صنعاء نيوز/جميل مفرِّح -
أيُّها الشَّاكي بصمتِكَ ورويَّتكَ.. لا تستسلمْ لأنْ يكونُ الحُزنُ إحدى عاداتكَ، ولا لأنْ يغدو البُكاءُ جزءاً مِنْ ملامحِ وجهِكَ الوَضَّاء.. لا تأبّهْ بمن يتزلَّجون على جُفونِكَ، وتجرحُ معاوِلُ حاجاتِهم بريقَ مآقيكَ الوادِعَة.. اذرفْهم ولو لمرَّةٍ من حَدَقاتِكَ كما يذرفونَكَ كلَّ لحظةٍ مِنْ علائمِ وفائهم، وانبذِ انتماءهم ولو لبُرهةٍ, كما ينبذونَكَ مِنْ وجهةِ امتنانِهم.. إنَّهم في أمَسِّ الحاجةِ إلى أُبوَّتِك قبلَ وأكثرَ مِنْ أن تستدعيهم حاجتُك المُلحَّةُ إلى أبناء..
* * *
أيُّها الموبوءُ بالحبِّ والسَمَاحةِ والإيثارِ والوفاءِ في زمنٍ لم يعد ذووه يؤمنون بخُرافاتٍ كهذه, حسبُكَ أنْ تتَّخذَ مِنَ الحُبِّ صلاةً وطقوساً مُقدَّسةً للتقرُّبِ مِنْ كلِّ ما هوَ في مرتبةِ السُّموِّ عَدَانا.. وفخرُكَ أنَّكَ ستظلُّ كبيراً بحجمِ المَحبَّة في السَّماءِ والأرضِ، وستظلُّ تكبرُ وتكبرُ لأنَّكَ لا تستطيعُ سوى ذلك, فيما نظلُّ صغاراً بحجمِ مكائدِنا الرَّخيصةِ، ونظلُّ نصغرُ ونصغرُ لأنَّنا لا نريدُ لأنفسِنا أكثرَ وأسمى من ذلك..
* * *
سَيِّدي الطَّاهرَ النقيَّ.. رائحةُ التُّرابِ لديكَ لازمةٌ مِنْ لوازمِ الخُلودِ وشهادةٌ مِنْ شهاداتِ الانتماءِ التي لا تنتظرُها لأنَّكَ مَنْ يهبُها، فلا تبتئسْ حين تحثو حماقاتُنا ومطامعُنا البلهاءُ الترابَ في ملامحِ بهجتِكَ ويفاعةِ حِلمكَ، فإنَّنا إنَّما نزجي الطُّهرَ على الطَّهارةِ ذاتِها وإنْ يكُنْ بأيدٍ مُدَنَّسةٍ بالجحود..
* * *
أيُّها المُتجمهرُ كإلهٍ قادمٍ مِنَ الأزلِ، والخاشعُ كقدِّيسٍ مُتَدلٍّ مِنْ سَماءِ الأبديةِ.. لا تنَهَ أجنحتَكَ عَنِ الرَّفرفةِ، ولا قلبَكَ عَنِ الغِناءِ، ولا تُغمضْ عينيكَ في وجوهِ الآمالِ التي لا يُجيد سواكَ رسمَ معلَّقاتِها وترتيلَ نشيدِها.. كُنْ كما عوَّدتَنا أحلاماً مُتقنةَ التَّخيُّلِ، كُنْ صانعَ أحلامٍ مُحترفاً، حديقةَ أحلامٍ غنَّاءَ، كُنْ مُتفائلاً كما يليقُ بمثلِكَ مِنَ الاعتقاداتِ، ولكنْ.. لا تُمعِنْ في المغفرةِ، ولا تبالغْ في التَّنازُلاتِ، لا تَتَسامَحْ حِين يُحوِّلُكَ الجشعُ إلى مُجرَّدِ نتيجةٍ رِبحيَّةٍ, أو رقمٍ في خاناتِ تِجارةٍ خاسرةٍ بَخْسَة..
* * *
أيُّها الشَّيخُ الطَّاعِنُ في الصَّمتِ والجَلَدِ, المُتوغِّلُ في فضائلِ الصَّفحِ والعَفوِ.. طَعنَّاكَ مِراراً حيثُ لم تكُنْ تتوقَّعُ أن تُطعَنَ, فتَحَايلْنا عليكَ وسَرَقْنا ,كلَّ تلك المرَّاتِ, عفوَكَ، وتوغَّلْنا في قلبِكَ نَسْتَظِلُّ بأمانِكَ فسرقناهُ أيضاً.. إنَّنا, يا سيِّدي, نقتلُكَ في قُلوبِنا ونَسيرُ في جنازتِكَ المَنْهُوبةِ إلى مَثواكَ الأوَّلِ ومَسْقَطِ رأسِكَ الأخيرِ, ثمَّ نتَّفقُ على اتِّهامِكَ بالتَّهدُّل والسَّذاجةِ والشَّيخوخةِ ثم بالانتِحارِ.. وأخيراً لا نُبقي منكَ عَدا صُورةٍ مُعلَّقةٍ على جُدرانِنا المُتَّسِخَةٍ بالخديعةِ، صُورةٍ قديمةٍ نؤطِّرُها بالعويلِ الماكرِ, ونغسلُ زُجاجَها كُلَّ تذكُّرٍ بِبُصاقِ النُّكران..
* * *
أيُّها القديمُ الثَّمينُ كقطعةٍ أثريَّةٍ، والجديدُ المُتخيَّلُ كابتسامةِ طفلٍ لم يولدْ بَعدُ.. تأمَّلْنا واسخَرْ مِنَّا ما طابَ لكَ، ونحنُ نُمعنُ هنا في ذبحكَ كقربانٍ لآلهةٍ افتراضيَّةٍ, ونتقاسمُ لحمَكَ كأُضحيةٍ, ثمَّ ما نبرحُ نُلطِّخُ ثيابَ بعضِنا بدمِكَ الزَّكيِّ, تأمَّلْ ذلك المشهدَ الفانتازي وأنت في حَضْرَتِنا شاخصُ الحِيلةِ والحيرةِ، تُحاولُ ألَّا تُصدِّقَ حواسَّكَ، وأن تبتكرَ ما تجودُ به اللحظةُ مِنَ المعاذيرِ والتَّبريراتِ لِجَهَالتِنا عليكَ، وتَتَمَنَّى مِنْ كلِّ حقيقتِكَ ومعناكَ أنْ نتَّفقَ على إرثك حيَّاً، ثمَّ تُسرِفُ بعد ذلك في الدُّعاءِ لنا بالتَّوفيقِ والهدايةِ..
* * *
أيُّها الأبُ المفؤودُ بنا، المفجوعُ برحيلِنا أصغرَ ممَّا يجبُ.. لا تَنْكَسرْ على أبوابِنا الآنَ, تَجَلَّدْ مليَّاً، نسألُكَ مزيداً مِنَ التروِّي على حافتِنا قبلَ أن تُغرقَنا مُلوحَةُ دَمعِكَ.. فُسحةً منَ الألمِ والأملِ, ويكبرُ أبناؤكَ كما تُريدُ لهم أو وشيكاً مِنْ ذلك، قليلاً ويهرمُ النُّكرانُ والخديعةُ, فيتقَوَّسُ ظَهراهُما ويُقْبَرانِ مُنحَنييَنِ..
* * *
سيِّدي.. الوطن.. لا تأخذْكَ الهزيمةُ إلى رُبوعِها, ويجرُّك العاقُّونَ إلى مَرَاتِبِهم، دَعِ البُكاءَ الآنَ وإنْ يَكُنْ علينا, اتركْهُ لِمَنْ لا يُجيدُ إلا أداءهُ.. لنا, ونحنُ نُوصدُ اليومَ حواسَّنا تِجاهَ نشيجِكَ وحشرجاتِكَ المَكبوتةِ كبُركانٍ ما يَزالُ مُتوارياً.. وانتظرْنا على نهايةِ الوقيعةِ هذه, عمَّا قريبٍ سَنجِدُ أشواقَكَ, كما عوَّدْتَنا أيضاً, في الانتظارِ, وسَنجِدُ حواسَّكَ مُشرعةً على كُلِّ جِهاتِنا, ولن تَجِدْ منَّا غيرَ البُكاءِ.. إنَّهُ كلُّ ما سيتَبَقَّى لنا وكلُّ ما سَنستطيعُ."