صنعاء نيوز - 
   جميعنا نعرف أنّ مصطفى صالح كريم* هو أسطون من أساطين الصّحافة العربيّة والكرديّة،كما يعرفه الجميع بدماثته وجمال معشره وحبّه العذب للنّاس والحياة،ولكن القليل من النّاس ممّن يعشقون قلمه يعرفون أنّ الصّحافة قد سرقته

الثلاثاء, 19-مايو-2015
صنعاءنيوز بقلم الأديبة د.سناء الشعلان -

جميعنا نعرف أنّ مصطفى صالح كريم* هو أسطون من أساطين الصّحافة العربيّة والكرديّة،كما يعرفه الجميع بدماثته وجمال معشره وحبّه العذب للنّاس والحياة،ولكن القليل من النّاس ممّن يعشقون قلمه يعرفون أنّ الصّحافة قد سرقته بإصرار وسبق ترصّد من الأدب على الرّغم من أنّه قد أثبت طول باعه في حقل كتابة القصّة القصيرة،ولعلّه استجاب لهذه السّرقة المشروعة ما دامت هي من قدّمت قلمه للمجتمع بالشّكل الذي ابتغاه،وحملت قضايا الثّوريّة والوطنيّة والإنسانيّة والمجتمعيّة.ولكن هذا لا يعني أنّه قد استسلم لهذا القدر،وهجر الأدب الذي يعيش في أعماقه،بل هو قد احتال بذكاء على أقداره كي يرفد الأدب الذي يهواه بحياة جديدة في جسد العمل الصّحفي الذي يحترمه.

منذ عدّة سنوات صدر كتاب” اليوم الثّالث” الذي جمع مصطفى صالح كريم فيه مقالاته التي كان يكتبها في عاموده الأسبوعي تحت عنوان”اليوم الثّالث” **،ولاشكّ أنّ الوقوف عند هذه المقالات التي كتبها مبدعها تباعاً عبر سنوات تشكّل مادة تاريخيّة وإعلاميّة غنيّة وأرضاً خصبة لكثير من المواضيع والدّراسات والمصادر المعرفيّة المهّمة،ولعلّ التّوثيق التّاريخي فيها هو من أهم ملامحها التي يجعلها مصدراً تاريخيّاً يوثّق لأهم الأحداث التّاريخيّة في المنطقة الشّرق أوسطيّة لاسيما فيما يخصّ القضية الكرديّة.وهذا أمر مفروغ منه بما يخصّ اهتمام قلم إعلامي كبير مثل مصطفى صالح كريم،فهو يمثّل مرقاباً محلّلاً وراصداً ذكيّاً وشجاعاً لقضيته وأولوياته الفكريّة والإنسانيّة،ولكن هذا الكلام كلّه من نافلة القول من وجهة نطري في هذا الدّرب من الرّؤية.

وما يلفت نطري بشكل كبير في هذا الكتاب”اليوم الثّالث” أنّه قد سرق مبدعه من عالم الأدب وجيّره لصالح الصّحافة،ولكن مصطفى صالح كريم استطاع أن يطعّم الصّحافة بالأدب،وأن يؤرّخ بنكهة الأدب،فهذا السّفر الإعلامي هو منجز أدبي بامتياز،ولنا أن ندرسه من منطلق المنجز السّردي الذي لا يمكن أن يُصنّف بعيداً عن سرديّات إبداعيّة تقوم على أعمدة القصّ .

لي أن أقول بثقة أنّ كتاب” اليوم الثّالث” هو منجز سردي قصصي بامتياز،وأنّه عمل إبداعي من منظور تجنيسي إن سلّمنا بنظرية تداخل الأجناس الأدبيّة في ظلّ أنّه بات من الطّبيعي في الوقت الحاضر أن نجد العمل الفني مزيجاً من أكثر من جنس إبداعي في إزاء ندرة العمل الفني الخالص التّجنيس.ولي في الشّأن نفسه أن أقول أنّ مصطفى صالح كريم هو أديب بامتياز قبل أن يكون صحفيّاً،وإن كان “اليوم الثّالث” يجسّد انتصار الصّحافة على الأدب في حياة مبدعه،فهو يمثّل كذلك انتصار الأدب على الصّحافة في قلم مبدعه ونفسه حتى وإن لم يقصد ذلك،وطغى هذا الأمر على إبداعه قصراً عن إرادته مادام الإبداع ينتصر دائماً على مبدعه،ويتفلّت منه مهما حرص على خنقه لسبب أو لآخر.

“اليوم الثّالث” هو حالة سرديّة فضفاضة تأخذ من تقنيّات ألف ليلة وليلة وتقنيات السّرد الشّعبي الملحمي الذي يحمل ميراث أمّة كاملة لتتموضع هذه التّقنيّات في قصص قصيرة كلّ منها يستقلّ في شكله العام إلاّ أنّه في النّهاية ينبثق من قصّة كبرى،ويعود إليها بعد أن يعرّج على تفاصيل يوميّة وحياتيّة ونضاليّة يعيشها المشهد الكردي بشكل خاص والمشهد العربيّ بشكل عام.وهو بذلك يلعب دور الحكواتي الذي يداعب الخيال،ويخاطب المنطق،ويرسم له معالم المشهد الذي يعيشه.

الكثير من مقالات هذا الكتاب تبدأ أساساً بثيمة قصصيّة مستقلّة تشكّل عتبة للدّخول إلى النّص،وهي غالباً ما تكون قصّة من إرث المبدع أكان إرثاً جمعيّاً أم فردّياً،فنراه يقول في مطلع مقالة” زفّة عراقيّة،وعيون يملأها الأمل” :” حين كنّا صغاراً كانت أمهاتنا يقمن في ليالي العيد بصبغ أكفّنا بالحناء ويقلن “أنّه مبارك عليكم جميعاً أن تتبرّكوا به” في الثلاثين من كانون الثاني الماضي تذكّرنا حكاياتنا مع حنّاء العيد وكلّ منا يرفع أصبعه المخضّب بحناء العرس العراقيّ”(1)

ومن تقنيّات القصّ الواضحة في هذا الكتاب أن يلجأ مبدعه إلى أن يحشد سلسلة من القصص القصيرة جدّاً بأسلوب توثيق الحكايا الشّفويّة الشّعبيّة السّائرة على ألسنة العامّة والعائشة في مخيال الأمّة الكرديّة ليحرّض قرّاءه على تبنّي فكرته أيّاً كانت،وهو كثيراً ما يسرد هذه الحكايا بأسلوب التّعداد المباشر كي يقودنا إلى أن نستسلم بطواعية وإيمان إلى الفكرة التي يطرحها،وهو يبدأ كلّ قصّة بإسنادها إلى بطلها،فيذكر-على سبيل المثال- :” قصّة المرأة البطلة(2)،وقصّة الشّرطي العراقي(3)،وقصّة الشّيخ الكبير(4)،وقصّة المرأة الحامل(5)،وقصة بابا علي محي(6)،وغيرها الكثير من الأمثلة.

والمفارقة والسّخرية هما من أدوات السّرد البارزة في “اليوم الثّالث”،فنجد مبدعه يقول في مقالة بعنوان” الانتخابات حوار مع العقل” :” حين كانت عقول الحكّام المتسلّطين على رقاب الشّعب في إجازة،وحين كان الحوار مع الشّعب والسّلطة ممنوعاً من الصّرف…”ص7،وهو في موضوع آخر يقول متهكّماً :” وإشارته إلى تولّي الكرد مناصب متعدّدة وحقائب دبلوماسيّة في حكومة الدّكتور علاوي لا ندري هل يعتبره منّة أو صدقة”(7)،في حين يصف البعثي بقوله السّاخر:”كان الرّجل بعثيّاً عيار حقة 16 حسب مصطلح البغداديين،أمّا أنّه كان بعثيّاً مصطلحيّاً أو مبدئيّاً حسب إدعاءاتهم الجوفاء”(8).

وجلّ سخرية المبدع في كتاب” اليوم الثّالث” تتجلّى عندما يحقّر أعداءه،ويبرز صغائرهم وتهافتهم،وفي ذلك يقول في معرض سخريته من الرّبيعي :” من يقرأ الكلمات النّاريّة للرّبيعي يتصوّر أنّه سيلحق بإرهابيي العراق،ولا بدّ أنّه سيشارك مع عصابات الزّرقاوي في تفخيخ السّيّارات وتفجير المدارس والمعاهد والأسواق والمساجد،ولكن الظّاهر أنّه لا يريد الموت لنفسه،بل يحرّض الآخرين فقط”(9)

وهو يضطر في كثير من الأحيان إلى أن يخرج من لعبة السّرد بكلّ ما فيها من إيهام ومخيال وتواطؤ على الدّخول في أبجديات الانسياح في الخيال لأجل أن ينتصر للفكرة التي يعمل على إبرازها،فيقول مباشرة –على سبيل المثال- لدعم سلوك الانتخاب :” فحضور النّاخب إلى صناديق الاقتراع تقدّم للعراقيين وانحسار لظلال الإرهابيين،نحن الآن أمام حوار داخلي مع ضمائرنا وعقولنا وعلينا أن نكون منصفين مع أنفسنا،وأن نتّخذ القرار الجريء دون تأثير من أيّ جهة كانت”(10)

ومن أهمّ خصائص السّرد القصصي في كتاب”اليوم الثّالث” أنّه يقدّم قصّة بلغة سهلة وواضحة وبنية غير معقّدة وذات تسلسل سردي تواتري تاريخي بعيد عن الكسر الزّمني أو التقنيات الزّمنيّة التي تربك تقلّي القارئ أو تضعه أمام متاهة سرديّة يصعب عليه أن يستوعبها؛ومن السّهل أنّ نعلّل جنوح مصطفة صالح كريم إلى هذه التّقنية ما دام هو صاحب قضيّة وفكرة ملحّة يريد أن يطرحها متبنّياً لها،فهو براغماتي ثوري في أدبه،وليس في صدد الانتصار على فكرة الشّكل القصصي،وفرض نمط معقّد يقوده إلى ريادة شكليّة هو في غنى عنها مادام مخلصاً للرّسالة التي يحملها في أدبه،وهي رسالة خدمة القضيّة الكرديّة.

وهذه الخاصّية في فنّه السّردي تجعل قصصه قادرة على أن تقوم بوظيفتها الجماليّة والتّنويريّة والثّورية مهما كانت ثقافة المتلقّي وشريحته المعرفيّة انبثاقاً من قناعته الشّخصيّة التي لنا أن نفترض أنّها تخاطب الجميع،ولا تستثني أحداً في صدد الدّفاع عن قضيّته الكرديّة،وعرضها على الضّمير البشري في كلّ مكان وزمان.

والطريف في الأمر أنّه كثيراً ما يبدأ اللّعبة السّرديّة من ذاته التي يتوّجها سارداً وراوياً ومشاركاً في الحدث الرئيسي،حتى إذا ما اندمجنا معه في اللّعبة السّرديّة قادنا سريعاً إلى القصّة الهدف في مقالته،فنراه في مقالة “كان يوماً حزيناً” يبدأ السّرد من طفولته إذ يقول:” حين أستعيد صفحات من ذكرياتي معه التي ستظلّ ذكراها عبقة دائماً أتذكّر ذلك الرّجل العالم المتواضع الذي كرّس حياته وقلمه وفكره…”(11)

كما أنّه لم يستطع التّحرّر من سطوة العنوان القصصي على مقالاته،فكثيراً من عناوين مقالاته يجنح إلى التّركيب القصصي،ويصلح بامتياز أن يكون عتبات عنوانيّة لقصص قصيرة،وليس أدّل على ذلك من استعراض عناوين مقالاته،مثل:” (كان يوماً حزيناً)،و(قافلة بلا نهاية)،و(الدّواء المفقود)،و(هواء في شبك)،و(لمن تُقرع الأجراس)،وغيرها الكثير من العناوين القصصيّة الدّالة على التّوليفة السّرديّة،وتقودنا إلى القصّة أكثر ممّا توحي بأنّها مقالة.

وإن كان “اليوم الثّالث” هو كتاب يعلن صاحبه صراحة في مقدّمته أنّه مجموعة مقالات كتبها على امتدا سنوات في عاموده الثّابت” اليوم الثّالثّ”،وهو بذلك يصمّم على تجنيسه تحت فنّ المقالة،إلاّ أنّ الكتاب يبوح بغير ما يقوله صاحبه،ويصنّف ذاته تحت أجناس أدبيّة مختلفة،فهو مقالة سياسيّة أو اجتماعيّة أو فكريّة في بعض الأوقات،وهو قصّة قصيرة في معظم الأوقات إلى جانب أنّه سِفْر مختلط من التوثيق التّاريخي والتّسجيلي والسّيرة الذّاتيّة والنّص الوعظي والخطبة المتوارية والمراثي السّرديّة والملهاة السّوداء التي تتداخل في لوحات تشكيليّة وبصريّة تقوم على فسيفساء الكلمات والأفكار والمعاني والإشارات.

ولعلّ السّيرة الذّاتيّة التي تلبس لبوس القصّة القصيرة في هذه المقالات هي من أهم ملامح البناء القصصي فيها،إذ نجد المبدع يكتب بعضاً من سيرته الذّاتية،ويستدعيها في كثير من الأوقات لتكون بوابة نحو الحدث الأبرز والهدف فيما يكتب،فينطلق من سيرته الذّاتية وذاكرته الشّخصيّة ليقول في مطلع مقالة بعنوان “قافلة بلا نهاية” :” هذا الجثمان الذي استقبلناه بدموعنا يوم الجمعة…ما زلت لا أصدّق نفسي بأنّ الرّجل الذي عشت معه في المنفى وفي غرفة واحدة لثلاث سنوات متتالية ولي معه العديد من الذّكريات بحلوها ومرّها”(12)

يحاول مصطفى صالح كريم أن يخنق القاصّ في ذاته لحساب الصّحافي الذي يشتدّ احتلاله له تلبية لصوت ضميره وواجبه وعمله،ولكنّه يخفق في ذلك مرّة تلو الأخرى،ودائماً ينتصر القاصّ الذي يسكنه،ويهيمن على السّرد،فنجد أنفسنا في دنيا قصصه بكلّ ما فيها من تفاصيل وجماليّات،وهو من يصرخ فينا قائلاً إنّه يكتب مقالة،ونحن نصرخ فيه قائلين:ولكن ما تكتبه هو قصّة قصيرة،فيبتسم ويأخذنا إلى مقالته القصّة أو قصتّه المقالة إذ يقول في مقالة” أربعون عاماً وعام” :”بشوق بالغ دخلت محراب الموسيقى في قاعة الثّقافة بمدينة السّليمانيّة…تذكّرت عازف الكمان (يوها نزكارلسكي) بطل رواية(الكمان الأسود) للرّوائي الفرنسي المبدع (ماكسنيس فيرمين) ولقائه صانع الكمان (ايراسموس) وعشقهما المشترك لأوتار الكمان وللعزف الملائكي”(13)

قليل هم الذين يُسرقون بإرادتهم،ومصطفى صالح كريم وافق بطواعيّة على أن تسرقه الصّحافة من الأدب/القصّة القصيرة،ولكّنه خدعنا جميعاً إذ ألبس القصة لبوس الصّحافة،وأطلقها تسعى فينا.لن أقول أنّ هذا السّلوك هو سلوك عفوي اعتباطي،ولو كان الأمر كذلك،لفقد الأدب عنده أهم خاصيّة تحدّده،وهي خاصّية القصديّة،فالإبداع ليس من يفرض نفسه على المبدع كما يزعم بعض منظري الإبداع،ولكنّ المبدع هو من يختار أدبه وأداته وهدفه،وهو من يتلاعب بها جميعاً،وينسج له منها صوتاً وقلباً ونبضاً وخطىً على الطّريق.

لقد أخلص للقصّة وإن هجرها ظاهريّاً،لقد ولدها في قلمه الصّحفي،وأرسلها في مقالاته،فأبدع في ذلك،وأستطاع أن يخلق له شكله الصّحفي الإبداعيّ الخاص الذي ميّزه،فكان بصمته المميزة ليجعله أباً من آباء الصّحافة المعاصرة.

ونظلّ نؤمّل النّفس بأن يفاجئنا في القريب بمجموعة قصصيّة مستقلّة على الرّغم من انغماسه في مشاغله الوظيفيّة التي تحبسه بعيداً عن الانغماس في عالم القصّة القصيرة،وحتى ذلك الوقت يظلّ مصطفى صالح كريم أسيراً جميلاً لمقولته:” الفنّ الأصيل لا يخضع لسلطان،من هنا يكون الفرق واضحاً بين الفنّانين المبدعين وبين المحسوبين على الفنّ من الطّارئين والمتاجرين بالفنّ الذين لا مكان لهم في ساحات الإبداع حتى ولو حظوا برعاية متميّزة”.(14)،ونظلّ ننتظر أنّ يطلّ علينا بفيض جديد من قصصه.فهل يطول بنا هذا الانتظار؟!


* مصطفى صالح كريم: قاص ومترجم وصحفي كردي،شغل الكثير من المناصب الصّحفيّة،آخرها موقع نائي رئيس تحرير صحيفة (الاتّحاد)،كما شغل سابقاً منصب نائب نقيب صحفيي كردستان.له الكثير من المؤلّفات،منها: رنين السلاسل،وشهداء قلعة دمدم،ومتّشحة بالسّواد،وفن كتابة القصّة،والرّداء الأبيض،وأم الأحرار،وحديقة من الكلمات،ورحلة إلى بلاد الرّاين.

** اليوم الثّالث:مصطفى صالح كريم،ط1،مطبعة حة مدى،كردستان العراق،2009.
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:15 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-36863.htm