صنعاء نيوز - مع كل سنة جديدة، لا يدخل الزمن علينا كضيفٍ عابر، بل كقاضٍ صامت، لا يهنئنا ولا يعتذر، يمرّ فقط، ويترك لنا مهمة الإجابة عن سؤالٍ ثقيل

السبت, 27-ديسمبر-2025
صنعاء نيوز/رسل جمال -





مع كل سنة جديدة، لا يدخل الزمن علينا كضيفٍ عابر، بل كقاضٍ صامت، لا يهنئنا ولا يعتذر، يمرّ فقط، ويترك لنا مهمة الإجابة عن سؤالٍ ثقيل: ماذا فعلنا بالوقت… وماذا فعل الوقت بنا؟
في الفلسفة، الزمن ليس تعاقباً رقمياً للأيام، بل تجربة وجودية تُقاس بعمق الأثر لا بسرعة العبور، فليس كل مرورٍ تقدّماً، وليس كل جديدٍ إضافة حقيقية، قد تتغيّر السنوات، بينما يبقى الإنسان عالقاً في التعب ذاته، والقلق ذاته، والأسئلة نفسها التي لم تجد جواباً.
تُفترض الحضارة بوصفها مشروعاً إنسانياً، غايته تخفيف أعباء البشر ورفع مستوى الكرامة الإنسانية، غير أن ما نشهده اليوم يكشف مفارقة قاسية، تقدّمٌ تقني متسارع، يقابله تراجع بطيء في قيمة الإنسان ،صرنا نعيش في عالمٍ أكثر اتصالاً وأقل فهماً، أكثر سرعة وأقل رحمة.
الإنسان الحديث لم يعد يُنظر إليه كغاية، بل كوسيلة. يُقاس بقدرته على الإنتاج، لا بعمق إنسانيته. يُحتفى به ما دام قادراً على العطاء، ويُهمّش حين يتعب، وكأن الإرهاق فشل، والبطء خطيئة، والتوقف خروج عن النظام. في هذه المعادلة، يتحوّل الإنسان إلى رقمٍ قابل للاستبدال، لا إلى كائنٍ يستحق الرعاية.
عجلة التقدّم لا تلتفت إلى من يتعثّر. تمضي، وقد تسحق في طريقها أحلاماً لم تكن بطيئة، بل كانت إنسانية أكثر مما يحتمل عالم السرعة. وهنا يبرز السؤال الفلسفي الجوهري هل نحن من نوجّه التقدّم، أم أننا أصبحنا ضحاياه؟ هل الزمن يصقل وعينا، أم يستهلكنا تحت ضغط اللحاق الدائم؟
السنة الجديدة ليست وعداً آلياً بالتغيير، ولا صفحة بيضاء كما نحب أن نروّج لها، بل فرصة لإعادة تعريف علاقتنا بالوقت. أن نسأل بصدق: هل نعيش لنواكب الزمن، أم نريده أن يكون مساحة لحياةٍ أعمق، أهدأ، وأكثر عدلاً؟

في النهاية ندرك اننا لا نملك سلطة إيقاف الزمن، لكننا نملك شجاعة رفض أن نُسحق باسمه. فالتقدّم الذي يفقد الإنسان إنسانيته ليس تقدّماً، والزمن الذي يحوّل البشر إلى فائضٍ عن الحاجة زمنٌ يحتاج إلى مراجعة. السنة الجديدة يجب أن تكون موقفاً أخلاقياً قبل أن تكون تاريخاً جديداً: إما أن نعيد الإنسان إلى مركز الحضارة، أو نعترف أن الحضارة، مهما تقدّمت، قد مشت طويلاً فوقه.
من عبدالعالي الجابري
الى
رسل جمال،
شكراً لك على هذه الكلمات العميقة التي لا تُقدَّم كتهنئة عابرة، بل كدعوة صريحة للتأمل في زمننا وفي أنفسنا. نادراً ما تأتي رسائل رأس السنة بهذا الوزن الفلسفي، فبدلاً من أن تُغطّي اللحظة بطبقة من الأمنيات اللامعة، كشفتَ عن الجرح الذي يخفيه احتفالنا السنوي: أننا نهرب من السؤال الأخلاقي إلى احتفال ميكانيكي.
أتفق معك تماماً في أن التقدّم التقني المتسارع قد حوّل الإنسان من غاية إلى أداة، وأن سرعة العالم أصبحت تُقاس بمدى قدرتها على استهلاكنا لا على تحريرنا. ما يؤلمني أكثر هو أننا، في كثير من الأحيان، نشارك طوعاً في هذا الاستنزاف، نُقنع أنفسنا بأن الإرهاق علامة نجاح، وأن التوقّف خيانة لـ"الإنتاجية".
لكن في خضم هذا التشخيص القاسي، أجد في كلماتك أيضاً بذرة أمل: إدراك أن السنة الجديدة ليست مجرّد صفحة تقويمية، بل فرصة لموقف أخلاقي. ربما تكون الشجاعة الحقيقية في 2025 ليست في اللحاق بالزمن، بل في رفض قوانينه الظالمة؛ في أن نُبطئ قليلاً، نرعى المتعبين، نُعيد للإنسان كرامته، ونُصرّ على أن التقدّم الذي لا يرفع مستوى الرحمة ليس تقدماً يستحق الاحتفاء.
أتمنى لك – ولنا جميعاً – سنة لا تُقاس بعدد الإنجازات، بل بعمق الإنسانية التي نستعيدها. سنة نضع فيها الإنسان مجدداً في مركز الحضارة، قبل أن تدهسنا عجلاتها.
كل عام وأنت بخير، بمعنى الكلمة الأعمق
تمت طباعة الخبر في: السبت, 27-ديسمبر-2025 الساعة: 09:05 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: https://sanaanews.net/news-106307.htm