صنعاء نيوز/بقلم د غسان شحرور -
قراءة تأملية في قصة طه حسين وسوزان:
من التجربة الخاصة إلى الثقافة الإنسانية الجامعة بقلم د غسان شحرور
في عالم تتسارع فيه الانقسامات وتضيق المساحات المشتركة، تبدو العودة إلى قصة طه حسين (1889–1973) وسوزان أكثر من استعادة لسيرة زوجية؛ إنها محاولة لفهم كيف يمكن للتجربة الفردية أن تتحول إلى مشروع ثقافي وإنساني يتجاوز الأفراد والحدود. فطه حسين، الذي حُوّل منزله لاحقًا إلى متحف تخليدًا لإرثه، لم يكن شخصية محل إجماع، لا في زمنه ولا بعده. اختلف حوله معاصرون ولاحقون في قراءته للتراث، وفي علاقته بالسلطة والنخبة. ومع ذلك، فإن تجربته الإنسانية—فقدان البصر، الإصرار على التعلم، والإيمان بأن المعرفة حق لا امتياز—خلقت مساحة يتجاوز فيها القارئ الموقف الفكري ليقترب من الإنسان نفسه. هنا تكمن قوة السرد.
شراكة تتجاوز السيرة
في قلب هذه التجربة تقف سوزان، لا بوصفها حضورًا ثانويًا، بل شريكة في بناء معنى جديد للعيش المشترك، قائم على الاحترام والتكامل والاختلاف الخلّاق بثقافتها الفرنسية وحساسيتها الإنسانية، ساعدت طه حسين على إعادة تعريف موقعه في العالم، لا كـ“فاقد بصر”، بل كعقل حي وروح فاعلة.
ولم تتشكل هذه التجربة في فراغ. فقد شارك في بلورة كتاب «معك» فاعلون من ثقافات متعددة: المستعرب الفرنسي جاك بيرك الذي اقترح فكرة الكتاب، والمترجم السوري بدر الدين عرودكي الذي نقله إلى العربية، والمفكر المصري محمود أمين العالم الذي راجعه، إلى جانب دور النشر والصحافة المصرية والعربية التي احتضنت فصوله الأولى، وأخذت لاحقاً مؤسسة الهنداوي في لندن بتوزيعه مجانا. هذا التلاقي بين الفرنسية والسورية والمصرية جعل من الكتاب مشروعًا عابرًا للحدود، يؤكد أن التجربة الإنسانية حين تُروى بصدق تصبح ملكًا مشتركًا للثقافات جميعًا.
من «معك» إلى «عرفتهم»: الإنسان العادي مركزًا للمعنى
هذا الفهم للتجربة الإنسانية هو ما حاولتُ مواصلته في زاوية «عرفتهم»، حيث سَعيتُ إلى إضاءة وجوه لا تُقدَّم عادة بوصفها رموزًا كبرى. من بينها عبد الله حمزات، الشاب الذي عاش اللجوء والنزوح والإعاقة والمرض، دون أن يتحول إلى موضوع شفقة أو حالة استثنائية. قوته لم تكن في بطولة خارقة، بل في قدرته الهادئة على الاستمرار، وفي حضوره الإنساني الذي يُلهم من حوله. عبد الله يذكّرنا بأن الإنسان، مهما أثقلته الخسارات، قادر على أن يكون نقطة جمع وإلهام، لا سبب انقسام وضعف.
تجارب مختلفة… وجوهر واحد
وعلى ضفة أخرى من العالم، قدّم تيري فوكس في كندا مثالًا مشابهًا لهذا الجوهر الإنساني المشترك، حين حوّل فقدان ساقه بسبب السرطان إلى مبادرة وطنية شارك فيها آلاف الناس، ليصبح رمزًا عالميًا للإرادة والتضامن. تختلف السياقات واللغات، لكن الخيط الذي يجمع طه حسين وسوزان، وعبد الله حمزات، وتيري فوكس واحد: الإنسان لا يُختزل في إعاقته أو مرضه أو ضعفه، بل يُقاس بقدرته على تحويل التجربة الفردية إلى معنى مشترك.
القصص الإنسانية… فعل مقاومة
حين تُروى التجارب الإنسانية بوعي ومسؤولية، فإنها لا تكتفي بتقريب الناس من بعضهم، بل تصبح فعل مقاومة ضد الظلم والاحتكار والتمييز. فالقصص التي تُنصت إلى الإنسان لا تُبنى على البطولة وحدها، بل على الكرامة، وعلى الإيمان بأن كل فرد قادر على الإسهام في بناء عالم أكثر عدلًا وأقل عنفًا. ولهذا، فإن الكتابة عن الإنسان—أي إنسان—هي جزء من مشروع ثقافي عالمي، يذكّر الأجيال الجديدة بأن القسوة ليست قدرًا، وأن المشاركة في الحلم ممكنة حين يجد الإنسان من يرافقه في الطريق.
الثقافة الإنسانية كجسر في زمن الانقسام
في عالم تصنع فيه الحروب والنزاعات خطاب الطغاة، تظل الثقافة الإنسانية إحدى الأدوات القليلة القادرة على الحدّ من العنف، وعلى إعادة بناء الثقة بين البشر. بهذا المعنى، لا تعود قصة طه حسين وسوزان مجرد فصل من تاريخ الثقافة العربية، بل مدخلًا لفهم أوسع لدور الإنسان في صناعة المعنى، وفي بناء مساحات مشتركة تُقاوم التفكك وتفتح أفقًا إنسانيًا جديدًا.
إن ما يجمع هذه التجارب، على اختلافها، ليس تشابه الظروف، بل القدرة على تحويل الألم إلى معنى، والضعف إلى طاقة، والتجربة الخاصة إلى مساحة يتعرّف فيها الإنسان إلى نفسه والآخرين من جديد. فالعالم لا يُعاد بناؤه بالخطابات الكبرى وحدها، بل بهذه القصص الإنسانية التي تضيء الطريق حين يشتد الظلام. والكتابة عن الإنسان، حين تُنجز بصدق ومسؤولية، ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة أخلاقية تذكّرنا بأن ما يجمع البشر أعمق بكثير مما يفرّقهم.
---
|