صنعاء نيوز/إيهاب مقبل -
منذ بدايات الغزو الأمريكي في 2003، تمركزت واشنطن في العراق عبر شبكة ضخمة من القواعد العسكرية الموزعة جغرافياً بين الشمال والكردستان، الوسط، والجنوب والغرب. هذا التواجد ليس عشوائياً، بل يشكل جزءاً من استراتيجية متكاملة تهدف إلى فرض نفوذ طويل الأمد، تأمين مصالح لوجستية واستخباراتية، وكذلك حماية نفسها من التهديدات الإقليمية. في هذا المقال الموسّع، ساستعرض القواعد الأمريكية البارزة في العراق، الأهداف من كل موقع، وكيف تغير التوزيع مؤخراً ضمن إعادة تموضع استراتيجي.
انتشار القواعد الأمريكية في العراق: خريطة جغرافية
قبل الغوص في الأهداف، من المهم فهم التوزيع الجغرافي للقواعد الأمريكية:
1. شمال العراق / إقليم كردستان: يضم قاعدة حرير الجوية في ناحية الحرير بمحافظة أربيل وقواعد إضافية في أربيل ودهوك، إذ تشير تقارير إلى وجود حوالي 6 قواعد أمريكية بين مدينتي دهوك وأربيل.
2. وسط العراق: يضم قاعدة فيكتوريا قرب مطار بغداد الدولي، وهي مركز استخباري / لوجستي مهم حسب تقارير إعادة التموضع الأمريكي حديثاً. وزيادةً على ذلك، جونت سيكيوريتي ستيشن فالكون (JSS Falcon)، 13 كيلومترًا جنوب المنطقة الخضراء ببغداد، يستخدمها الأمريكيون كقاعدة عمليات وتقديم استشارات، خاصة في مرحلة ما بعد الصراع.
3. غرب العراق – محافظة الأنبار: تضم قاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار، وهي واحدة من أضخم القواعد الجوية الأمريكية في العراق.
4. جنوب - شرق العراق: بعض المصادر تشير إلى وجود قوات في الجنوب، لكن العديد من القواعد الأمريكية الكبرى في الجنوب تمّت تسليمها أو إخلاؤها. توجد نقاط تموضع عسكرية أمريكية مرتبطة بدعم العمليات الأمنية، إلا أن عدد القواعد الدائمة هناك محدود نسبياً اليوم مقارنة بالغرب والشمال.
الأهداف والاستراتيجية من كل قاعدة
1. قاعدة حرير الجوية (شمال / كردستان):
أ. هدف أمني واستخباراتي: حرير تُعد أقرب قاعدة أمريكية إلى الحدود الإيرانية. بعد إعادة تنشيطها، تُستخدم لتنفيذ عمليات المراقبة، الاستخبارات، ولكونها نقطة إطلاق للطائرات الخاصة والمروحيات.
ب. تموضع استراتيجي ضد إيران: وجود القاعدة هنا يقلل من خطر التعرض لهجمات من قواعد إيرانية لأنه يمنح واشنطن نفوذًا أقرب للعراق الشمالي، ويُعد موقعًا مهمًا في مواجهة النفوذ الإيراني. بعض التقارير تربط إعادة تمركز القوات إلى كردستان برغبة أمريكية في "إعادة ضبط التوازن" بعيدًا عن مواقع شديدة التعرض مثل غرب العراق.
ج. دعم اللوجستيات والتدريب: القاعدة في شمال العراق تتيح لأمريكا الشمالية العمل مع القوات الكردية، وتعزيز قدرات التدريب، وتنسيق العمليات الأمنية في المنطقة.
2. قاعدة فيكتوريا (بغداد / المطار الدولي):
أ. مركز استخباري وتحكم: كونها قرب المطار الدولي، تُعد قاعدة استراتيجية لجمع المعلومات، التنسيق الاستخباري، وإدارة العمليات من مركز جغرافي مركزي في العراق.
ب. إعادة التموضع: التقرير الأخير يشير إلى أن الأمريكيين قد يغادرون بعض القواعد مثل فيكتوريا ضمن "إعادة تموضع" وليس انسحاب تام، بحيث يتركزون في مواقع أقل عرضة للهجمات.
ج. التخفيف من الضغوط السياسية: هذا التغيير يمكن أن يساعد أمريكا الشمالية في تلبية مطالب بعض الأطراف العراقية التي تضغط من أجل تقليص الوجود الأجنبي في العاصمة والمنطقة المحيطة بها.
قاعدة JSS Falcon (جنوب بغداد):
أ. دور استشاري وتدريبي: قاعدة مثل JSS Falcon تستخدم في كثير من الأحيان لتقديم المشورة للقوات العراقية، وتدريبها، وهي جزء من استراتيجية واشنطن لتحقيق "شراكة أمنية" بدلاً من السيطرة المباشرة.
ب. بقاء تحت غطاء قانوني: وجود هذه القاعدة يعطي للأمريكيين موطئ قدم ضمن اتفاقات أمنية مع الحكومة العراقية، ما يمنحهم قدرة على التأثير دون ضرورة قواعد ضخمة تعرضهم للمخاطر العالية.
3. قاعدة عين الأسد (غرب العراق):
أ. منصة ضخمة للتدخل الجوي ولوجستيات ضخ الأسلحة: باعتبارها قاعدة جوية كبيرة، استخدمت أمريكا الشمالية عين الأسد كنقطة انطلاق لعمليات الدعم الجوي، نقل المعدات، والإمدادات.
ب. مراقبة وتحكم: نظرًا لموقعها في الأنبار، فهي استراتيجية لمراقبة أي نشاط متصل بغرب العراق، بما في ذلك التهديدات العابرة من دول الجوار أو من الفصائل المسلحة.
ج. هدف تخفيف التهديدات: بالاعتماد عليها في فترات معينة، كان من الممكن الرد بسرعة على تصعيد فصائل أو تنظيمات إسلامية في المناطق المجاورة. ولكن مؤخرًا، قررت أمريكا الشمالية الإخلاء التدريجي من هذه القاعدة لتقليل المخاطر على قواتها من الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة.
4. التوزيع في الجنوب / الجنوب الشرقي:
أ. رغم وجود محدودية في القواعد الدائمة الكبيرة في الجنوب حالياً، فإن بقاء بعض القوات هناك يخدم أهدافًا لوجستية وأمنية: دعم العمليات الأمنية مع القوات العراقية، تقديم دعم فوري ضد التنظيمات الإسلامية إذا نشطت من المناطق النائية، والمشاركة في دوريات مشتركة.
ب. إعادة التموضع: بعض التقارير تقول إن أمريكا الشمالية لا تنسحب بالكامل من العراق، بل "تعيد تموضع قواتها" في مواقع استراتيجية أقل عرضة للخطر، مع التركيز على التواجد في الشمال (الكردستان) والاستمرار بدور داعم استخباراتي / استشاري.
ما وراء الأهداف: الهيمنة المضمرة وتحول الاستراتيجية
أ. تقليل المخاطر والمواجهة مع الفصائل المسلحة: إعادة التموضع من قواعد مثل عين الأسد وفكتوريا قد تأتي كإجراء لتخفيف التعرض لهجمات من فصائل موالية لإيران.
ب. إبقاء النفوذ بموطئ قدم آمن: بدلاً من انسحاب تام، تنقل واشنطن وجودها إلى شمال العراق حيث التهديد أقل نسبياً من صواريخ الفصائل، لكنها تحتفظ بنفوذ استراتيجي كبير.
ج. شراكة أمنية أكثر مرونة: التواجد في قواعد مثل حرير وجونت سيكيوريتي ستيشن يعكس تحولًا من قواعد ضخمة إلى مراكز أصغر وأكثر مرونة وقابلة للتكيف مع التغيرات الأمنية.
د. منظور جيوسياسي طويل المدى: تنظر أمريكا الشمالية إلى العراق ليس فقط كمسرّع لعمليات مكافحة تهديدات المنظمات الإسلامية، بل كموقع محوري ضمن استراتيجيتها الأوسع لمواجهة النفوذ الإيراني وتأمين خطوط التحرك الإقليمي.
القواعد الأمريكية كأداة لـ«احتواء إيران» بما يخدم الأمن الإسرائيلي
عند دراسة شبكة القواعد الأمريكية في العراق لا يمكن عزلها عن البيئة الاستراتيجية الأوسع في الشرق الأوسط، ولا عن عقيدة الأمن القومي الأمريكي التي تُعدّ أمن الكيان الصهيوني جزءًا عضويًا منها. ومع أن واشنطن لا تعلن عن دور مباشر لهذه القواعد في دعم تل أبيب، فإن تقييمًا موضوعيًا يوضح وجود صلة غير مباشرة لكنها مؤثرة على مستوى الاستخبارات، مراقبة المجال الجوي، وردع القوى الإقليمية.
تعتبر واشنطن أن إيران هي الخصم الإقليمي الأول لكلٍّ من أمريكا الشمالية و"إسرائيل". وانطلاقًا من هذه المقاربة، فإن وجود القواعد الأمريكية في العراق—خصوصًا حرير (أربيل) وعين الأسد (الأنبار) —يلعب أدوارًا تشمل:
أ. احتواء إيران: رصد تحركات إيران العسكرية في غربها وشرق العراق.
ب. دعم التفوق العسكري الإسرائيلي: اعتراض المسيّرات والصواريخ التي قد تشكل خطرًا على الوجود الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة.
ج. مراقبة خطوط الإمداد: مراقبة طرق الإمداد من إيران إلى حزب الله في لبنان عبر العراق. وهذا يعني أن بقاء القوات الأمريكية في قواعد العراق الشمالية (مثل حرير) يحقق لتل أبيب ثلاث فوائد استراتيجية غير مباشرة: (قطع أو تعطيل الممر البري الإيراني الذي ينقل السلاح إلى حزب الله في لبنان عبر ممرات التهريب في سوريا، وإجبار طهران على توزيع قوتها على جبهات متعددة مما يحد من قدرتها على دعم حلفائها، ووجود نقطة مراقبة جوية متقدمة قرب الحدود الإيرانية الغربية).
د. تبادل استخباراتي واسع: توفير معلومات استخبارية تُسهم، بشكل غير مباشر، في تعزيز قدرة تل أبيب على تقييم التهديدات.
واشنطن لا تعلن أنها تجمع معلومات لتل أبيب من العراق، ولكن أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية تتبادل المعلومات بشكل دوري ضمن اتفاقات أمنية واسعة. وبالتالي، ما يُجمع فوق الأراضي العراقية قد يدخل في هذا النظام التبادلي الواسع.
التحديات والمخاطر
أ. استمرار الهجمات: القواعد الأمريكية في العراق تتعرض لهجمات مستمرة من فصائل مسلحة بطائرات مسيّرة وصواريخ.
ب. الضغوط السياسية العراقية: هناك مطالب داخلية متزايدة لإنهاء الوجود الأجنبي، خصوصاً من بعض الفصائل والمجموعات التي ترفض بقاء قوات الاحتلال الأمريكي في البلاد.
ج. تكلفة التوازن: التمركز في الشمال يقلل بعض المخاطر، لكنه قد يحد من بعض القدرات اللوجستية في مناطق الغرب / الجنوب، مما يتطلب إدارة دقيقة للتوازن بين الأمان والفاعلية.
خاتمة
شبكة القواعد الأمريكية في العراق هي أكثر من مجرد مواقع عسكرية: إنها أدوات استراتيجية لربط النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، ومراكز لوجستية واستخباراتية تسمح لواشنطن بالتحرك بسرعة والاستجابة للتحديات. إعادة التموضع الأخيرة، التي تبدو على شكل انسحاب جزئي، تعكس إعادة ضبط تكتيكية أكثر من انسحاب تام، وهي تهدف إلى الحفاظ على النفوذ الأمريكي بأقل تكلفة سياسية وعسكرية ممكنة. لكن هذا التوازن الهش يواجه تحديات كبيرة، من التهديدات الفصائلية إلى الضغوط العراقية والجيوسياسية.
انتهى
|