صنعاء نيوز -
الشيباني : يتوجب على الجيل الجديد إحداث قطيعة مع بنية المراكز التقليدية
السلامي : منعطفات خطيرة تهدد فكرة رسوخ الدولة ولا تساعد على دوام الاستقرار
جرمة : جيراننا لا يريدون لنا السقوط ولا التحول الإيجابي سوى في حدود دنيا
آراء ـ دخيل الخليفة
* إلى أين يمضي اليمن ؟ هل ثمة انفتاح وتنمية منتظرة في غياب الأمن والتخطيط السليم؟ هل هناك ديمقراطية حقيقية تلوح بالأفق؟ أم أن سيطرة الحزب الحاكم السابق ستبطل مفعول ذلك ؟ ما أهمية التغيير في ظل سيطرة عائلة الرئيس السابق على الجيش والحرس الجمهوري؟ ماذا عن الشطر الجنوبي من اليمن؟ هل تتوقعون استمراره أم يسعى للانفصال بناء على دعوات تقودها فئات لاترغب بوحدة الشعب اليمني؟ هل ما يحدث سببه تغليب للقبيلة على الوطن؟ أم هو صراع رؤوس الأحزاب الدينية والقبلية ؟ أين تكمن الحلول ؟ أسئلة طرحتها ( آراء ) على ثلاثة مثقفين وكاتب يمنيين لاستشراف الحالة اليمنية حاضرا ومستقبلا..
يقول الشاعر والكاتب محمد عبد الوهاب الشيباني : " إن العام 2011 العاصف الذي شهده اليمن كشف هول الكارثة التي ترزح تحتها البلاد برمتها شمالاً وجنوباً، فقد عمل النظام مثل بقية الانظمة الديكتاتورية على ترحيل مشاكل البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومراكمتها حتى تحولت الى فاتورة باهظة يتوجب على الجميع سرعة سدادها نيابة عن نخبة الحكم بتركيبتها العسكرية والقبلية وعصبويتهما"
ويضرب مثالا بأن صوت المظلومية في الجنوب الذي ولد بفعل اجتياح الجنوب صيف 1994 ، لم يلتفت إليه أحد ليتحول منذ مطلع العام 2007 الى حراك سلمي له مطالبه الحقوقية ،قبل ان يتحول الى صوت مرتفع يطالب بفك الارتباط واستعادة الدولة الجنوبية اجتذب الى صفوفه اغلب الجنوبين الذين احسوا بأن قوى المركز في العاصمة حولت جغرافيتهم بثرواتها وبنيتها الاقتصادية الى ملكيات شخصية لكبار الموظفين والقادة العسكريين ومشائخ القبائل والحاق تاريخهم الثقافي والاجتماعي بالبنية التقليدية المحافظة التي تتحكم بفلسفة الحياة في المركز ومحيطه.
6 حروب عبثية
في سياق آخر ـ كما يوضح الشيباني ـ خاض النظام 6 حروب عبثية في محافظة صعدة، كشفت الايام انها حروب تمت بالوكالة عن أطراف خارجية، لتتلبس بلبوس مذهبية وطائفية حقيرة ،عزفت عليها وسائل القتل بشراسة بالغة، ومن احد تجلياتها أنها كانت تعبر عن التنازعات في البيت الحاكم بين تيار التوريث ومعارضيه الذين قالوا باحقيتهم به لتستيقظ البلاد بعدها على مركز قوى جديد صقلته هذه الحروب وتغذى من تهلهل السلطة ورخواتها هذا المركز عرف بـ (الحوثية)، التي تحولت الى معادل سياسي في المشهد لا يمكن القفز على حضوره في الحياة العامة.
ويرى الشيباني أن هذا النظام لم يتفكك كما ظن البعض بعد 2011 بل يعيد انتاج نفسه بذات الوسائل تقريباً، تبدل رأس النظام وبقت ادواته وفلسفته التي قادت البلاد على مدى ثلاثة عقود الى الكوارث الماحقة. ذات التآلف الحاكم (من العسكر ومشايخ القبائل ورجالات الاسلام السياسي ،بالإضافة الى طبقة رجال الاعمال الطفيليين) لم يزل يمسك بكل المقاليد، مستفيداً من ضعف وهشاشة القوى المدنية (من احزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني ونقابات)،ويسوق ذاته داخلياً وخارجياً، بالكيفية ذاتها التي اتبعها رأس النظام السابق والذي (درّج طريقة بالغة الذرائعيّة في التعامل مع الإرهاب، مؤدّاها تتفيه الموضوع وتسخيفه. فحين كان ينوي لفت نظر الغرب أو الحصول على دعمه، كان يحذّر من الإرهاب، وتحديداً القاعديّ منه، الذي يتعرّض له بلده. أمّا حين لم يكن يُستجاب له، فكان يغضّ النظر عن الإرهاب هذا وعن تصاعده بحيث يغدو عدم الاستجابة مكلفاً وخطيراً في نظر «الغرب»)، على رأي المفكر العربي حازم صاغية.
ويتابع : " حين استخدم صندوق الانتخابات (حين سوق نفسه للخارج) في عدد من الدورات المحلية والبرلمانية والرئاسية لتكريس حكمه خلال العقدين المنصرمين استخدم اسوأ مافي هذه الوسيلة بغية الاستحواذ على النسب المريحة في البرلمان، فرشوة الناخبين البسطاء في هوامش المدن والارياف بقليل من الريالات والمواد الغذائية وكثير من الوعود مكنت الحاكم وباستخدام نظام الدائرة المغلقة من تكديس مجلس النواب بعشرات الاميين من مشايخ قبليين وضباط متقاعدين ومقربين، ليس لديهم من وظيفة في المجلس سوى متابعة المخصصات المالية وملاحقة ووزراء الحكومة لتوقيع الاوراق والحوالات والاهم التصويت لما يُملى عليهم من ولي النعمة، لتمرير القرارات والقوانين المرغوب فيها".
مشكلة اقتصادية
من فلسفة الحكم عند النظام هو تعظيم جغرافية المركز على بقايا البلاد ـ كما يؤكد الشيباني ـ ليتحول الهامش الى مشكلة اقتصادية واجتماعية ،وثقافية اقلها انه صار حاضناً للجماعات الاصولية المتشددة كما هو الحال في مناطق البيضاء وابين وشبوة، وتحويل المدن ذات العمق الثقافي والاقتصادي واحد روافع التنوير في البلاد (مثل تعز) الى مدن طاردة لأبنائها بسبب التعطيش الازلي وعسكرة الحياة فيها بطريقة ممنهجة. وتحويل عدن درة المدن وروحها المدنية الى كتل اسمنتية خاوية بلا روح. وحين بدأ صوت (تهامة) المظلومة تاريخياً بالتململ من الوضع المزري الذي تعيشه جراء الاهمال ونهب الاراضي وارتفاع نسب الفقر ترك النظام عاصمة تهامة (مدينة الحديدة) تغرق في المجاري دون ان يحرك المركز ساكناً لمعالجة مثل هكذا مشكلة لتنضاف الى الجغرافية المنكوبة مشكلة بيئية جديدة الى مشاكلها التي لاتحصى.
تضاعف المشاكل
وحول مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي انطلق قبل اكثر من نصف عام لإخراج البلاد من عنق الزجاجة يقول الشيباني : لقد عوَل اليمنيون كثيراً على المؤتمر غير أن المؤشرات حتى الان تنبئ بتضعيف مشاكل البلاد، لا الى حلها لان اطراف الصراع على الارض نقلوا موضوعات تصارعاتهم المشخصنة الى قاعات (الموفنبيك)،ويعتقد أغلب اليمنيين بأن مخرجات المؤتمر التي قد تفرضها ضغطا دول الرعاية ستشكل هي الاخرى ترحيلا جديداً لمشاكل البلاد ،لان التمييع سمة واضحة من سمات الادارة في البلاد وعلى رأسها الادارة بالأزمات كما الفنا ذلك لسنوات.
ويضيف : " على مدى خمسة عقود تطلع اليمنيون الى بناء دولة جديدة بنظام سياسي يحقق المساوة والعدالة الاجتماعية، الى جانب انتاج منظومة من البنى الحديثة في الثقافة والتعليم والتطبيب، بدلا عن دولة العزلة والتخلف والتحكم باسم المقدس".
تحقق شكلي
وعما إذا كانت هناك بعض النقلات النوعية في شكل الدولة ونظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي يقول إنها تحققت (شكلياً على الاقل) قبل أن تسجل انتكاسات مرهقة ،بفعل التجاذبات السياسية واستقطاباتها الحادة التي انتجت حالة من اللاستقرار التي انتجت طبقة جديدة للحكم تحولت بمرور الوقت الى بنية صلبة تشظت الى مراكز قوى متعارضة خارجياً لكنها متصالحة جوهرياً ،لان الذي يجمعها هو التراجعات القيمية في المجتمع التي اتاحت لهذه المراكز ان تستطيل وتتقوى وتتكيف ايضا مع كل المتغيرات ،بما فيها تحولها الى قوى ثورية منذ مارس 2011م!!!
ويستدرك الشيباني : "هذه الطبقة هي ذاتها التي تحاول جاهدة لإعادة رسم مسارات المستقبل بما يلبي رغبتها في الاستحواذ والسيطرة مرة اخرى".
ويختم الشيباني رؤيته للوضع بالقول : " إن ما بشرت به ثورة سبتمبر واكتوبر قبل خمسين عاما ومابشرت به ثورة فبراير(2011) اختصرته لصالحها القوى التقليدية المحافظة التي تتقاطع مصالحها مع أي عملية تحول وتغيير، لهذا تعمل من اجل بقاء الحال في مربع التخلف ،لهذا يتوجب على الوعي الجديد ان يجاهد لإحداث قطيعة مع بنية هذه المراكز ومسنوداتها الثقافية والاجتماعية والسياسية".
أفق غائم
في الاتجاه نفسه يقول الشاعر والكاتب اليمني أحمد السلامي : " إن الأفق في اليمن لايزال غائماً؛ وكل المؤشرات لا تنبئ بتحولات جديدة؛ تضع هذا البلد في سكة السير باتجاه الانفتاح والالتفات للتنمية".
ويشير السلامي إلى أن ما يعيق مسألة التنمية ليست قضايا مثل غياب الأمن والتخطيط على أهميتها وضرورتها لأي خطة تنموية. بل إن العائق الأبرز في اليمن هو التضعضع المتكرر للاستقرار السياسي ودخول البلد بانتظام في منعطفات خطيرة تهدد فكرة رسوخ الدولة ولا تساعد على دوام الاستقرار بمعناه الشامل".
ويرى أن "ما يحدث هو أن البلاد تعاني من إشكالية العودة المتكررة إلى نقطة الصفر بخصوص التوافق حول الهوية السياسة للدولة وشكل نظام الحكم وآلياته. أعني هوية الدولة التي لا يروق لبعض البنى الاجتماعية ومراكز النفوذ أن تكتسب شخصية اعتبارية مؤسسية وحديثة؛ بحيث تضع في اعتبارها أن المواطنة والمساواة تقوم على الفردية؛ لا على معايير أخرى تشرعن في السر لتقاسم المصالح بين قوى جهوية وسياسية بعينها. وهي القوى التي تمنح نفسها دائماً الحق في أن ترث كل المراحل وأن تضع قواعد الحياة السياسية بما يخدم بقاءها مهيمنة على السلطة وعلى الموارد والفرص الاقتصادية".
قوى متخلفة
وعما إذا كانت هل هناك ديمقراطية حقيقية تلوح بالأفق، أم أن سيطرة الحزب الحاكم السابق ستبطل مفعول ذلك يقول السلامي : " حتى إذا انتهت سيطرة الحزب الحاكم سابقاً على المشهد؛ سوف تبقى الديمقراطية في اليمن أداة حديثة لإدارة الصراع والتنافس بين قوى أغلبها متخلفة؛ لأنها إما مذهبية أو جهوية مناطقية وقبائلية؛ في حين يزداد تراجع القوى والتيارات التي تنشط على أساس برامج ورؤى سياسية معنية بالمجتمع ككل".
ديمقراطية مقنعة
ويفسر الأمر بأن المشكلة ليست في سيطرة الحزب الحاكم على الحياة السياسية؛ إذ من حقه أن يتواجد في المشهد بما يتناسب مع شعبيته. لكن المشكلة تكمن في أن الحزبية تحولت إلى واجهة شكلية لجماعات ما قبل سياسية. وقد ظلت التجربة الديمقراطية في السابق تتحرك شكلياً بأقنعة حزبية؛ تصدّرها الحزب الحاكم الذي لا يزال حتى الآن شريكاً في الحكم بنصف مقاعد الحكومة. والآن هناك قوى جديدة برزت مثل (الحوثيين) وقوى الحراك السياسي في الجنوب إضافة إلى حزب الرشاد السلفي؛ كما حدث انقسام في حزب المؤتمر الشعبي الذي كان ينفرد بالحكم من قبل؛ وأفضى إلى تشكل حزبين ناشئين وإن كان هذا الانقسام لم يحدث ضجيجاً ولم يثبت بعد مدى خطورته وتأثيره على الأداء الإنتخابي لحزب المؤتمر".
وإجمالاً ـ كما يوضح السلامي ـ يتقاسم التيار الإسلامي الإخواني التنافس والحضور في الساحة مع مكونات سياسية أخرى بعضها عابرة للقبيلة والجهوية مثل اليساريين والقوميين. بينما تتستر القبيلة ومراكز النفوذ بتواجدها الكثيف داخل حزب المؤتمر كما تتواجد في حزب الإصلاح (إخوان مسلمون) بدرجة أقل.
باب التغيير
وحول أهمية التغيير في ظل سيطرة عائلة الرئيس السابق على الجيش والحرس الجمهوري يؤكد السلامي أن "هناك تفكيك ملحوظ وملموس لتواجد أفراد عائلة الرئيس السابق في الجيش. لكن أي تغيير جذري في المشهد السياسي اليمني يتطلب ما هو أكثر بكثير من تحييد الجيش".
وينبه إلى أن إزاحة الرئيس السابق وعائلته من الحكم فتحت باباً للتغيير؛ لكن فتح الباب ووجود الفرصة بحد ذاتها قد لا يكون كافياً في حال غياب العوامل الذاتية المجتمعية التي تكفل إحداث تغيير لا يقوم على الإستسلام لكارثة القابلية والجاهزية الخطيرة لدى اليمنيين للتشظي إلى أقاليم وجهات ومسميات تتجاوز الإشارة المألوفة إلى جنوب وشمال.
ويردف : " هذه المسميات لم نكن نسمع بها عندما كان اسم اليمن هو عنوان خريطة البلد، لكن يبدو أن مؤتمر الحوار في صنعاء ماض باتجاه تقسيم اليمن إلى أقاليم. وهذا النوع من التغيير الشكلي والخطير في نفس الوقت يشير إلى أن فرصة التغيير في طريقها إلى الضياع؛ إذ أن الأولوية الكبرى للتغيير في اليمن كان من المفترض أن تتصل بفكرة إيجاد كيان للدولة أولاً ثم التفكير بعد رسوخ الكيان في شكل التقسيم المحلي. لكنهم عكسوا المسألة وأنا أعلن خوفي وتشاؤمي من مشروع الأقاليم".
نظام ( الوحدة)
وعن رؤيته للشطر الجنوبي من اليمن ، وما إذا كان يتوقع استمراره أم يسعى للانفصال بناء على دعوات تقودها فئات لا ترغب بوحدة الشعب ، يقول السلامي : " إن ما يتحكم في مسألة بقاء الوحدة أو انتصار خيار الانفصال هو النجاح أو الفشل في إيجاد نظام سياسي لدولة الوحدة يساوي بين المواطنين؛ ولا يمنح الأفضلية أو الغلبة والهيمنة لطرف بعينة، وفي الواقع أن الجنوبيين الذين يطالبون بالإنفصال على حق. لأن ما حدث منذ عام 1994م وحتى الآن جعل الجنوب مجرد مساحة جغرافية يستثمر أراضيها وينهب ثرواتها قلة قليلة من حيتان الشمال بالتواطؤ مع ما تسمى مجازاً بالدولة. لذا فإن خروج أو إخراج الجنوبيون بقوة الحرب من معادلة الشراكة الوطنية هو ما يبرر ظهور دعوات الإنفصال".
ويعتقد بأن الإتكاء على هوية يمنية واحدة تجمع الشمال والجنوب مسألة غير كافية لضمان وجود كيان سياسي حديث وناضج للدولة. لأن الهوية الواحدة بمعطياتها الثقافية المشتركة قد تكون عاملا مساعداً لتحقيق الإندماج الوطني والشعوري داخل المجتمع الذي يشكل شعب الدولة، لكن وحدة الهوية لا تصنع بمفردها دولة حديثة.
ويسترسل : " لقد كان اليمنيون قبل الوحدة السياسية يشعرون بأنهم شعب واحد؛ ولم يكن وجود نظامين ودولتين في الشطرين يزعزع هذا الشعور. والآن تم اختبار الوحدة في أفقها السياسي فكادت أن تقضي على الوحدة في أفقها الشعبي".
مخاف دولية
ويمضي إلى القول : " إن ما يعيق حدوث كارثة الانفصال ـ التي لا أتمناها ـ هي مخاوف المجتمع الدولي من النشاط المتصاعد لتنظيم القاعدة والمجموعات الإرهابية في أغلب محافظات الجنوب. بالإضافة إلى انقسام التيارات الجنوبية وعدم وضوح رؤيتها تجاه ما بعد الإنفصال؛ فضلا عن اضطراب وتعدد فهم وتصورات المجموعات الإنفصالية لهوية الجنوب. لأن الدولة الشطرية التي نشأت بعد خروج الاستعمار البريطاني واستمرت حتى قيام الوحدة (1967 – 1990) ظلت تتغنى بهوية يمنية واحدة وظلت تعتبر قيام الدولة في الجنوب خطوة على طريق التوحد مع الشمال ، لدينا الآن شعب واحد بدولة تمضي في اتجاهات جعلت من الوحدة السياسية غنيمة لشطر وكارثة على الشطر الآخر. ويلزمنا وقت لتتضح معالم التغيير في الدولة بعد خروج الرئيس السابق من الحكم".
القبيلة والدولة
وعما إذا كان الوضع الحالي سببه تغليب للقبيلة على الوطن، أم هو صراع رؤوس الأحزاب الدينية والقبلية، وأين تكمن الحلول في ظل ذلك .. يقول السلامي : " ذات حوار مع الصحفي المصري الشهير هيكل؛ وصف ما جرى ويجري في اليمن بأنه محاولة للانتقال من القبيلة إلى الدولة. حينها غضب الكثير من اليمنيين ضد توصيف هيكل. بينما أراه توصيفاً دقيقاً ونظرة مكثفة للأوضاع في اليمن على هيئة قراءة كلية للواقع بعيداً عن التفاصيل ، وبناء عليه أرى أن الحل يكمن بالفعل في انتقال اليمن من ارتهان الدولة للقبيلة إلى ارتهان القبيلة وكل مراكز القوى والنفوذ لدولة قوية تبسط نفوذها وسلطتها بالشكل الذي يتسق مع أبسط تعريف لمعنى الدولة في اللغة السياسة المعاصرة".
بعد تاريخي
الشاعر والناشط اليمني محيي الدين جرمة ينطلق في تفسيره للحالة من القول : "كان يفترض أن اليمن وعلى مدى تراكم نضالات الشعب وجسامة تضحياته منذ أكثر من نصف قرن قد مضت أن يمضي إلى طور بعيد في التحولات الديمقراطية المنهجية بالمعنى السياسي لمعيارية الدولة الديمقراطية،التي تبني على تقاليد نضالات استهدفت من خلال الثورة الأولى في سبتمبر في الشمال وثورة أكتوبر في الجنوب فكرة تأسيس وبناء الدولة".
غير أن ما حدث ـ كما يقول جرمة ـ هو أن صحيفة (الثورة) الجريدة الرسمية الأولى في خطابها المزامن للثورة الكلاسيكية الأولى للعسكر في الشمال أخذت طابع الانقلاب في تأويلات عدة لدى كثيرين مع الثورة ،وأخذ بعضهم ينساق وراء صناعة مجد زائف من خلال تكريس انفسهم كأيقوانات بزعم (صناع التاريخ) وأصحاب (المذكرات) و(الرصيد النضالي) أو مناضلي (ثورة سبتمبر) مع الاحترام لكثير منهم.
ولاءات مؤجرة
ويتابع : " إن ما جرى وما حدث خلال العقود الماضية يؤكد تحولهم على يد الشمولية العائلية إلى مجرد ولاءات مؤجرة لعلي صالح وتحالفاته من القوى التقليدية والمشيخات ونفوذ بعض الجنرالات،في تعطيل المشروع الوطني لفكرة الدولة من خلال ماعرف بفترة الإجهاز على فصيل وطني تمثل فكرة الدولة وأعني به الضمير السياسي الوطني للوظيفة العامة والمؤسسات ونظام التعاونيات والسلطة المحلية التي كادت أن تصير تجربة ونموذجا يقدم للعالم في تميزه ودأبه بفن وإخلاص في إدارة الشأن العام بعيدا عن الإستحواذ أو الإلحاق المجحف الذي اختطف الدولة والحياة اليمنية والمستقبل اليمني الذي أعطى حالا من التصالح مع مرحلة ما بعد جريمة اغتيال جبانة وغاشمة استهدفت الرئيس الشهيد المقدم إبراهيم الحمدي وأخيه عبد الله في منزل الغشمي "رئيس " مرحلة تالية مهدت لمن جاء بعد ذلك ليحكم بطريقة الجريمة السياسية ويأكل الأخضر واليابس،وكانت تلك الجريمة التي دبرت في وضح النهار بإشراف سياسي وممثل عسكري لبلد جار مازال يدمر اليمن حتى الآن".
صورة حمراء
ويرى جرمة أن تلك الحالة كانت هي الصورة الحمراء والدامية في الحكم والتي وُعد بها اليمنيون لفترة حكم الرجعية العسكرية بخلفية تحالفها وجهوياتها القبلية وأدوات اشتغالاها لصالح غتر نفط بليدة في المنطقة وأعني في رمزية هذه الدلالة بالخصوص ما جاور اليمن وتاخمها على صعيد جيوسياسي كانت له تأثيراته التراجيدية في إنعكاساتها ضد اليمن واليمنيين كحالة أميل إلى نزعة عداء تارخي لتناقضات وتقاطعات فكرتين "هما الديمقراطية في ظل نظام جمهوري الطبيعي انه قام بثورة أطاحت بملكية تحاكي في صورة سقوطها الإيحاء ولو البعيد المدى في الثورة على ملكية أخرى تمثل اليوم حالا من الطفرة النفطية والاستحواذ والاستبداد ومن ثم التغول حتى في قضم ما حولها وفي كنفها من دول وجغرافيات صغيرة صغيرة أو كبيرة،في هذه المنطقة على وجه الخصوص.
وينبه جرمة إلى أن بعض الجيران في اللحظة الراهنة وفي شكل تحالفات الاستراتيجية الإقليمية والدولية يشكلون حالا من الإرتياب والتوجس والممانعات لبعض الدول حين يعمدون للتغذية بالمال وسلطة النفط للحؤول دون حدوث أي تحول ديمقراطي في اليمن وغيرها من الدول العربية.وهم لا يريدون لليمن لا السقوط ولا التحول الإيجابي سوى في حدود دنيا.
الدين والعسكر
وعن الحالة الراهنة يقول : " إن اليمن لا تزال تحكم بطريقة التعامل السياسي بنفس نمط حكم اوليغارشية عائلية تغلب مصلحتها كطفيلة على المصالح العامة للشعب والوطن،وهي اليوم تعيد صورة تحالفاتها القديمة والجديدة متمثلة في تشبيك وظيفة الدين والعسكر والسلطة والقبيلة ضد فكرة الدولة المدنية الديمقراطية اللامركزية ،وهي نفسها التحالفات التي باتت تعيد إنتاج نفسها كمعادلة اليوم في التحشيد والممانعة ضد فكرة الدولة الحديثة في معياريتها المدنية على أسس المواطنة والعدالة الإجتماعية في الثروة،في حين أن الدولة وبناءها صار في المزاج العام خيارا شعبيا وصارت فكرتها كبناء وتأسيس موضع إجماع وطني لدى أطياف الشعب في اليمن ومعه القوى المدنية والوطنية في مرحلة خطيرة كهذه وعصيبة وفارقة تاريخيا ومشتبكة الصراعات والمصالح الضيقة لقوى ومراكز نفوذ بعينها هي اليوم تضع نفسها هي الأخرى في محل فرز وإنكشاف لعورة رهاناتها الخاسرة في شراء وتأجير الولاءات".
حلول لايعول عليها
وأما بشأن الحلول في اللحظة اليمنية الآن ـ كما يوضح محيي الدين جرمة ـ فقد عرف الشعب اليوم أن ما يجري في معطيات التسوية السياسية وتناقضات خطابها وتقاطعات مصالحها لا يعول عليه،وسوف ينتج خياراته بنفسه قريبا خصوصا في حال اصطدمت مصالح القوى السياسية الواقعة هي الأخرى في مأزق غياب الرؤية والدولة،والخيارات أمام الشعب اليمني ستبقى تأخذ بتقاليد ومطالب المجتمع الكويتي لجهة أن الكويت كانت من الدول العربية السباقة في تأسيس ديمقراطية بصورة أو بأخرى أرست حالا من قيم المدنية المتراكمة في نسيج مجتمعها.
ويسترسل : " لايستطيع أي رهان أن يقضي على ثقافة أو اعتقاد عند الناس بشأن حرياتهم وحقوقهم ورؤيتهم إلى الحياة من زواية التسامح والتعايش،أما طابع الانقلاب السياسي على الثورات في اليمن خاصة فهو ديدن تاريخي لدى كثير من الانتهازية السياسية التي تدجنت منذ عقود ضد الفكرة الديمقراطية والهدف الذي ضحى الشعب من أجله لمراحل طويلة وحتى في مسألة الوحدة التي بقي الجنوبيون ولا يزالون أكثر وحودية خارج كل المزايدت،لكن أيضا علينا أن نحترم خياراتهم ورؤاهم وقضيتهم التي تمثل عصبا معها لإلتئام اليمن بالمعنى الوطني والإستقلالي عن الإقطاع السياسي والقبلي لأصحاب النفوذ".
صاحب الجلالة
ويردف : " من مفارقة التاريخ أن صحيفة (الثورة ) في الشمال والتي مثلت جوهر الفكرة في مرحلة التأسيس والإنطلاقة كان صدر منها عدد واحد فقط لا غير لم يتكرر بعد ذلك حين صدر في العام 1962م،وكانت أولى إفتتاحية لصحيفة الثورة بعنوان(صاحب الجلالة الشعب)،والحقيقة أن ذلك كان أول وآخر عدد صدر من تلك الصحيفة ، وما تلاها صادر الفكرة وحول الثورة إلى (فكرة المستبد) وصيرت الشخص أو الرئيس مختزلا في وطن".
ويضيف : " إن وأد الصحيفة والفكرة أفرز تدمير تقاليد الدولة في الجنوب بعد عام تسعين أيضا من الوحدة السياسية التي وُئدت في مهدها الأول ،وأعني بالمفارقة هنا بقصد الإسقاط على مرحلة فكرة جديدة ومشابهة هي ما حدث في اليمن من تأسيس فكرة (الثورة) والمشابهة من حيث العوامل وإقترابها أو وتفاوتها موضوعيا مع إختلاف السياقات التاريخية بالطبع من ثورة اليمن الأولى التي تم تفجيرها كما لو كانت مجرد أو محض عبوة ناسفة تم تفجيرها وإنتهى الأمر "!.
|