صنعاء نيوز/ -
نظام مير محمدي
كاتب حقوقي وخبير في الشأن الإيراني
طهران الظامئة.. وعُرِيّ الانهيار الهيكلي
طهران، تلك الحاضرة التي كانت يوماً رمزاً لتمركز السلطة والثروة في إيران، استحالت اليوم إلى بؤرة لأزمة مياه عظمى، مُحاصِرةً سكانها في طوابير طويلة بحثاً عن شربة ماء. إن هذا الجفاف الذي يضرب أطنابه، ليس مجرد تداعٍ حتمي للتغيرات المناخية، بقدر ما هو انعكاس عارٍ لانهيار هيكلي وإفلاس إداري لنظامٍ قاد الموارد الحيوية للبلاد نحو الهاوية، مدفوعاً بمنطق "الريعية"، والفساد الممنهج، و"النيوليبرالية المُوطَّنة".
في اعتراف غير مسبوق، أطلق مسعود بزشكيان – الذي يصفه بعض المحللين بـ "رئيس خامنئي" – تصريحات مثيرة للتأمل والقلق معاً، معلناً: "إذا لم تهطل الأمطار بحلول شهر ديسمبر، سنضطر إلى تقنين المياه، وفي حال استمرار الجفاف، قد نضطر لإخلاء طهران" (صحيفة دنياي اقتصاد، 6 نوفمبر 2025). ورغم أن أمر الإخلاء الرسمي لم يصدر بعد، إلا أن مجرد طرح هذه "الاحتمالية" على لسان مسؤول رفيع، يُعد وثيقة دامغة على عمق الأزمة البنيوية التي لا تكمن جذورها في شح الأمطار فحسب، بل في السياسات الخاطئة، والتفاوت الطبقي العميق، وسوء الإدارة التاريخي.
من العجز الإداري إلى الإفلاس البيئي: أربعة عقود من الغفلة والنهب
على مدار العقود الأربعة الماضية، لم تضع السلطات الإيرانية أي خطة شاملة ومستدامة لإدارة الموارد المائية. لقد أدى التوسع الحضري غير المنضبط، وحمى البناء المنفلتة، وتشييد السدود بشكل عشوائي "بالجملة" دون تقييمات بيئية دقيقة، إلى تدمير النظم الإيكولوجية الطبيعية المحيطة بطهران. فسدود "لار" و"لتيان" و"طالقان"، التي كانت يوماً ما الشرايين الحيوية لإمداد العاصمة بالمياه، فقدت الآن الجزء الأكبر من سعتها الفعلية بسبب تعاقب مواسم الجفاف، ومعدلات التبخر العالية، والترسبات الكثيفة.
لقد تبلور هذا الوضع الكارثي في وقت كان الخبراء يقرعون فيه أجراس الإنذار منذ مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بيد أن المديرين الحكوميين كانوا غارقين في صفقات بناء السدود المليارية والمشاريع الاستعراضية لمؤسسات السلطة، ولا سيما "الحرس الثوري".
وفي هذا السياق، صرح محمد أرشدي، عضو المجلس الاستراتيجي لـ "مركز أبحاث تدبير المياه في إيران"، لموقع "خبر أونلاين" قائلاً: "ما نشهده اليوم كأزمة مياه، هو حصاد مسار طويل من القرارات والسياسات والتدخلات البشرية، وليس حدثاً مفاجئاً". ويذكّر بأن "الوضع الحالي هو نتيجة لمجموعة من القوى التي تشكلت عبر الزمن وباتت الآن ماثلة للعيان" (إيكوايران، 13 نوفمبر 2025).
لقد أفضى السحب الجائر وغير الملموح من المياه الجوفية إلى عواقب وخيمة، أبرزها ظاهرة "هبوط الأرض" في المناطق الجنوبية والشرقية من طهران بمعدل يتجاوز 30 سنتيمتراً سنوياً؛ وهي ظاهرة يعدها الخبراء غير قابلة للإصلاح. من ناحية أخرى، أدت سياسات التنمية النيوليبرالية – مثل بيع الأراضي، وبناء الأبراج بلا ضوابط، وتمركز رأس المال في العاصمة – إلى تضخم سكان طهران ليتجاوز قدرتها الإيكولوجية بأضعاف.
والنتيجة هي تآكل متزامن للتربة والهواء والماء، ومواطنون عالقون بين مطرقة التلوث وسندان العطش والغلاء الفاحش. وفي مواجهة هذه الأزمة، لجأ النظام كعادته إلى سياسة "الهروب إلى الأمام" والإنكار. فبدلاً من تحمل المسؤولية، يُلقي باللوم على "معاصي الشعب وإسرافه"، ويرد على التحذيرات العلمية بوعود واهية حول "نقل المياه من الشمال" أو الدعوة لـ "صلاة الاستسقاء"! في الواقع، لا ينظر النظام إلى أزمة المياه كقضية وطنية وجودية، بل كتهديد أمني، حيث يواجهها بقمع الخبراء ونشطاء البيئة (كما حدث مع نشطاء مؤسسة "تراث الحياة البرية الفارسية" القابعين في السجون)، مانعاً بذلك أي بحث في جذور الأزمة أو حوار بناء حول الحلول.
تسليع الحياة: الماء، التفاوت الطبقي، ومنطق الرأسمالية الريعية
إن أزمة المياه في طهران ليست ظاهرة مناخية صرفة، بل هي نتاج مباشر لنظام الإنتاج وتراكم رأس المال في ظل "دولة طبقية". لقد وصل نظام ولاية الفقيه إلى السلطة رافعاً شعارات العدالة والروحانية، لكنه أسس عملياً هيكلاً يتبع منطق الرأسمالية التابعة، الريعية، والنهابة. في هذا الهيكل، تحولت الطبيعة إلى سلعة مدرة للربح، والإنسان إلى أداة استهلاكية. ويمثل عطش طهران أحد الأوجه السافرة لهذا التناقض الجوهري: التناقض بين "قيمة المبادلة" و"الحق في الحياة".
إن التوسع المفرط في بناء الأبراج والمراكز التجارية والصناعات المستهلكة للمياه دون مراعاة للقدرة البيئية، وتدمير البساتين الحضرية والأراضي النفاذة للمياه لصالح المضاربات العقارية، والخصخصة المتسارعة للخدمات العامة (بما في ذلك المياه والصرف الصحي)، كلها صبت في اتجاه منطق "تسليع المياه". وهكذا، تحول الماء من حق إنساني عام إلى سلعة؛ سلعة يخضع الوصول إليها لمنطق القوة الاقتصادية والسياسية. فالسلطة هنا ليست ممثلة للشعب، بل لكتلة القوة الاقتصادية-العسكرية الناشئة من تزاوج المؤسسة الدينية والحرس الثوري والبورجوازية الجديدة، والتي ترى مصالحها مرهونة بنهب الموارد الطبيعية.
لقد تحولت إدارة الموارد الطبيعية في إيران إلى جزء من دورة تراكم رأس المال لهذه الكتلة السلطوية: فعقود بناء السدود ونقل المياه تُمنح لشركات تابعة للحرس الثوري؛ وتخصيص المياه لصناعات الصلب والبتروكيماويات في المناطق الجافة بهدف التصدير وجلب العملة الصعبة للحكومة يتقدم على الاحتياجات الحيوية للناس. كما ضاعفت السياسات النيوليبرالية، عبر رفع الدعم وتسليع الخدمات، الضغوط على الطبقات الدنيا.
يعكس العطش في طهران التفاوت الطبقي الهيكلي القائم في كافة المجالات: ففي شمال العاصمة، تشمخ الأبراج الفاخرة بمسابحها ومساحاتها الخضراء المروية، بينما يقطن في جنوبها مواطنون تصلهم مياه غير صالحة للشرب أو يعانون من الانقطاعات المتكررة والتقنين. هذه الفجوة ليست اقتصادية فحسب، بل هي تفاوت صارخ في "إمكانية العيش" والحصول على الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية. إن الأزمة البيئية في إيران جزء لا يتجزأ من انعدام كفاءة هرم السلطة. وفي طهران، يعد انهيار الموارد المائية وتآكل الأرض قضية سياسية وطبقية بامتياز، توازي في خطورتها الفقر والبطالة والقمع السياسي. لذا، فإن النضال من أجل الماء ليس نضالاً بيئياً فحسب، بل هو شكل جديد من النضال الطبقي والحقوقي. الماء بهذا المعنى، هو رمز للحياة الجماعية والمقاومة ضد تسليع الحياة ونهب الطبيعة.
خاتمة: أزمة المياه.. أزمة شرعية وضرورة المقاومة
لقد فقد النظام الإيراني، بمنطقه القائم على النهب وإدارته الفاشلة، القدرة على إدارة "أدوات الإنتاج الحيوي"، أي الماء. إن أزمة المياه هي في الواقع أزمة استمرار الحياة الاجتماعية في ظل هذا الحكم. فالعطش ليس حادثاً طبيعياً، بل نتيجة لتراكم الفساد، والإدارة الطبقية، والعجز التاريخي لنظام فقد مشروعيته.
إن رسالة "الخروج من طهران" دون تحمل السلطة لمسؤولياتها، ليست مجرد إسقاط للوم، بل هي فرار من المساءلة الهيكلية. عندما تعجز حكومة ما عن تأمين مياه عاصمتها، فهي حكومة في طور الانهيار وتفتقر لأدنى مقومات البقاء والكفاءة. هذه "الأزمة العظمى" لا تكشف فقط الحقائق المستترة للمجتمع الإيراني، بل تصرخ بضرورة التغيير الجذري في بنية السلطة ونهج الحكم. إن النضال من أجل الماء في إيران هو في جوهره نضال من أجل العدالة، وحق الحياة، والمستقبل؛ مستقبل مرهون بالمقاومة والمطالبة المستمرة بالتغييرات الهيكلية. وهو الأمر الذي يتجلى بوضوح في الشعارات السياسية والفئوية التي ترفعها مختلف الشرائح والقطاعات يومياً في التجمعات والاحتجاجات؛ شعارات جوهرها قول "لا" لهذا النظام برمته، والدعوة لإسقاطه على يد الشعب والمقاومة الإيرانية بقيادة "وحدات المقاومة."
|