صنعاء نيوز/احمد صالح الفقيه -
واقع التنمية في العالم الإسلامي والنامي:
إن من أفضل التي يمكنني التنويه بها للتنمية في مجتمع إسلامي هما النموذجان التركي والماليزي ، فلنستمع إلى ما يقوله أولئك الذين تمكنوا من قطع شوط كبير في طريق التنمية، دون أن يتخلوا عن إسلامهم، منشئين دولة ديمقراطية بل وفي ظل الملكية الدستورية؛ يقول الدكتور محاضر محمد رئيس وزراء ماليزيا ورجل الدولة المتميز:
"إن الإسلام لا يعاني من مشكلة الجمع بين الدين والدولة، تلك المشكلة التي واجهت أوروبا في عصر النهضة عندما استحال عليها الجمع بين الدين والدولة فكان الانفصال حتمياً" ثم يضيف قائلاً" "إن الجمع بين الإسلام والعصرنة والتصنيع ممكن بل هو الأصل في روح الإسلام الحقيقية" (المستقلة العدد 80 في 20 نوفمبر 95) أما الشاب المناضل والسياسي اللامع أنور إبراهيم نائب رئيس الوزراء ووزير المالية في ماليزيا فيقول في تلخيص صائب لتخبط التحليلات الغربية واتباعها: "بعض الذين تشربوا من الثقافة الغربية من المفكرين المسلمين لازالوا يرددون بأن الأمة الإسلامية عاجزة عن التقدم وهم معجبون بما كتبه ماكس فيبر الذي ادعى بأن العالم الإسلامي، أو أي عالم آخر، لا يستطيع أن يخطو خطوات إلى الأمام في درب الحضارة والتقدم. ولم هذا؟ لأن أهله - على حد زعمه - لا يملكون القيم البروتستانتية. ولقد خاب زعم فيبر؛ إذ استطاعت اليابان أن تصل إلى قمة الحضارة والتقدم وليس في جعبتها قيم بروتستانتية، ثم ادعى الغربيون أن هذا التقدم الياباني مرده إلى قيم (التوكوجاوا) اليابانية. وعندما أطلت عليهم الصين بحضارتها وتقدمها، قالوا أن السر يكمن في (القيم الكونفوشية). والآن عندما بدأت الأمة الإسلامية ممثلة في ماليزيا واندونيسيا وسنغافورة - تخطو خطوات على طريق الحضارة والتقدم الاقتصادي، بدأ علماء الاجتماع في الغرب يبحثون عن سر نجاح الأمة الإسلامية، حتى تقدم عالم الاجتماع ارنست جليز بالوصفة الدوائية المناسبة فقال: "إن السر يكمن في الإسلام الرفيع" (المستقلة العدد 80 في 20/11/95م).
وأقول أن العالم الإسلامي بأسره يندرج ضمن ما اصطلح على تسميته بالعالم الثالث أو العالم النامي، وفيما يتعلق بأقطار العالم الإسلامي فقد نالت غالبيتها استقلالها الوطني من الاستعمار الكولونيالي في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ أي أن الفترة الزمنية التي مرت على معظمها منذ الاستقلال لا تزيد عن 48 عاماً على الأكثر.
وقد سلكت الدول النامية ومن ضمنها الأقطار الإسلامية أحد أربعة مسارات متباينة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي انقسم فيه الغرب إلى منظومتين؛ هي منظومة حلف الأطلسي الرأسمالية ومنظومة حلف وارسو الاشتراكية وهذه المسارات هي:
(1) المسار الأول سلكته فئة من الدول النامية التي بقيت تحت نير الاستعمار فظلت مستعمرة ولم تتمكن من تحقيق استقلالها الوطني. والأقطار الإسلامية في هذه الفئة هي البوسنة والدول الإسلامية الست التي كانت ضمن الإتحاد السوفياتي حتى نهاية الثمانينيات ومازال بعض الأقطار الإسلامية واقعاً تحت الهيمنة الروسية كجمهوريات القوقاز، وهناك جيبوتي وجزر القمر التي تأخر استقلالها إلى عهد قريب، ثم فلسطين الأسيرة. وقد حققت كلها بعض المكاسب التنموية في البنية التحتية والتعليم والصحة والزراعة والصناعة، ضمن الشروط الخاصة بالدول المستعمرة، ووفق أولوياتها هي، فكانت تنمية ناقصة ومشوهة بكل تأكيد.
(2) المسار الثاني سلكته فئة من الدول النامية التي اندمجت في المنظومة الاشتراكية متخذة الشيوعية عقيدة ونظاماً. ومن الأقطار الإسلامية في هذه الفئة البانيا واليمن الجنوبي والصومال، وقد فشلت كلها في تحقيق أي تنمية بسبب من تحولها إلى ساحة للصراع بين المنظومتين، والتكاليف التي كبدتها إياها الحروب والصراعات، وأثرها على البنية التحتية الاقتصادية. ثم ما سببه الحصار الاقتصادي المفروض عليها من المنظومة الرأسمالية الغربية من خسائر وأضرار، هذا إلى جانب ضعف مواردها الاقتصادية والطبيعية، وانعدام مصادر التراكم الرأسمالي اللازم لعملية التنمية. وقد ترافق ذلك مع المنهج الاقتصادي الفاشل للاشتراكية التي أحلت القسر والقهر مكان الحافز الربحي المادي في دفع الإنسان إلى العمل والنشاط.
(3) المسار الثالث سلكته فئة ثالثة تحالفت عسكرياً وسياسياً مع المنظومة الاشتراكية، وانتهجت طريقاً خاصاً بها على الصعيدين الثقافي والاقتصادي، ومن الأقطار الإسلامية في هذه الفئة: مصر والعراق والجزائر وسوريا، وليبيا ما بعد السبعينيات، وباكستان ذات الوضع الفريد التي جمعت بين التحالف مع كل من الصين الشيوعية والولايات المتحدة الأمريكية. وقد وقعت هذه الفئة ضحية للمؤامرات الهادفة إلى تغيير أنظمتها لإلحاقها بالمنظومة الرأسمالية. وتعرض معظمها للعدوان العسكري المباشر. كما أن طبيعة التحديات التي واجهتها دفعتها إلى اتخاذ أولويات اقتصادية لا تتناسب مع إمكانياتها، على الرغم من توفر الموارد المالية لبعضها، فاتجهت إلى التصنيع الثقيل والصناعات الحربية على حساب الزراعة والصناعات الخفيفة؛ الأمر الذي انعكس سلباً على تقدمها في طريق التنمية. وقد عاد معظمها إلى التحالف مع الغرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
(4)
أما المسار الرابع، فقد سلكته غالبية الأقطار الإسلامية التي تحالفت سياسياً وعسكرياً مع المنظومة الرأسمالية الغربية، وهي تنقسم إلى قسمين:
أ- القسم الأول وضم كلاً من دول الخليج العربية الخمس، والسعودية والأردن وتونس وبروني والمغرب وموريتانيا والسنغال ونيجيريا والنيجر ومالي وغينيا والسودان وتوجو وأفغانستان وبنين وفولتا العليا وتشاد والكاميرون، وشمال اليمن باستثناء سنوات الثورة الأولى، ولبنان والمالديف، وقد تعرضت كلها للاستغلال والنهب المنظمين كما هي عليه علاقة الغرب الرأسمالي النموذجية بالآخر، وبالذات العالم الثالث. فلم تحقق من التنمية إلا بالقدر الذي تسمح به مواردها الذاتية أو بالأصح ما تبقى منها بعد النهب، وترك من لا يمتلك موارد ذاتية منها لمصيره، يكابد كل معضلات الفقر والمرض والجهل والتخلف والحروب الأهلية وغيرها.
ب- أما القسم الثاني: وهو القسم المحظوظ الذي وضعته حظوظه الجغرافية على خطوط التماس مع دول المنظومة الاشتراكية، أو حلفائها المندمجين بها من دول العالم الثالث، فقد استفاد من المظلة العسكرية للمنظومة الرأسمالية لحمايته، فوفر نفقات الدفاع الباهظة واستفاد من مساعدات وقروض وفرت له تراكم الرأسمال اللازم للتنمية، وكان حصيفاً أيضا في اختيار أولوياته، ربما بنصيحة مخلصة من حلفائه الغربيين، فاهتم بالزراعة، والصناعات الخفيفة والاستهلاكية الموجهة للتصدير، واهتم اهتماماً مركزاً بالتعليم حتى حقق المعرفة التقنية اللازمة، مع التراكم الرأسمالي الكافي للدخول في الصناعات الثقيلة، والأخرى ذات التقنيات المتقدمة، مستفيداً غاية الاستفادة من مزاياه النسبية، كرخص الأيدي العاملة، ومستفيدا من الأسواق المفتوحة أمامه في الغرب، معتمداً نظاماً هو مزيج من التخطيط على النمط الاشتراكي، واقتصاد السوق. وذلك هو حال النمور الآسيوية الخمسة، ومنها أقطار إسلامية كماليزيا، كما هو حال أقطار إسلامية أخرى كتركيا وإندونيسيا، وإيران ما قبل الثورة، والتي أرجعتها حرب الخليج الأولى سنوات طويلة إلى الوراء، وهي تسير الآن سيرا حثيثا الى مقدمة الصفوف محققة رغم الحصار الشرس انجازات باهرة.
إذا تمعنا في أسباب النجاح الذي حققته كل من: ماليزيا وتركيا وإندونيسيا ، لوجدنا أن هناك عوامل ستا على وجه الحصر هي:
وجود دولة مؤسسات يسود فيها القانون بغض النظر عن جوره أو عدالته.
استقرار سياسي نسبي ينجم أساساً على انتهاج سياسات خارجية براجماتية واقعية .
إنفاق عسكري ضعيف ومصادر تمويل كافية أدت إلى تراكم جيد للرأسمال حيث لا موارد.
برامج تعليم ممتازة وفرت قدرات تقنية جيدة.
تركيز على الأولويات الصحيحة وهي البنية التحتية (مواصلات، اتصالات، موانئ، كهرباء، مجاري إلخ.) ثم الزراعة والصناعات الخفيفة التصديرية، ثم بعد توفر الشروط اللازمة الدخول في الصناعات الثقيلة أو التقنيات المتقدمة أو كليهما معاً.
انتهاج سياسات اقتصادية هي مزيج من التخطيط واقتصاد السوق.
وتشكل ايران استثناء من هذه القاعدة فيما يتعلق بالسياسية الخارجية والانفاق العسكري وهي لذلك في خطر عظيم من هجوم الامبريالية عليها، وعلينا الانتظار لرؤية المصير.
وكما نرى فإن العالم الإسلامي يمكنه توفير كل تلك العوامل، سواء على مستوى كل قطر على حدة، أو كمجموعة بمجرد إنجازه لتنسيق سياسي واقتصادي وثقافي وعسكري، يمكنه من السيطرة على موارده الاقتصادية، وحماية أرضه وموارده من عدوان المعتدين ونهبهم.
والأقطار الإسلامية التي تشكل الأمة الإسلامية، تستطيع إنجاز التنمية إذا توفرت لها العوامل الآنفة الذكر على وجه الحصر، وما منعها من إنجاز التنمية إلا عجزها عن اتباع السياسات الصحيحة المذكورة آنفا، ثم الهيمنة والنهب الغربيان، وهي لا خلاص لها منهما إلا بتحقيق شكل من أشكال الوحدة يوفر لها القوة والمنعة في ساحة الصراع العالمية، أو قل غابة الصراع العالمية.
أما العوامل الأخرى التي ملأ البعض بها أسماعنا وشغلوا بها كثيراً من وقتنا فإننا نناقشها فيما يلي:
1- العامل الثقافي وأثره على التنمية:
إن دول العالم الثالث التي نجحت في قطع شوط واعد على طريق التنمية يبشر بالنجاح، تضم دولاً ذات غالبية إسلامية كماليزيا واندونيسيا وتركيا، كما تضم دولاً تدين بالبوذية مثل كوريا الجنوبية، أو الهندوسية كالهند، وأخرى تغلب عليها الكونفوشية كتايوان والصين وهونج كونج، ومزيجً منهما كاليابان؛ الأمر الذي يدل بجلاء على أن الدين، أياً يكن هذا الدين، ليس عاملاً سلبيا،ً بل إنه إيجابي. وذلك لأن الأديان كلها لها جوانب أخلاقية إيجابيةن تهدف إلى تقويم سلوك الفرد إزاء الآخرين، ومن ثم إيجاد مجتمع ينعم بالتعاون والرخاء والسلام.
وكما يلاحظ الدكتور أبو بكر السقاف "فإن وراء أصالة الثقافات تاريخ خاص بكل منها، وهذا التاريخ سند للإنسان المعاصر الذي ينتمي إلى هذه الثقافة أو تلك، ومن الصعوبة بمكان تصور هذا السند الروحي حياً ومؤثراً في الواقع إلا إذا أصبح جزءاً من حياة الفكر المعاصرة وعندئذ نجد الاستمرار الثقافي ماثلاً في شتى مجالات الحياة المعاصرة". كتابات (1) ص ،197م 14 أكتوبر عدن.
والدين بعد له فضاءاته الروحية الخاصة خارج الجوانب العملية لحياة الإنسان التي يتعلق بها فعل التنمية، وهو يقدم أجوبة على أسئلة لا يوجد لها جواب شاف في غيره؛ فلا غرابة والحال هذه، أن يخرج عالم هندي من غرفة عمليات إطلاق الصواريخ الحاملة للأقمار الصناعية، إلى ساحة معبد يقدم فيه القرابين والدعوات إلى بقرة بيضاء مقدسة. وبالمقابل فإن العلمنة المتطرفة لتركيا وجهود التغريب الحقيقية لم تجعل التجربة التركية تتفوق على المثال الماليزي الا عندما تسنم السلطة حزب مصنف بأنه اسلامي.
لقد أثبت التاريخ المعاصر المشاهد بما لا يدع مجالاً للشك إن التخلف الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي لا يمكن أن يعزى إلى الموروث الثقافي لأي مجتمع، حيث أن كل مجتمع بما هو إنساني، قابل للتكيف واكتساب المهارات التي تتناسب مع توجهه الاقتصادي أو الحضاري عموماً، ومع مستوى تطوره في كل فترة، دون أن يكون للثقافة الموروثة وللدين منها بالذات، أي أثر معيق أو سلبي. بل أن السياسات المحاربة للثقافات الموروثة، أثرت سلبياً على التنمية لما أثارته من صراعات غير مجدية. فالهند الهندوكية تشهد نهضة هذه الأيام وكذلك مجتمعات إسلامية كايران وتركيا، كما توجد في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مجتمعات مسيحية متخلفة.
وأهم ما يتعلق بالبعد الثقافي وأثره على التنمية هو المحتوى الذي يصبغ به المجتمع المعني، سواء في العلاقة بين الشرائح والطبقات الاجتماعية المكونة للمجتمع أو علاقة الدولة بالمجتمع كسلطة، أو فيما يتعلق بعلاقة المجتمع المعني بالمجتمعات الأخرى، كما سنرى لاحقاً، وهي إشكاليات ينبغي حلها ديمقراطياً وفي غمار العمل السياسي من أجل الديمقراطية والتي يتم الحل سليماً من خلال آلياتها.
2- شكل نظام الحكم وأثره على التنمية
إن أشكال أنظمة الحكم في تلك الدول التي حققت النجاح في التنمية كلياً أو جزئياً متنوعة بل ومتناقضة، وذلك في كل من النمور الآسيوية الخمسة (كوريا الجنوبية، وتايوان، وهونج كونج وسنغافورة وماليزيا) وفي غيرها كاليابان واندونيسيا وتركيا وتايلاند، فمنها من لا يزال أو كان يحكم حكماً ديكتاتورياً عسكرياً إلى اعوام قليلة خلت، مثل كوريا وتايوان واندونيسيا وتركيا.. ومنها من كان شكل الحكم فيه ديمقراطياً كهونج كونج المستعمرة البريطانية واليابان وماليزيا ومنها من حكم حكماً أوتوقراطياً عسكرياً كتايلاند، او قي ظل ديكتاتورية مدنية كسنغافورة.
ونستنتج من ذلك أن شكل نظام الحكم السياسي هو عامل ثانوي عندما يتعلق الأمر بالتنمية مباشرة، وأن آثاره المخربة للمجتمع والدولة تراكمية تاريخية وليست قصيرة المدى. وان العامل الاهم ان يكون لدى النخبة الحاكمة مشروع حضاري طموح وان تطبق العوامل الستة التي ذكرناها أعلاه.
بل إن اليابان كمثال ساطع، أنجزت التنمية في حقبتين متباينتين سياسياً، وذلك فيما قبل الحرب العالمية الثانية وهي محكومة حكماً أوتوقراطيا عسكريا، وفيما بعد الحرب العالمية الثانية وهي محكومة حكماً ليبرالياً ديمقراطياً.
وهناك مثل الصين الشيوعية التي حققت قفزات تنموية هائلة خلال الأعوام العشرين الأخيرة، عندما سقط الحصار الاقتصادي الغربي من حولها، وأتيحت لها فرصة التعامل الاقتصادي المفتوح من بقية أنحاء العالم بعد حسم الصراع الأيديولوجي الداخلي لصالح الانفتاح.
3- أثر الفساد على التنمية:
وهناك عامل آخر يتعلق بدرجة انتشار الفساد المالي والإداري والسياسي في أنظمة الحكم وشرائح من المجتمع، وهو يبدو لي بدوره هامشياً في تأثيره على التنمية، طالما ظل مجرماً من قبل القانون الذي يحد من استشرائه وانتشاره. فهناك اليابان التي لا تسلم حكومة من حكوماتها الكثيرة المتعاقبة من فضائح الفساد المالي واستغلال النفوذ. وكذلك كوريا الجنوبية التي مثل عدد من رؤسائها أمام المحاكم بتهم الخيانة أو الفساد المالي، وكذلك الفساد المالي الذي كان قد استشري في إندونيسيا.
وحتى في الغرب الرأسمالي كإيطاليا التي اجتاح الفساد فيها كامل الدوائر السياسية حتى وصل إلى القضاء نفسه كما كانت تنقله الأنباء إلينا كل يوم.
هذا إضافة إلى انتشار العصابات المنظمة للإجرام وتداخلها مع السلطة في كثير من تلك المجتمعات، كعصابات المافيا الإيطالية وعصابات التراياد الصينية، وعصابات الياكوزا اليابانية.
ولكن المهم ان يلاحق القانون الفساد والا يتحول الفساد الى مؤسسة شبه شرعية، الامر الذي يحد من انتشاره وآثاره الضارة، كماهو عليه الحال في تلك الدول التي ذكرنا.
وعند هذا الحد لا بد من أن أتساءل ويتساءل غيري عن جدوى انقلابات وثورات وانتفاضات ما بعد الاستقلال؟ أكانت كلها إضافة معطلة لجهود الأمة في سيرها نحو التنمية؟
الطريق الإسلامي إلى التنمية ثقافياً
إن العائق الأكبر أمام أقطار الأمة الإسلامية لتحقيق التنمية، تمثل في مجموعة أسباب محددة بصورة حصرية فيما يلي:
1- هيمنة الغرب الرأسمالي الذي قسم العالم على هواه وحسب مصالحه حتى تسهل عليه السيطرة والنهب المنظم لموارد الشعوب وفي مقدمتها أقطار الأمة الإسلامية. وهو جانب لا يمكن تجاوزه بشكل إفرادي وإنما بتحقيق شكل من أشكال الوحدة بين أقطار الأمة نظراً للفجوة الكبيرة في موازين القوى والإمكانيات المادية.
2- وجود إسرائيل في المنطقة العربية الذي وجد لعرقلة تقدم وإمكانيات وحدة الأمة الإسلامية والشعوب العربية في قلبها. وأدى إلى امتصاص كثير جداً من جهد العرب وثرواتهم فوجهها في اتجاهات لا تخدم التنمية وبالذات التسلح. ولا خلاص للعرب من هذا العائق وإيقاف تهديده عند حده إلا بالإستقواء بالأمة الإسلامية. وهذا الاستقواء بالتنسيق ما بين الأقطار الإسلامية أراه ممكنا في إطار الأنظمة القائمة؛ لأن هناك مصالح ملموسة تجمعها، في حين أن كل ما يفرقها مصطنع وموحى به من أعدائها.
3- انعدام الاستقرار السياسي وذلك ناتج عن السببين الأولين وعن السياسات الخارجية المغامرة.
4- انعدام التراكم للرأسمال الكافي وهو ناتج عن السبب الأول المتمثل في النهب الغربي لموارد العالم الإسلامي.
5- عدم التركيز على الأولويات الصحيحة حيث تتوفر الموارد وذلك أيضاً نتيجة للسببين الأولين.
6- عدم قلب قاعدة التعليم وتصحيحها من شكلها اللاعقلاني الحالي، وبحيث يغلب عليها التعليم الفني والمهني بدلاً من التعليم الأكاديمي، وهذا عائق ذاتي سهل التصحيح.
أما دور الإسلام في التنمية فيتمثل في محتوى التنمية، فلا يمكن للعالم الإسلامي المتمسك بقيمه الدينية أن يتبع النموذج الغربي. وإن كان ذلك لا علاقة له بالنجاح في تحقيق التنمية في حد ذاته، فقد أراد الله سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية أن تكون أمة وسطاً فقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) والوسطية بمعنى الاعتدال هي الصفة الرشيدة للأمة الإسلامية، فلا شطط ولا تطرف في أية ناحية من نواحي الفكر والعمل والعيش؛ سواء في العلاقات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية بل ولا حتى في العبادات.
ذلك هو منهج الأمة الإسلامية في مقابل التطرف الغربي ذي الفلسفات الوضعية التي أنتجت التطرف الغربي الذي أدى إلى إشاعة الفساد في الأرض والبحر والجو، والذي يهدد بإهلاك الحرث والنسل تخريباً للبيئة وإضراراً بالمخلوقات كلها، بشراً وحيواناً ونباتاً وجماداً. فالتنمية والتقدم الحضاري في المجتمعات الغربية قائمان على فلسفة أنتجت شعار (التقدم بأي ثمن) ووضعت لها هدفاً هو (السعادة بالمتعة والإشباع)، وكلاهما شعاران متطرفان بلا قيد أو وازع، فجعلت من إشباع النوازع المنفلتة الأساس الأيديولوجي وغاية البناء المادي؛ سواء لرجال المال والاقتصاد الساعين إلى الربح دونما نظر إلى كيفية تحصيله، أو المستهلكين المسرفين. ومن ثم تشجيع الإنتاج والاستهلاك دونما حاجة حقيقية، إلى حد تجاوز السرف إلى السفه، وتلك جوانب مرفوضة من قبل الإسلام، ولابد للأمة الإسلامية من التنبه إليها وهي تنجز التنمية.
لقد كان من الثمرات المرة القريبة للفلسفة الغربية هذه حربان عالميتان أودتا بحياة مائة مليون من البشر، وخلفت مئات الملايين من المشوهين جسدياً ونفسياً على مذبح الجشع الغربي في تهافته على النهب والربح.
ثم أودى صراع التنافس بين المنظومين الغربيتين بحياة مائتي مليون من سكان العالم النامي، وذلك في حروب التنافس بين المعسكرين التي جرت على أرض العالم النامي هذه المرة، أو بالمجاعات والأوبئة الناجمة عنها.
إن رسالة العالم الإسلامي ودوره الحضاري يحتمان عليه أن يسلك طريقاً يهتدي بالقيم الإسلامية في التنمية، فلا نخرب البيئة، ولا نستنزف الموارد، ولا نسرف في الاستهلاك، ولا نستثمر الإنسان أونعتدي على حرياته وكرامته وأمنه، ولا نقبل بتجاور الفقر المدقع والثراء الفاحش، ولا نعتدي على أحد.
إن اتباع النموذج الغربي من قبل العالم النامي، سيؤدي إلى دمار أكيد للإنسانية في كوكب يتزايد سكانه باطراد وتتناقص مصادره الطبيعية باطراد. ورسالة العالم الإسلامي ودوره الحضاري يتلخصان في القيام بدور الكابح لهذا الإفساد في الأرض المتمثل في السفه الاستهلاكي الغربي خاصة وأن جزءاً كبيراً من هذا السفه يمارس على حساب موارد وثروات العالم الإسلامي.