بين عمليات التجنيد في الدول المختلفة:
• جميعها تبدأ بدعوة عمل مزيفة أو مغرية لجذب الضحية.
• تعتمد على غياب الشفافية في مكاتب السفر أو الوسطاء المحليين.
• تستخدم مصادرة الجواز أو السيطرة على أوراق السفر كخطوة أولى للسيطرة.
• تعمل الشبكات العابرة للحدود على تحريك الضحية دون علمه بالطبيعة الحقيقية للجهة المستقبلة.
• الهدف النهائي غالبًا استغلال الضحية في أعمال لم يوافق عليها مسبقًا، سواء كانت لوجستية (مثل نقل الذخيرة أو حفر الخنادق)، دعائية، أو شبه عسكرية.
خلاصة التحقيق تكشف أن رحلة حسين التركي ليست مجرد واقعة شخصية، بل تعبير عن فراغ تشريعي، وضعف رقابة حكومية، وغياب شفافية في قطاع السفر، ووجود شبكات ضعيفة التتبع تعمل عبر الحدود. اسم الشركة ذُكر فقط في رواية الفنان، ولا توجد حتى الآن أدلة رسمية تثبت تورطها، لكن ورود اسمها يفرض بالضرورة فتح تحقيق رسمي واضح يحدد المسؤوليات بدقة، ويجيب عن الأسئلة المؤجلة: من رتّب الرحلة؟ من سافر عبره الفنان؟ من نسّق مع الجهة المستقبلة؟ وهل كانت الجهة الثالثة تعمل بشكل مستقل أم ضمن بيئة أوسع لها صلة غير مباشرة بالتوترات الدولية؟ ولماذا لا يعرف المواطن ملكية شركة يتعامل معها؟ وكيف يمكن لفنان أن يغادر بلده بدعوة فنية دون تدقيق من الجهات المختصة؟
في زمن صدام، كانت هناك حماية رسمية ومركزية أقوى للعراقيين في الخارج، رغم ارتباطها بنظام المراقبة والسيطرة السياسية. أما اليوم، ومع ضعف الرقابة والدبلوماسية الفعالة، أصبح المواطن أكثر عرضة للاستغلال. وحتى تتضح جميع الإجابات، يظل هذا الملف مفتوحًا، ويظل السؤال الأهم مطروحًا: من يحمي العراقي حين يغادر وطنه من شبكات الاستدراج؟
انتهى
|