صنعاء نيوز - عكفت في السنوات الأربعين الماضية علي متابعة ملف الوحدة الوطنية المصرية وتطورات الشأن القبطي حيث كانت أطروحتي للدكتوراه من جامعة‏

الثلاثاء, 26-يناير-2010
بقلم: د. مصطفى الفقى -


عكفت في السنوات الأربعين الماضية علي متابعة ملف الوحدة الوطنية المصرية وتطورات الشأن القبطي حيث كانت أطروحتي للدكتوراه من جامعة‏'‏ لندن‏'‏ حول موضوع‏'‏ الأقباط في السياسة المصرية‏'‏ مع دراسة تطبيقية علي‏'‏ مكرم عبيد‏'‏ باشا القطب الوفدي الكبير وسكرتير عام الحزب لمدة تصل إلي خمسة عشر عاما.






,‏ وقد كان ذلك السياسي المصري متحركا علي ساحة الوطن كله ولم يكن حبيس طائفته‏,‏ من هنا جاءت قيمته وتميزه في تاريخ الفترة‏'‏ الليبرالية‏'‏ من الحياة السياسية المصرية‏(19-1952)‏ ولقد اكتشفت من دراستي الطويلة لقضية العلاقة بين المسلمين والأقباط في‏'‏ مصر‏'‏ أن الجبهة المصرية في مجملها قوية ومنيعة ولكن تتسلل إليها أحيانا من خلال مراكز الضعف فيها بعض الأفكار الخاطئة والتأويلات المغلوطة التي تؤدي إلي التحريض المتبادل وضرب الأمة المصرية في أغلي ما لديها وهو‏'‏ وحدتها الوطنية‏'‏ ولقد تضمن كتابي عن‏'‏ الأقباط في السياسة المصرية‏'‏ منحني بيانيا للعلاقة الطردية بين عدد أعضاء‏'‏ حزب الوفد‏'‏ في البرلمان وبين نسبة الأقباط بينهم‏,‏ فقد كان ذلك في العصر الملكي عندما كان‏'‏ الوفد‏'‏ هو وعاء الحركة الوطنية وحزب شعاراته‏'‏ ليبرالية‏''‏ علمانية‏'‏ تتمسك بالوحدة الوطنية‏,‏ وعندما قامت ثورة يوليو‏1952‏ خلا تنظيم ضباط الأحرار تقريبا من الأسماء القبطية‏,‏ وأتذكر أن الدكتور‏'‏ لويس عوض‏'‏ قد قال لي ذات يوم ونحن علي مائدة الغداء في العاصمة البريطانية‏'‏ لندن‏'‏ إن الرئيس الراحل‏'‏ عبد الناصر‏'‏ كان يكلف جهاز المباحث العامة بمتابعة ما يدور في الكنائس‏,‏ فقلت له‏,‏ ولكنه كان يرسلهم أكثر لمتابعة ما يدور في المساجد أيضا فتلك سمات الأنظمة السلطوية عندما تحكم قبضتها علي شعوبها‏,‏ ومع ذلك لم نسمع عن أحداث طائفية ذات بال في العصر‏'‏ الناصري‏'‏ إذ إن‏'‏ عبد الناصر‏'‏ قد ضرب التيار الإسلامي متمثلا في جماعة‏'‏ الإخوان المسلمين‏'‏ ضربتين قاصمتين أولاهما عام‏1954‏ والثانية عام‏1965‏ وهو ما أدي إلي إحساس عام بأن نظام الحكم يقف محايدا بين أتباع الديانات‏,‏ وعندما تولي الرئيس الراحل‏'‏ السادات‏'‏ السلطة لعبت الكيمياء المفقودة بينه وبين البابا الجديد‏'‏ شنودة الثالث‏'‏ دورا سلبيا أدي إلي تداعيات مؤسفة انتهت بالنفي الاختياري‏'‏ للبابا‏'‏ في الدير بل واغتيال الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ في يوم مشهود من أيامه المجيدة‏,‏ وأنا أظن مخلصا أن الرئيس‏'‏ مبارك‏'‏ يقف من الأقباط موقفا موضوعيا وجادا ويتعامل معهم كمصريين بالدرجة الأولي‏,‏ ولقد سمعت منه مباشرة كيف كانت أم زميله القبطي في المدرسة تعتني بهما معا وهما يستذكران الدروس معا بلا تفرقة أو تمييز‏,‏ لذلك كان طبيعيا أن يسترد الأقباط في عهده قدريا لا بأس به من حقوقهم الطبيعية ومع ذلك اشتعل مسلسل الفتن الطائفية لأسباب متعددة لعلنا نناقشها في النقاط التالية‏:‏
أولا‏:‏ إن نشاط‏'‏ الفيروس‏'‏ الطائفي وانتشار جرثومة الفتنة هما نتاج لحالة الاحتقان العام والشحن الديني من الطرفين وانتشار الشائعات المغرضة والتهويل في تصوير الأحداث علي نحو يوغر الصدور وينشر التوتر‏,‏ كما أن المناخ الدولي للسنوات الأخيرة يشجع علي ذلك إذ إن هناك حالة تربص متبادلة بين‏'‏ الإسلام‏'‏ و‏'‏الغرب المسيحي‏'‏ وهو ما ينعكس بالضرورة علي المناخ العام ويؤدي إلي التصعيد في حالة العداء أحيانا بين المسلمين وغيرهم‏.‏
ثانيا‏:‏ إنني أدعي أن هناك مسئولية تقع علي كاهل‏'‏ المؤسسات الدينية‏'‏ في الجانبين فأنا لا أفهم كيف يلوذ القبطي‏'‏ بالكاتدرائية‏'‏ ويتظاهر المسلم أمام‏'‏ الأزهر‏'‏ إذا كانت هناك قضية دينية أو مشكلات طائفية‏,‏ فالأصل هو أن‏'‏ مصر‏'‏ دولة مدنية يتصدر المادة الأولي من دستورها مبدأ‏'‏ المواطنة‏'‏ بما يحمله من مساواة في المراكز القانونية والحقوق والتكاليف بين أبناء الوطن الواحد علي اختلاف مواقفهم وتنوع أوضاعهم‏,‏ مسلمين ومسيحيين‏,‏ رجالا ونساء‏,‏ فقراء وأغنياء‏,‏ فالمواطنة تعني المساواة برغم الاختلافات بين المواطنين لذلك فإنني أتصور أن المصريين ـ مسلمين ومسيحيين ـ يلجأون عند الحاجة إلي سلطات الدولة‏'‏ التشريعية‏'‏ متمثلة في البرلمان أو‏'‏ القضائية‏'‏ متمثلة في مقر محكمة النقض و‏'‏التنفيذية‏'‏ متمثلة في القصر الجمهوري أو مقر مجلس الوزراء فنحن جميعاي مصريون قبل أي اعتبار آخر‏.‏
ثالثا‏:‏ إن استقراء تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية في‏'‏ مصر‏'‏ يوحي بأن هناك أرضية مشتركة وقدرا من الفهم المتبادل‏,‏ فقد وحدت بينهم الحركة الوطنية والثورة الشعبية وامتزجت الدماء في ساحات القتال عندما كان الوطن يحارب من أجل كرامته ومصالحه‏,‏ ولست أجد سببا قويا للتحريض علي الكراهية أو تحقير الآخر خصوصا وأن الكل يلتقي في ساحات المدارس والمعاهد والجامعات وفي التجنيد بالقوات المسلحة‏,‏ فالتعليم والجيش بوتقتان تنصهر فيهما الأمة ويشتد بهما النسيج الوطني‏,‏ وأنا ممن يظنون أن علي الأغلبية العددية مسئولية رعاية الأقلية العددية بل ومجاملتها أيضا ولقد تعلمت من تجربة عملي لعدة سنوات في‏'‏ الهند‏'‏ أن إعطاء الأقلية ميزات أكثر يؤدي إلي ارتياح أكبر في الوطن كله‏,‏ و‏'‏الهند‏'‏ بالمناسبة لم تحدد ديانة معينة لأية وظيفة كبري في بلد المليار نسمة بل وتركتها دائما لعنصر الكفاءة وحدها‏.‏
رابعا‏:‏ إنني ألاحظ أننا نتعامل مع المشكلات الطائفية أحيانا بإنكار وجودها أو التهويل بشأنها‏,‏ أو التهوين من أمرها أو الاستخفاف بتاريخها‏,‏ ونحن نري أن كل ذلك مرفوض فالمنطق السليم يقضي بالتعامل السوي مع المشكلة في إطارها الحقيقي علماي بأن إنكار وجودها والاستخفاف بتأثيرها هو حماقة يدفع الوطن ثمنها من رصيده في أقرب وقت‏.‏
خامسا‏:‏ إن التحميل علي أجهزة الأمن وحدها لكل مشكلات الوطن بدءا من‏'‏ إنفلونزا الخنازير والطيور‏'‏ مرورا‏'‏ بالفتن الطائفية‏'‏ وصولاي إلي‏'‏ مكافحة الإرهاب‏'‏ وهو أمر لا نكاد نجد له نظيرا في أي دولة أخري في العالم المعاصر‏,‏ فالحلول الأمنية وحدها لا تكفي والحاجة إليها تأتي إذا وقعت الواقعة ولكن الأساليب الوقائية وأيضا الطرق العلاجية لا تكون أبدا أمنية فقط بل هي ثقافية سياسية إنسانية‏.‏
سادسا‏:‏ إننا نطالب بتغليظ العقوبة علي مثيري الفتنة والمحرضين علي الكراهية فإذا كنا قد قبلنا الإعدام حتي الموت عقوبة لتاجري المخدرات ومغتصبي الإناث فما بالنا بمن يضربون الوطن في مقتل ويصيبونه في القلب ويغتصبون استقراره ويتاجرون بأمنه ويحيلون أجواءه إلي اضطراب وفوضي‏,‏ ويبعثون بمستقبله‏,‏ إننا في حاجة إلي تشريع قاطع يجرم الأفعال الطائفية ويشدد العقوبة علي مثيري الفتن الذين باعوا ضميرهم قبل أن يبيعوا وطنهم‏.‏
سابعا‏:‏ لقد جعلت عنوانا لهذه القضية‏'‏ الوعي الغائب والرؤية المفقودة‏'‏ لكي أشير إلي حقيقة مؤداها أن الحل علي المدي الطويل لا يتحقق إلا من خلال التربية الوطنية الصحيحة التي تستند إلي الرؤية الشاملة والوعي الكامل ولا تقف عند حدود طائفية‏,‏ فالمؤسسات الدينية ومصادر الثقافة وأدوات الإعلام وقبلها جميعا التعليم في كل مراحله هي منظومة واحدة مسئولة عن صياغة مستقبل الوطن واستشراف ملامحه‏,‏ فالذين يشبون علي التسامح الحقيقي والمحبة المتبادلة سوف يكونون بالضرورة درعا واقية لأمن الوطن وسلامته‏.‏
‏..‏ تلك قراءة في المشهد الحزين الذي عاشته بعض قري الصعيد ومدنه نتيجة بعض التصرفات غير المسئولة والأعمال التي لم ترتفع إلي مستوي شراكة الوطن الواحد والإحساس بالمخاطر التي تحيط به والقوي التي تتصيد حاضره وتتربص بمستقبله‏,‏ إننا ـ أيها السادة ـ محتاجون إلي قراءة جديدة للأحداث التي جرت وإلي حلول غير تقليدية للمشكلات التي وجدت‏,‏ ولعلي أطالب هنا بالإسراع في إصدار القانون الموحد لدور العبادة‏,‏ والذي سوف يمتص ما لا يقل عن خمسين بالمائة من أسباب الاحتقان الطائفي‏,‏ ويرفع عن كاهل الوطن شبهة التمييز أو تهمة التقصير لأنه وطن عريق التقت علي أرضه الحضارات وامتزجت الثقافات وتعايشت الديانات وحتي لا نتباكي ذات يوم علي الرؤية الغائبة والوعي المفقود‏

تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 06:14 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-1783.htm