د.محمد احمد جميعان -
لم يكن الولاء يوما ظاهرا من القول،او مدحا يرتجى في وجه المستهدف من المدح ،بل ان العرب في صفاء سليقتهم وعمق فكرهم اعتبروا مدح الوجه مذمة واي مذمة ،فكان العربي حين يضطره المقام او تدفعه الظروف الى المدح يبادر الحديث بمقدمة يبعد فيها المذمة عن كلامه حتى لا يفهم خطأ ويقع في المحظور بقوله "ترى مدح الوجه مذمة ولكن الحق وجب فيه القول"وهي بلاغة غير مباشرة تعبر عن أساس الولاء الحقيقي تجاه من تكن له الولاء…
ان الولاء شعور وجداني عميق يجعلك تخلص في سريرة نفسك فعلا وعملا وأمانة دون الظاهر من القول التي أجمعت الأديان السماوية والمفاهيم الأرضية على وصفه بالتملق والتزلف والرياء (ومسح الجوخ…)وما الى ذلك من معجم المصطلحات التي تصف المادح الذي يتخذ المدح منهجا له وسياسة يحقق بها اغراضه،لذلك شكلت هذه الاوصاف قاسما مشتركا في ذاكرة الشعوب قاطبة.
والولاء فعل متبادل ،فيه حفظ المقام وصفاء المحبة والمودة وعظم التقدير التي تغرس في القلوب تجاه من يجد فيه القوم علما لهم،حاميا لحياضهم،مدافعا عن حقوقهم،عدلا في مقاضاتهم،أمينا في توزيع المكاسب والثروات عليهم ،يسعى بذمتهم دون تكبر ومحاباة فهو للصغير قبل الكبير،وللعاجز قبل القوي،وللفقير قبل الغني وللوضيع قبل المسؤول…
ولا يستقيم الولاء ولا ينضج ثمره دون قرينة الاخلاص التي تلازمه ان كان القصد من الولاء ديمومة الحال وبقاء الولاء داخل النفس مغروسا،يترجم مواقف لعل اعظمها صدق النصيحة وان كانت مرة، لذلك جاء المثل ليؤكد بان(اتبع من يبكيك،ولا تتبع من يرضيك)ولان الخصم اللدود يتخفى بالمدح والرياء ارضاءا ومداهنة وان الخبيث بطبعه ودهائه يلجأ الى المدح والثناء ليدفع خصمه الى الغرور الذي هو التهلكة بعينها،حتى يطمس البصيرة ويعمي البصر .. واذ بالمفاجات تترى تلاحق بعضها بعضا من شدة ضائقة ومن سوء الى اسوا … واذ بمداحوا اليوم ذاموا المستقبل وجراحوه..وما يضير المادح حين تتغير الاحوال ان يصبح ذاما ومغرق في المذمة ..لذلك فان العقلاء حين يمدحون يحاولون ان يسكتوا المادح او يمنعون انفسهم من سماعه وتاثيره…ومن يقرا مذكرات الحكماء من القادة والرؤساء في التاريخ يجد ان المتآمرين والحاقدين والغادرين هم اكثر المقربين تملقا ونفاقا يستخدمون المدح والثناء مطية لتحقيق اهدافهم ومصالحهم بل وتآمرهم..
ان الكلمة أمانة ،وحين يتحدث المرء عكس ما يشعر وخلافا لما يرى فإنما هي خديعة للنفس وغشا للمقابل يسعى به الى غاية يحققها ..وقد يسهل على المرء ان يكتب مادحا ،فاللغة العربية معروفة في بلاغة لفظها وعمق تأثيرها وسعة مفرداتها..ولكن الصعب كله حين يكتب الإنسان من صميم قلبه وعمق وجدانه وحجم خبرته محللا الوقائع وواضعا البدائل ،آملا في الحلول وناصحا على على ضوء ذلك كله.
ان المؤسف حقا ان تجد من يفسر ويؤول صدق النصيحة تحولا في الولاء ،وهي ولا شك في صلب الولاء نفسه ، وعمق الأمانة ذاتها ،لاينقصها العهد والوعد سوى أنها نابعة من القلب تهدف الى الإصلاح الحقيقي الذي يضمن دعم المسيرة وحسن الخاتمة..
ولا أخال العقلاء والمستنيرين أصحاب البصيرة لا يدركون ذلك في أعماقهم ،أما الذين يفهمون صدق النصيحة في غير محلها فهم قاصدون الإساءة او قاصرون عن فهم ذلك.
ان صدق النصيحة من شيم الكرام أصحاب الخلق والمروءة الذين يدركون معنى الاخلاص والولاء قولا وعملا ومسيرة،وان كيل المديح واسترسال به دون نشوة في حماسة او حاجة في موقف ضروري،إنما هو من شيم الوضاعة ورخص الرجال يفضح عن مطامعهم ومرامي غاياتهم ..ولم يكن ذلك في عهد دون عهد بل هو عبر التاريخ منذ التاريخ والى ان يرث الله الأرض وما عليها بان الصادقين هم الصادقون والمخلصون في ولائهم، لا مراء في قولهم ولا رياء في عهدهم ،أما أصحاب الغايات فهم الذين يقصدونها مدحا وثناءا سرعان ما ينقلب هجاءا ومذمة وما التاريخ عنا ببعيد…
المتقاعدون العسكريون في بيانهم صدقوا النصيحة وكانوا في عين الولاء واخلاصه , اما الاخرون الذين همهم التلون والتخبط وانتهاز الفرص ومهاجمة البيان فانتم اعلم بهم |