صنعاء نيوز - العدول في الوجيز في تفسير القران العزيز
لعلي بن الحسين العاملي(ت1135هـ )

الخميس, 18-ديسمبر-2014
صنعاء نيوز/الدكتور سليم الجصاني -


العدول مادة للجذر(عدل) الذي ورد في المعجمات بمعنى ما قام في النفوس على أنه مستقيم, والعِدل كذلك يراد به المثل مما عادله, لذا يراد بالجذر الاستواء والمساواة؛ وهما معنيان أشار إليهما الخليل ثم بيّن معهما معنى (العدول) في قوله: "والعِدلان: الحملان على الدّابّة، من جانبين وجمعه أعْدالٌ عُدِلَ أحدهما بالآخر في الاستواء كي لا يرجح أحدهما بصاحبه, والعَدْلُ أن تَعْدِلَ الشيء عن وجهه فتميله, عَدَلْتُهُ عن كذا وعَدَلْتُ أنا عن الطريق ورجل عَدْلٌ وامرأة عَدْلٌ سواء. والعِدْلُ أحدُ حِمْلَي الجَمَل،لا يُقالُ إلا لِلحمل، وسمّي عِدْلاً؛ لأنّه يُسَوّى بالآخر بالكيل والوزن.والعَديلُ الّذي يُعادلك في المَحْمِلِ, وتقول اللهم لاعِدْلَ لك،أي لا مثلَ لك"(1).
لذا فالعُدُول يراد به الاستواء والمساواة(2)؛ فضلا عن الميل بغية أن تعدل الشيء عن وجهه لغرض ايجابي يحول دون اعوجاج أحد حملي الجمل بغية منع السقوط, ومنه العدول الذي يراد به الميل المقصود(3)؛ الذي ينتظم على نحو دقيق في إعادة تنظيم واصطفاف مكونات الجملة مع بعضها.
والعدول النحوي هو ما خرج عن الأصل في قواعد النحو ويتناوله النحويون في باب التقدير النحوي بحمل الفرع على الأصل لملحظ بينهما بغية الارتقاء بالمعنى وتقديمه بلغة تأثيرية.
وكثير من مباحث علم النحو فضلا عن مباحث علم المعاني, هي عدولات عن أصل مثالي مفترض, وقد ورد المصطلح على نحو واسع في كتب النحويين(4), واصطلح عليه المحدثون مصطلحات متعددة كالانزياح والانحراف وكسر المألوف والانتهاك والخرق والتغريب والأصالة والمفارقة وغيرها من المصطلحات التي وردت في الأدب والنقد, واستقر منها في اللغة مصطلحا (العدول والانزياح) .
وذهب بعضهم إلى التفريق بين الانزياح والعدول, بعدّ الأول في الدلالة , والثاني في اللغة(5)، غير أن آخرين أشاروا إلى كونهما بمعنى واحد(6).
والعدول خروج عن المستوى المألوف إلى غيره, ولكنه غيره: كالحذف، والتقديم والتأخير، وغيرهما صار مألوفا يمثل نظاما خاصا داخل نظام النحو؛ إذ لا يعدّ خرقا للموضوعات النحوية على نحو تام , بل هو خرق لتفصيلاتها يعمل على كسرٍ يبعث بمنبهات تحفز المرسل إليه.
ومحي الدين العاملي تنبه إلى هذا المصطلح فأشار إليه كثيرا في وجيزه وبيّن دلالاته وأهميته في قوله: "من عادة العرب العدول من أسلوب إلى آخر تفننا في الكلام وتطرية له, وتنشيطا للسامع, وتختص مواقعها بنكت"(7).
أــ العدول عن الإعراب: ورد في عدولٍ من النصب إلى الرفع في تفسير قوله تعالى﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(8)، إذ قال المفسر "ورفع (الْحَمْدُ) بالابتداء, وخبر (للّهِ) وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة , فأصله النصب , وعدل إلى الرفع ليفيد الثبات دون التجدد"(9), وفي نص المفسر إشارة إلى اقتران العدول عن الشكل الإعرابي بالصيغة كونها مصدرا وهو الأصل عند كثير من المفسرين لنصبها بأفعال مضمرة وهي في معنى الإخبار إذ تضارع (شكرا وكفرا) وغيرهما , بيد انه عدل إلى رفعها للدلالة على ثبات المعنى واستقراره، والنصب قراءة بعضهم(10)، وقرأ آخرون بالجر(11).
وأشار الطوسي إلى أن قراءة الرفع هي ما أجمع عليه القراء, مع تجويزه للنصب على المصدرية , فضلا عن الكسر وعدها جميعا لهجات "ونصب الدال لغة في قريش والحارث بن أسامة بن لؤي وكسرها لغة في تميم وغطفان وضمها لغة في ربيعة"(12), وقوله هذا يسقط أثرها الدلالي بتغايرها كونها اختلافاً في اللهجات وليس في معانيها.
والمفسرون اخذوا تعدد الوجوه الإعرابية من النحويين الذين تعددت توجيهاتهم وآراؤهم في المسالة, فسيبويه أجاز الرفع بتقدير(هو), والنصب بتقدير أمدح، والجر على الإتباع(13)، وهو ما أشار إليه المبرد مع تأكيده على الرفع بقوله "فإن كانت هذه المصادر معارف فالوجه الرفع ومعناه كمعنى المنصوب ولكن يختار الرفع لأنه كالمعارف وحق المعرفة الابتداء"(14), ويظهر من تعدد الآراء عدم العدول الذي قاله المفسر إذا قيل باختلاف الاستعمال في لهجات متعددة لقبائل مختلفة مما يفقد اثر تغايرها المعنوي لاختلاف الإعراب.
وإذا كان هذا الاختلاف في بيئة لغوية واحدة ، فلا جرم في عدوله، بسبب كثرة الاستعمال لكل ضرب، واختلاف دلالات هذه الأضرب مما يفقد القطع في القول بالأصل المثالي لها وما كان عدولاً عن هذا الأصل.
وما عدّ عدولا عند طائفة من المفسرين كان أصلا عند النحويين الذين لمسوه من كثرة استعماله عند العرب الموثوق بعربيتهم، أو بسبب ما أخضعوه من عدول لقواعد منتظمة, وهو ما يلمح من كلام المبرد الوارد في النص المذكور.
وسديد رأي المفسر في دلالة الثبات الدال عليها الاسم و يضاف إليها المبالغة في كثرة الحمد الدالة عليها الضمة , فضلا عن دلالة الابتداء به كونه أول شيء يبتدأُ به من المخلوق نحو خالقه هو الحمد لكثرة نعمه سبحانه.
ب ــ العدول من الضمير إلى الظاهر: يقف المفسر عند مواضع كثيرة ليشير إلى الأصل والعدول في الضمائر , كالعدول من ضمير إلى آخر , أو من الضمير إلى الظاهر, ليبين المستوى النحوي وأثره في المعنى، ومنها ما ورد في تفسير قوله تعالى﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً﴾(15), حيث يرى أن العدول في الآية عن الخطاب إلى الغيبة؛ دلالته المبالغة في التوبيخ, ويؤذن باقتضاء الإيمان ظن الخير بالمؤمنين والمؤمنات(16).
وهو رأي أشار إليه الزمخشري في تبيانه لسبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر بقوله "ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول غائب ولا طاعن"(17), وهو رأي ورد عند كثير من المفسرين الذين أشاروا إلى العدول(18).
ويظهر أن المفسر نحا نحو ما قاله المفسرون في العدول ودلالاته, غير أن هذا العدول يبعث بدلالة تضاف إلى ما ورد لكونه منبهاً لأسلوب نحوي يحفز المتلقي إلى ضرورة التنبه إلى كسر مألوف الاستعمال, أو أصله وما يولّده من انزياحات دلالية يمكن الإشارة إلى طائفة منها في الآتي:
1ــ يدل الضمير على مجموع من استمع, والعدول عنه إلى الظاهر إلى خاصة من رفض الطعن وهم المؤمنون والمؤمنات.
2 ــ يدل الضمير في الاستعمال على البعيد وبخلاف الظاهر الذي يدل على القريب المحبب إلى الباري كونه يركن إلى إيمانه دون الانجرار خلف الإشاعات والأقاويل.
3 ــ الضمير جامد ببنائه, والظاهر معرب بتغير حركاته التي تبعث على تعدد المعاني وقصديتها, فالعلامات الإعرابية "إشارة إلى معان يقصد إليها فتجعل تلك الحركات دوال عليها وما كان للعرب أن يلتزموا هذه الحركات ويحرصوا عليها ذلك الحرص كله, وهي لا تعمل في تصوير المعنى شيئا"(19).
4ــ ورد الضمير في(سمعتموه) بصورة واحدة, بخلاف الظاهر(المؤمنون والمؤمنات), فالفاعل الضمير ورد بشكل واحد يدل على سمع بمستوى واحد، يتمايز بعدها سمع المؤمنين والمؤمنات بوعي مختلف.
ومنه قوله تعالى﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(20)، إذ ورد في الوجيز "وعدل عن (ليمسنهم) تكريرا للشهادة بكفرهم, أو للتبعيض أي ليمسن الذين بقوا منهم على الكفر، لأن منهم من تاب"(21).
وعند المفسرين وضع (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) موضع (ليمسنهم) مع إشاراته إلى التغاير في الضمير، ولكن دون التصريح بمصطلح العدول(22).
ومن العدول من الضمير إلى الظاهر, ما ورد في تفسير قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً﴾(23), إذ يرى في العدول من(إلينا) بترك الضمير, نحو الظاهر (الرَّحْمَنِ) بسبب ما يحمل الظاهر من دلالات البشارة(24).
وورد في كثير من التفاسير ان ( إِلَى الرَّحْمَنِ ) تعني إلى ربهم الذي ينالهم منه رحمة واسعة(25).
ولم يؤكد المفسرون على مسألة العدول من الضمير إلى الظاهر, إذ يظهرون فيه دقة الاستعمال في قصدية استعمال (الرَّحْمَنِ) الدال على الرحمة الواسعة التي تكتنزها هذه المفردة التي أولاها اللغويون والمفسرون عناية كبيرة أبانت شيئا من أهميتها.
ج ــ العدول في حرف الجر: يشير المفسر إلى مصطلح(العدول) في تفسير قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالعاملينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(26), بقوله"عدل عن (اللام) إلى (فِي) إيذانا بأن الصرف في الجهة لا إلى الرقاب"(27).
ويذهب المفسرون إلى أن (فِي الرِّقَابِ) يراد بهم المكاتبون الذين تصرف لهم الصدقات لفك رقابهم(28), وفي اللغة يقال أعتَقَ اللهُ رقبتَه ولا يقال: أعتَقَ اللهُ عُنقَه(29)؛ "فجُعِلَتْ كِنايةً عن جميع ذاتِ الإنسانِ وتَسْمِيةً الشيء ببعضِه فإِذا قال: أَعتِقْ رَقَبةً. فكأَنّه قال: أَعْتِقْ عبداً أَو أَمَة"(30)، وهي على تقدير حذف مضاف والتقدير(في فك الرقاب)(31).
لذا تعد (فِي الرِّقَابِ) من الجار والمجرور؛ دالة على معنى واحد قوامه من تعلقت رقبته بغيره فكان أسيرا للعبودية, ومثله في الآية شبه الجملة (فِي سَبِيلِ اللّهِ), بخلاف دلالة بقية المفردات على معانيها من غير حرف كالفقراء والمساكين , فلا عدول بعد عطف ما جاء بعد المجرور باللام وكان أحدها (فِي الرِّقَابِ) على تقدير (والذين في الرقاب), وهو رأي ربما لا يقارب الصواب لأن بعض أعلام التفسير ذهبوا إلى القول بالعدول كالبيضاوي(32)، الذي أخذ عنه المفسر أحد رأييه, غير أن الطبرسي الذي سبقهما يرى أن سبب العدول عن(اللام) إلى (في) هو كونهم أحق ان توضع فيهم الصدقات من غيرهم مما ورد ذكرهم في الآية لأن(في) للوعاء(33).
د ــ العدول إلى الفعل: في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(34)، يرى المفسر أن (سَوَاءٌ)اسم معناه الاستواء, وصف به على نحو الوصف بالمصادر, وقد ورد مرفوعا كونه خبر(إن), والتقدير عنده: انهم مستو عليهم إنذارك وعدمه, أو كونه خبرا لما بعده, والتقدير: إنذارك وعدمه سواء عليهم, والجملة خبر(إن), وإنما عدل إلى الفعل" لملاحظة التجدد, ولأليقيته بـ(الهمزة وأم) المقررتين للاستواء, وجردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء"(35).
ويشير الزمخشري إلى تقدم الخبر على المبتدأ, بعدّ(سَوَاءٌ) خبرا و(أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ) مبتدأ(36) .
والأصل في المبتدأ أن يكون اسما وإنما عدل إلى الفعل لما أورده المفسر من ملاحظة التجدد الذي يدخره الفعل ليدل على أن الإنذار والتوجيه لهؤلاء على تجدده وتكراره لا يجدي نفعا، فضلا عن أن هذا العدول تفرضه الأسلوبية النحوية المألوفة في مجيء الفعل في سياق (الهمزة وأم) المقررتين وهذا الرأي الذي قاله محي الدين العاملي مسبوق إليه في تفسير البيضاوي(37) الذي أشار إلى مصطلح العدول في هذا الشاهد القرآني.
هـ ــ العدول إلى الاسم: في قوله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾(38)؛ يرى المفسر أن (لَمَثُوبَةٌ) جواب(لَّوْ), والتقدير :لأثيبوا مثوبة فحذف الفعل, لتوخي الثبات في الاسمية التي عدل إليها(39).
وما ذهب إليه المفسر محل خلاف بين النحويين, فابن السراج يذهب إلى أن جواب(لوْ) محذوف, وقوله(لَمَثُوبَةٌ) جواب للقسم(40)، على خلاف العكبري الذي يرى أنها جواب(لو)(41)، وناصر الاستربادي ما ذهب إليه ابن السراج(42), غير أن ابن هشام يذكر آراء في (لَّوْ) بقوله "قد تجاب بجملة اسمية نحو(لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ)، وقيل الجملة مستأنفة أو جواب لقسم مقدر وإن(لوْ) في الوجهين للتمني فلا جواب لها"(43)، ويؤكده ما ورد في المغني إذ يجعل الجواب للقسم, ويرى تعسف من قال انه جواب لـ(لو)(44)، وهو ما ذهب إليه السيوطي بقوله "فجواب (لو) محذوف لدلالة ما بعده عليه وتقدير لأثيبوا وقوله لمثوبة إلى آخره جواب قسم محذوف تقديره والله لمثوبة وقال الزجاج بل هو جواب لو"(45).
ولم يبتعد المفسرون عن خلاف النحويين في المسألة في ذكرهم لتوجيهات النحويين وخلافهم(46), مع ميلهم لقول العدول "فان قلت كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو، قلت: لما في ذلك من الدلالة إثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم"(47).
ومما يذكر أن المفسر قال يكون(لَمَثُوبَةٌ) جواب (لو) دون القسم ليستقر عنده العدول بغية الثبات الذي تكتنزه الجملة الاسمية.
وــ العدول إلى المجهول: ومنه ما ورد في قوله تعالى ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾(48), إذ قال المفسر "والعدول عن إسناده إليه تعالى إلى صيغة المجهول, وإسناد عديله إليه سبحانه تأسيسا لمباني الرحمة, فكأن الغضب صادر من غيره تعالى , وإلا فالظاهر: غير الذين غضبت عليهم, ومثله ــ في التصريح بالوعد والتعريض بالوعيد كثير في الكتاب المجيد"(49).
وحدده الزركشي التفاتا وكونه منحرفا في بناء الفعل للمفعول تفاديا عن نسبة الغضب إليه, فجاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب(50)، وتابعه السيوطي في قوله بالانحراف(51).
وعند تتبع أغلب المفسرين يلحظ أنهم لا يشيرون إلى مصطلح العدول في تفسير الآية, سوى قليل منهم ورد ذكرهم أوردوا مصطلحا يناظره وهو (الانحراف).
زــ العدول بين الجمل: ورد العدول بين الجمل المتعاطفة في تغيير الجملة اللاحقة عن سابقته وتقديم بنية نحوية مختلفة عنها لتظهر المعنى المنتج من تآزر العناصر النحوية المكون لها, ومن مظاهر هذا العدول عند المفسر ما ورد في تفسير قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾(52)، إذ قال"... وعدل عن (ماآمنوا) المطابق لقولهم (آمَنَّا) المصرح بشأن الفعل إلى عكسه مبالغة, لأن إخراجهم عن جملة المؤمنين أبلغ من نفي إيمانهم في الماضي, ولذا أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان, أي: ليسوا منه في شيء"(53).
و(آمنا بالله) جملة فعلية لم تلحقها مثلها (ماآمنوا), بل ما لحقها جملة اسمية (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)لأن الأولى في ذكر شأن الفعل لا الفاعل, وفي الثانية توكيد ومبالغة غير قادرة جملة (ماآمنوا) على تقديمها, وهو رأي أشار إليه طائفة من المفسرين(54), ولكنهم لم يصرحوا بمصطلح العدول الذي قاله المفسر.
وفي قوله تعالى ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾(55), قال المفسر "وعدل عن أسلوب مقابلة إشعارا بأن الغرض بالذات من الإبداء والإعادة الإثابة والتعذيب واقع بالعرض, ولشدة اعتنائه بالرحمة نسب الجزاء بها لنفسه بخلاف ضدها"(56).
ويرى البيضاوي أن التقدير (وليجزى الذين كفروا), وإنما غيّر النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب, وللتنبيه إلى أن المقصود من الإعادة هو الإثابة, والعقاب عرض(57), ولكنه لم يصرح بمصطلح العدول كما صرّح به محي الدين العاملي, واستبدله بمصطلح تغيير النظم.
ويبدو من تناول المفسر لظاهرة العدول ومناقشته لها؛ انه يرى فيها عدم خرق القاعدة النحوية على نحو مطلق, وإنما هو تصرف يرتقي بالاستعمال اللغوي لأنه يمثل عدولا عن اللغة النفعية إلى اللغة الإعجازية التي أحكمت نحو النص وارتقت بجماله وتأثيره الإبداعي.
وتناوله المفسر ضمن عناوين نحوية كثيرة؛ يذهب البحث إلى أن بعضها ليس عدولا لاختلاف الآراء في مسائله, وللاختلاف في فهم السياق والقرائن اللغوية المحيطة به.
وكثرة مسائل العدول النحوي لا تجعله يخرج على قواعد النحو حتى يدخل في قواعد خاصة به تنظمه فيكون "مألوفا ومقيسا ومن ثم يقف في شهرة الاستعمال موقفا لا يبعد به كثيرا عن شهرة الأصل"(58), ومعرفته شرطها معرفة القاعدة النحوية, ومحي الدين العاملي كان من المفسرين الذين وعوا القاعدة النحوية، وأشاروا إلى العدول بتأكيده عليه في الحقل النحوي .
______________________________
الهوامش:
1) الخليل, العين (عدل):2/38-39.
2) ظ: ابن منظور, لسان العرب(عدل): 11/432.
3) ظ: هلال علي محمود الجحيشي, العدول الصرفي في القرآن الكريم ــ دراسة دلالية (أطروحة دكتوراه): 7.
4) ظ: ابن جني، سر صناعة الإعراب: 2/571, ظ: أبو الحسن الوراق, علل النحو:170, ظ: علي الموصلي النحوي, الانتخاب لكشف الأبيات المشكلة: 27.
5) ظ: حسن منديل العكيلي, العدول والنظام البلاغي في أسلوب القرآن الكريم، w.ww.annabaa.com..
6) ظ: سامية محصول, الانزياح في الدراسات الأسلوبية: www.elaphblog.com ، ظ: عبد الملك مرتاض, بين الانزياح والعدول, w.w.w.arabictory.net.
7) محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 1/55.
8) سورة الفاتحة: 2.
9) محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 1/51.
10) ظ: الزمخشري, الكشاف: 1/52 , ظ: البيضاوي, أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 1/26.
11) ظ: شهاب الدين الدمياطي, إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر: 162.
12) الطوسي, التبيان : 1/31.
13) ظ: سيبويه, كتاب سيبويه : 1/329-330.
14) المبرد, المقتضب: 3/221, ظ: ابن هشام, شرح قطر الندى: 88.
15) سورة النور: 12.
16) ظ: محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 2/378.
17) الزمخشري, الكشاف: 3/222.
18) ظ: الرازي, مفاتيح الغيب: 23/153, ظ: الغرناطي الكلبي, التسهيل لعلوم التنزيل: 3/610 ، ظ: البيضاوي, أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 4/177.
19) رشيد بلحبيب, أمن اللبس ومراتب الألفاظ في النحو العربي ، www.arabization.org.
20) سورة المائدة:73.
21) محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 1/393.
22) ظ: الزمخشري, الكشاف:1/697, ظ: البيضاوي, أنوار التنزيل وأسرار التأويل:2/353, ظ: أبو السعود, إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: 3/67.
23) سورة مريم: 85.
24) ظ: محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 2/272.
25) ظ: الزمخشري, الكشاف: 3/44 , ظ: أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: 5/281.
26) سورة التوبة:60.
27) محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 2/23.
28) ظ: الراغب, المفردات في غريب القرآن :201 , ظ: السجستاني, غريب القرآن: 368.
29) ظ: الأزهري, التذهيب (رقب): 9/113.
30) ابن منظور, لسان العرب(رقب) : 1/428.
31) ظ: الطريحي, مجمع البحرين: 2/208.
32) ظ: البيضاوي, أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 3/153.
33) ظ: الطبرسي, جوامع الجامع :2/74.
34) سورة البقرة:6.
35) محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 1/70.
36) ظ: الزمخشري, الكشاف: 1/87 , ظ: الزمخشري, المفصل في صنعة الإعراب: 44.
37) ظ: البيضاوي, أنوار التنزيل وأسرار التأويل:1/140.
38) سورة البقرة: 103.
39) ظ: محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 1/131.
40) ظ: ابن السراج, الأصول في النحو: 2/167.
41) ظ: العكبري , التبيان في إعراب القرآن: 1/101.
42) ظ: الاستربادي، شرح الرضي على الكافية: 4/454.
43) ابن هشام, أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: 4/232.
44) ظ: ابن هشام, مغني اللبيب: 1/310.
45) السيوطي, همع الهوامع: 2/573.
46) ظ: الطبري, جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 3/202.
47) الزمحشري، الكشاف: 1/200.
48) سورة الفاتحة: 7.
49) محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 1/59.
50) ظ: الزركشي، البرهان في علوم القران: 3/325 ــ 327.
51) ظ: السيوطي، الإتقان في علوم القران: 2/232.
52) سورة البقرة :8.
53) محي الدين العاملي ، الوجيز في تفسير القران العزيز: 1/73.
54) ظ: الزمخشري, الكشاف: 1/94 , ظ: الطبرسي, جوامع الجامع: 1/71, ظ: الغرناطي الكلبي، التسهيل لعلوم التنزيل: 1/37, ظ: البيضاوي, أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 1/162 , ظ: أبو السعود, إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: 1/40.
55) سورة يونس: 4.
56) محي الدين العاملي، الوجيز في تفسير القران العزيز: 2/46-47.
57) ظ: البيضاوي, أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 3/185.
58) تمام حسان, خواطر من تأمل لغة القرآن الكريم : 113.
المصادر والمراجع
اولا ـــ القرآن الكريم
ــ الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد(ت370هـ)، تهذيب اللغة، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م.
ـــ الأسترابادي، رضي الدين (ت686هــ), شرح الرضي على الكافية, تحقيق: يوسف حسن عمر , جامعة قار يونس, 1398هـ- 1978م.
ــ البيضاوي، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد (ت791هـ), أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المعروف بـ(تفسير البيضاوي )، تحقيق : عبد القادر عرفان العشا حسونة، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، 1416 هـ ــ 1996 م .
ـــ ابن جني، أبو الفتح عثمان (ت392هـ)، سر صناعة الإعراب , تحقيق د . حسن هنداوي، دار القلم, دمشق, الطبعة الأولى, 1405هـ-1985م,
ـــ الخليل، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت175هـ)، كتاب العين, تحقيق: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي, دار ومكتبة الهلال, (د.ت).
ـــ الدمياطي، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الغني(ت1117هــ), إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر, تحقيق: أنس مهرة , دار الكتب العالمية, لبنان, الطبعة الأولى , 1419هـ- 1998م.
ـــ الرازي، فخر الدين محمد بن عمر التميمي الشافعي (ت606هـ), مفاتيح الغيب المعروف بـ(التفسير الكبير), دار الكتب العلمية, بيروت, الطبعة الأولى, 1421هـ ــ2000م.
ـــ الراغب، أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني(ت502هــ), المفردات في غريب القرآن, تحقيق: محمد سيد كيلاني, دار المعرفة, بيروت ــ لبنان ،(د.ت).
ـــ الزركشي، محمد بن بهادر بن عبد الله (ت794هــ), البرهان في علوم القرآن, تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم, دار المعرفة , بيروت , 1391
ــ الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر (ت538هـ), الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي ، بيروت،(د.ت).
ــ الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر (ت538هـ), المفصل في صنعة الإعراب، تحقيق: د. علي بو ملحم، مكتبة الهلال، بيروت، الطبعة الأولى، 1993م.
ـــ السجستاني، أبو بكر محمد بن عزيز( ت330هـ ), غريب القرآن المسمى (نزهة القلوب), تحقيق: محمد أديب عبد الواحد حمران, دار قتيبة, 1416هـ ــ 1995م.
ـــ ابن السراج، أبو بكر محمد بن سهل النحوي البغدادي (ت316هـ), الأصول في النحو, تحقيق: د.عبد الحسين الفتلي, مؤسسة الرسالة, بيروت، الطبعة الثالثة, 1408هـ ــ 1988م.
ـــ أبو السعود، محمد بن محمد العمادي(ت951هــ), إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم, دار إحياء التراث العربي, بيروت، (د.ت).
ــ سيبويه، أبو البشر عمرو بن عثمان بن قنبر (ت180هـ)، كتاب سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، عالم الكتب، الطبعة الثالثة، 1403هـ ــ 1983م.
ـــ السيوطي، جلال الدين (ت911هــ), الإتقان في علوم القرآن, تحقيق: سعيد المندوب, دار الفكر, لبنان, الطبعة الأولى, 1416هـ ــ 1996م.
ـــ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر(ت911هــ)، همع الهوامع في شرح جمع الجوامع, تحقيق: عبد الحميد هنداوي, المكتبة التوفيقية, مصر، (د.ت).
ـــ الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن(ت548هـ), جوامع الجامع, تحقيق: لجنة من العلماء والمحققين, مؤسسة النشر الإسلامي, قم, الطبعة الأولى, 1418هـ.
ـــ الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد (ت310هــ), جوامع البيان عن تأويل آي القرآن, دار الفكر, بيروت -1405م.
ـــ الطريحي، فخر الدين (1085هـ), مجمع البحرين, تحقيق: أحمد الحسيني, مكتبة النشر والثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1408هـ.
ـــ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن (ت460هـ), التبيان في تفسير القرآن, تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي، مكتبة الإعلام الإسلامي, الطبعة الأولى, 1209هـ.
ـــ ابن عدلان، علي بن عدلان بن حماد بن علي الموصلي النحوي(ت666هــ), الانتخاب لكشف الأبيات المشكلة, تحقيق: د. حاتم صالح الضامن, مؤسسة الرسالة, الطبعة الثانية, بيروت, 1405هـ ــ 1985م.
ـــ العكبري، أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله (ت616هـ), التبيان في إعراب القرآن , تحقيق: علي محمد البجاوي, مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1976م.
ـــ الغرناطي الكلبي(ت741هـ)، محمد بن أحمد بن محمد الغرناطي، التسهيل لعلوم التنزيل, دار الكتاب العربي, لبنان, الطبعة الرابعة, 1403هـ- 1983م.
ـــ المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد (ت285هــ), المقتضب, تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة, عالم الكتب, بيروت، (د.ت).
ـــ محي الدين العاملي، علي بن الحسين(ت1135هــ), الوجيز في تفسير القرآن العزيز, تحقيق: مالك المحمودي، دار القران الكريم، الطبعة الأولى، 1413هـ.
ـــ ابن منظور، محمد بن مكرم الأفريقي(ت711هــ), لسان العرب, دار صادر, بيروت, الطبعة الأولى، 1375هـ-1956م.
ـــ ابن هشام، أبو محمد عبد الله جمال الدين الأنصاري(ت761هـ), أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك , تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد , دار الجيل , بيروت, الطبعة الخامسة , 1399هـ- 1979م.
ـــ ابن هشام، أبو محمد عبد الله جمال الدين الأنصاري (ت761هـ), شرح قطر الندى وبل الصدى, تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد, القاهرة, الطبعة الحادية عشرة, 1383هـ.
ـــ ابن هشام، أبو محمد عبد الله جمال الدين الأنصاري(ت761هـ), مغني اللبيب عن كتب الأعاريب, تحقيق :د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله , دار الفكرة, دمشق, الطبعة السادسة , 1985م.
ـــ هلال علي محمود الجحيشي, العدول الصرفي في القرآن الكريم , كلية الآداب(اطروحة دكتوراه), جامعة الموصل, قسم اللغة العربية, 1426هـ- 2005م.
ـــ الوراق، أبو الحسن محمد بن عبد الله (ت381هــ), علل النحو, تحقيق: محمود جاسم محمد الدرويش, مكتبة الراشد, السعودية ــ الرياض, الطبعة الأولى, 1420هـ ــ 1999م.
ـــ تمام حسان(الدكتور), خواطر من تأمل لغة القرآن الكريم, عالم الكتب, القاهرة, الطبعة الأولى , 1427هـ- 2006م.
شبكة المعلومات العالمية
ـــ حسن منديل العكيلي(الدكتور)، العدول والنظام البلاغي في أسلوب القرآن الكريم , شبكة النبأ المعلوماتية , W.W.W.annabaa.com
ـــ رشيد بلحبيب(الدكتور), أمن اللبس ومراتب الألفاظ في النحو العربي , كلية الآداب والعلوم الإنسانية, جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب ، www.arabization.org
ـــ سامية محصول، الانزياح في الدراسات الأسلوبية , مدونة:دراسات أدبية ولغوية ــ مجلة علمية محكمة، مركز البصيرة للدراسات والبحوث، الجزائر، www.elaphblog.com
ـــ عبد الملك مرتاض(الدكتور), بين الانزياح والعدول ,شبكة القصة العربية، W.W.W.arabicstory.nat
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 22-ديسمبر-2024 الساعة: 02:31 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-32895.htm