د. رؤوفة حسن -
أشياء كثيرة في تاريخ اليمن المعاصر تحتاج من اليمنيين واليمنيات إعادة التفكير فيها على نحو يمكن به إعادة النِّصاب للأمور الصحيحة والجميلة. لنأخذ مثلا، الرجال والنساء الذين لعبوا دورا رياديا في تاريخنا يستحقون أن نرد لهم الجميل بشكل أو بآخر.
فالشوارع التي تحمل أرقاما في رأيي لا تعني أكثر من قلة المعروف ونكران الجميل لدى الذين يخططون والذين ينظًرون لهم، فيعتبرون الرقم حلا لمشكلة عدم التوصل إلى الاتفاق على أحقية شخص ما أو شخصة في أن يحمل زقاق أو منعطف أسمه ليذكر بما قام أو قامت به.
خطر ذلك في بالي وأنا أجد أن شهر مارس مر بيوم للنساء ويمر اليوم بآخر مخصص للأمهات. فلدينا أم مثالية نكرمها في هذا العيد فلم يقترح أحد اسمها ليوضع على شارع أو زقاق أو زاوية. ربما أن الوزارة المسؤولة عن التخطيط الحضري مطالبة بالاحتفال بعيد الأم والإجماع على شخصية نسائية، وبعيد الثورة للإجماع على شخصية ثورية وهكذا.
فالمعهد الدبلوماسي مثلا كرم الدكتورة الأستاذة عزة غانم بمناسبة يوم النساء العالمي على جهود زيادة تتمتع بها في تاريخ اليمن المعاصر لا ينازعها عليها أحد. وهي ووالدها يستحقان أن تسمى بأسمائهما شوارع رئيسة تدل على نصاعة التاريخ الذي يزين حياتهما والدور المتميز الذي أدياه في صنعاء وعدن كنموذج اتفاق يستحقانه من كل القوى.
وكذلك المرحوم أحمد جابر عفيف وزوجته خديجة الشرفي أطال الله عمرها كنموذج فذ ريادي عصامي تفخر به تهامة وصنعاء ورواد منظمات المجتمع المدني الحديث. وكان ملتقى الرقي والتقدم قد لفت الأنظار إلى أهمية التكريم لهما كفعل يستحق الاستمرار والديمومة بكل الأشكال المتاحة.
في كل المدن اليمنية رموز تاريخية وريادية من النساء والرجال في عصرنا الحديث، لا نحتاج إلى ألف عام حتى نقبل بتكريمهم على نحو مستمر. فمن السهل أن تجد شوارع وأماكن وحتى جامعات باسم بلقيس وأروى وأسماء وغيرهن ممن نستحضرهن من تاريخنا القديم بينما ندخل من نعاصر جهودهم في أرشيفات النسيان عمدا وعن سبق ترصد لأن تغييب القدوة مجال لعبث الدخلاء.
عود على بدء:
الأشياء الجميلة في تاريخنا المعاصر ليست فقط في الأشخاص وقد أشرت إلى أسماء محدودة كمثال لا كحصر، فالقائمة طويلة، بل أن هذه الأشياء هي في القضايا الكبار التي تبنيناها وتبناها من قبلنا من حلموا لنا بيمن أكثر سعادة ورخاء.
فالدستور مثلا الذي ناضل في سبيله الرعيل الأول وحصلنا عليه بدساتير متعددة بعد ذلك في الدول الشطرية ثم في دولة الوحدة، هو حلم كان مجرد العمل من اجل وجوده ذات يوم في تاريخ بلادنا جريمة يسجن عليها الناس أعواما طويلة. واليوم نتعامل مع هذا الدستور ببساطة نعدله ثم نعيد تعديله وكأنه وثيقة مطروحة للتغيير وليس للثبات. هذا الدستور يحتاج إلى آباء وأمهات يتحملون مسؤولية تاريخية في استشراف المستقبل تعيد صياغته مرة واحدة لهذا القرن وكفى.
ومثل ذلك الديمقراطية نكتسبها بصعوبة فلما ينشأ الديمقراطيون من رحم الشمولية ويبدأون ثغاء الكلمات الأولى في تعلم الحروف الأولى لها، نستعين ببعضنا ضد بعض ونقصف على رؤوس بعضنا الحروف ثم نلهب ظهورهم كي يخرجوا إلى الشوارع وبعدها نستعذب أصوات الرصاص وننسى أن حلم الديمقراطية هو حلم المساواة والعدل والإنصاف والقول الصادق والوضوح ورفض المهانة والخوف.
هذه الديمقراطية تحتاج منا لإنقاذها منا ومن خنوع بعضنا تبرعا بالخضوع.
العربة والحصان:
العود إلى بدايات الأشياء يعني تصحيح الرؤى والنظر بواقعية إلى لحظة الولادة. حوادث كل يوم وتهريج وسائل الفضائيات الغوغائي يجب أن لا يفقدنا البصر والبصيرة. فاليمن اليوم بحاجة حالات تأمل وهدوء. ربما يحتاج معظم الساسة إلى تدريب خاص على تصفية الذات من سيطرة الهوامش والقضايا الجانبية وربما يحتاج بعضهم إلى إجازات طويلة وإجبارية لخلق حالة توازن في النفوس. لأن العمل المستمر بدون توقف يؤدي إلى فقدان التركيز ومن ثم فقدان الإنتاجية وبالتالي الوقوع في حلول نزقة غير مبنية على تفكير متزن أو عوامل منطقية مما يؤدي إلى وضع العربة قبل الحصان.
أحلام كثيرة وضع أهل هذه البلاد عليها جل تطلعاتهم وفي غمرة ازدحام القضايا الصغيرة في دورات البحث عن الأكل والشرب والنور وفرص الحياة الكريمة، نسوها. لذا يحتاجون دوما للتوقف لحظة والعودة إلى نقطة البداية. وللأمهات اليوم كل عام وانتن في خير قبل أن يقال لنا بأن الاحتفاء بكن بدعة وضلالة.
|