الثلاثاء, 12-مايو-2009
بقلم: نورة الودغيري -






زينبُ سيدةٌ في العقد الرابع، ممشوقةُ القوام لائقةُ الهندام، بدتْ هادئة الطبع رصينة الحركة وهي تدخلُ مكتبي على استحياء، تعلُو وجهها مسحةُ جمال حزين مُوح بشدّة في نفسها وضيق في صدرها.

رحّبْتُ بها، ودعوتُها إلى الجلوس أمامي، وما كدتُ أستدرجُها في شأن مقْدمها حتّى شرعتْ في سرد مأساة عاشتْها، واسترسلتْ في جرْد محْنة قلبتْ مجرى حياتها.

شبّتْ زينبُ وترعرعتْ في كنف أسرة فقيرة كانت الأرضُ فراشها والسماءُ لحافها، عاشتْ يتيمة بعد أن فقدتْ والدها في حادث سير وهي في ربيع العمْر، فاضطرّتْ والدتُها للعمل في مصنع للخياطة لتدفع عنها شظف العيش، وتولّتْ تدبير شؤونها الأساسية وتلبية حاجياتها الضرورية، وضخّتْ فيها عزما قويّا على الدراسة والترقّي في مدارج المعرفة.

شقّتْ طريقها بثباتها، واجتازتْ حواجزها بعزمها وذكائها، وأدركتْ بذلك نجاحات ونجاحات، وانخرطتْ في الحياة المهنية كمُدرّسة للأطفال، وتمرّستْ في ترويض النفوس على القيم النبيلة وتطويع العقول للمعارف السديدة، واحتلتْ في سنوات معدودات مكانا في قلوب زملائها وزميلاتها، وانتزعتْ ثقتهم وتقديرهم بحسن سيرتها ونقاوة سريرتها ورصانة مواقفها، وأضحتْ في وقت قياسيّ وجْها بارزا في كثير من المحافل وعديد من المجالس.

كانتْ زينبُ مُقبلة على الحياة، مُستبشرة بها، حالمة بغد مُشرق ترى فيه كسائر الأمّهات نورا لرضيع تُلقي به في أحضانها، تضمّه إليها أحيانا وتُقبّل وجْنته أحيانا أخرى.

اقترحتْ عليها إحدى صديقاتها خطبتها لابن عمّها الذي أنشأ له بمدينة الدار البيضاء شركة مُختصّة للتوريد والتصدير إثر عودته النهائية من المهجر.

تردّدتْ في بادئ الأمر، وتمنّعتْ، ولكنّها بمُجرّد التعرّف إليه استحسنتْ الخُطوة، وتجاوبتْ معها.

بدا لها فارسُها منذُ الوهلة الأولى شخصا خليقا بالإعجاب، لوسامته واتّزانه ورقّته ومظاهر بذخه ما جعلها تتعلّقُ به كثيرا، ولا ترضى عنهُ بديلا.

تقدّم إلى أهلها وطلب منهم يدها، وأقام مراسم خطبتها في جوّ عائليّ بهيج، وأحاطها بكامل الاهتمام، وأسبغ عليها أثمن الهدايا، وسريعا ما أكمل إجراءات الزواج، ونظّم حفلا كبيرا لم تشهدْ لهُ المدينةُ مثيلا، وانتقل العريسان للعيش في شقتهما الفخْمة الواقعة على أطراف المدينة، وظلّتْ السعادة تُرفرفُ حولهما شُهورا، وأدركا معا حلاوة العيش وجمال الحياة.

كانت زينبُ تجتهدُ في إسعاد زوجها، وتتفانى في أداء واجباتها، وكان زوجها يقضي أغلب ساعات اليوم في إدارة شركته، ويضطرّ من حين إلى آخر ليُسافر إلى أوربا لأيام معدودة في نطاق مُتطلبات عمله.

وذات يوم لاحظتْ أنّ زوجها قد بدأتْ تنتابهُ حالاتٌ من الشّرود والصمْت والانطواء على الذات، وتزايدتْ ملاحظاتُها مع الأيّام والأسابيع دون أنْ تنجح في فكّ رُموزها والوقوف على أسبابها إلى أنْ تفطّنتْ ذات مساء لوُجود دواء مُضادّ لمرض فقدان المناعة في موْضع من السيّارة خفيّ عن الأنظار، فاهتزّتْ نفسُها، وانهدّ كيانُها، ودبّتْ في جسمها قُشعريرةٌ، وأحسّتْ بدوّار يكادُ يفقدها تماسكها، وانتابتْها موجةٌ من المخاوف والوساوس، واستبدّ بها التفكير في حجم الخطر الماثل أمامها.

وكانتْ كلّما استرجعتْ كثرة أسفار زوجها إلى أوربا تحت ذريعة ضرورات العمل، كلّما ازداد يقينُها واشتدّتْ هواجسُها، ويوم واجهتْه بالحقيقة واعترف بها أخذتْها نوبةٌ هستيريّةٌ، وظلّتْ لأيّام في دوّامة من الأرق لا يُكحّلُ النّومُ لها جفْنا.

أنهتْ زينبُ قصّتها، وتنهّدتْ منْ وطأة غُصّتها، وتساقطتْ حبّاتُ دُموعها على وجْنتيْها الذابلتين وهي تنشدُ غوْثها لمُساعدتها في فكّ مُصيبتها.

كنتُ أتابعُ فصول مأساتها الغريبة وقدْ أخذتْ منْ نفْسي مأخذا شديدا، ولم أتردّدْ في مدّ يدي إليها أمسحُ دُموعها، وأفتحُ لها أبوابا من الأمل، ثمّ أحلْتُها إلى خليّة مُتخصّصة للإحاطة بها ومُساعدتها، وظللتُ أتابعُ شأنها وفي نفْسي مرارة وأسى لما جرتْ به الرّياحُ في حياة تلك السيدة المسكينة، التي كانتْ صرْحا ثمّ هوتْ.
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 12:26 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-245.htm