صنعاء نيوز - عبدالرزاق العزعزي:

الجمعة, 22-يوليو-2016
صنعاء نيوز/عبدالرزاق العزعزي: -

"كان لهجرتي قصةٌ امتدّت ستة أيام ما بين برّ وبحر وجوّ. بدايةُ خطّ السير من اليمن إلى جيبوتي ثم الحبشة فكينيا حتى وصلتُ الخرطوم". بهذا يصف الزّميل يحيى الأحمدي لـ"العربي" قصة نزوحه من اليمن.
يتوقّف برهةً ثم يضيف: "جاء ذلك بعد أن عجز حزبنا العظيم -يقصد التّجمّع اليمني للإصلاح- عن توفير بطاقة دخول من المنفذ، ولم يرقّ قلبه وهو يرى اسمي ضمن قائمة المطلوبين لدى جماعة الحوثي".
حفاظًا على حياتهم من القصف والحرب الداخلية، نزح اليمنيون عبر البحر باتّجاه أفريقيا، بعد أن كانت بلدهم اليمن تستضيف نازحي القرن الأفريقي كعابرين باتّجاه السعودية، أو كلاجئين في مخيمات اللجوء في اليمن. إختيارهم للبحر كان بسبب ارتفاع أسعار تذاكر الطيران، أو عدم توفّر طيران في فترات محدّدة من عمر الحرب التي ماتزال مشتعلة في اليمن.
كان الأحمدي مدقّقًا لغويًا في قناة "سهيل" التابعة لأعضاء في حزب الإصلاح، لكنّه الآن مجرّد "نازح يمني" في السودان كغيره من النازحين في البلدان القليلة التي قبلت باستضافة اليمنيين.
جماعة "أنصار الله" اقتحمت مقرّ منظّمة "سراج" للتنمية في صنعاء بحجّة أنّها "تدعو للاختلاط". شعَر رئيس المنظّمة، الدكتور فوزي الشامي، بالخطر على حياته، فنزح باتّجاه السودان كما أفاد لـ"العربي". وبينما كانت طائرات "التحالف العربي" تقصف مواقع متعدّدة في اليمن، نزح أيضًا رئيس منظّمة أبناء المهاجرين، خالد شعنون.
يقول شعنون لـ"العربي": "توجّهت من صنعاء إلى الحديدة، ثم ميناء المخا، فسألت العاملين في الميناء: إلى أين ستذهب أوّل رحلة؟ فأخبروني أنّها ذاهبة باتّجاه (الصومال لاند) فركبتها ووجدت نفسي في الصومال". ويضيف "أّنه لم يكن مخطِّطًا لزيارة أيّ بلد ولكنه كان يريد الخروج من اليمن فقط".
اللحظات الأخيرة في بلدك:
بعد رحلة متعبة من الحديدة وجدنا أنفسنا في ميناء المخا. كانت هناك خمسة مراكب "زعيمات" راسية في الميناء. أحدها يفرّغ حمولته من الماشية، وثانيها راسٍ بهدوء، بينما الأخريات تستقبل البضائع من الشاحنات، وحولها عددٌ من المسافرين ينتظرون متى سيحين دورهم لركوبها، ويتساءلون هل سيبقى لهم مكانٌ يجلسون فيه، أم أنّهم على موعد مع متاعب لا يعلمون ماهيّتها، وهذا ما حدث فعلاً.
السادسة مساء كان "العربي" يلتقط صوراً للميناء لعلّها تكون الأخيرة قبل أن تدمّره الحرب، أو قبل أن نموت غرقاً ونحن نحاول البحث عن حياة بعيدة عن الصراعات، أو ربما تكون هذه اللحظات هي الأخيرة لتواجدنا في بلدنا اليمن.
امرأة عجوز تجلس في الطّرف الآخر من مكان التقاطي الصور، صَرَخت بأني آخذ صوراً لها، تجمهر الناس واحتشدوا مندّدين بهذا الفعل الغادر والجبان: "هذه وحدة زي امك ليش تصورها، فرمتوا ذاكرة الهاتف واكسروا التلفون هذا بلا أدب". سخطٌ كبير، ما أحمله هاتف وليس قذيفة آر بي جي أو كلاشنكوف، هذا السخط لو ندّد بالحرب لتوقّفت.
ثلاث "زعيمات" سيتحركن، سيختار لك الحظّ ركوب أحدهنّ وتختلف الرّحلة من مركب لآخر، الحظّ يتحكّم وليس الإختيار. في ميناء المخا يتمّ أخذ الجواز ومبلغ الرحلة ووضعك في المركب الذي يختارونه لك، يبقى الجواز مختفيًا عنك حتى خروجك من ميناء جيبوتي.
رحلة نزوح:
العربي" كان متواجدًا في إحدى رحلات النزوح على متن مركب بحري لنقل البضائع وليس البشر يطلق عليه "الوهيب"، 46 فرداً كان عدد النازحين فيه، أطفال ونساء وشيوخ في رحلة استمرت 24 ساعة ونصف من ميناء المخا إلى ميناء جيبوتي بسبب شدّة الرياح في تلك الليلة.
كنّا نبحر عكس التّيّار، يكسونا الخوف الشديد ويحاصرنا برد الليل ورياحه وشمس الظّهيرة بأشعتها، بلا مكان مناسب للجلوس والنوم سيمّا وأن القارب مليء بالبصل الذي استحوذ على كل منطقة فيه. ولم نعد نملك أيّ خيار سوى ركوب الأمواج والبصل في آنٍ واحد، كان علينا أن نتصرّف ونستخدم البصل كسرير وغذاء، لا مجال للرّاحة أو التفاؤل، حتّى أن طاقم السفينة كان يشعر بالخوف من قوة الرياح.
قلوب أولئك البحارة الذين يقودون السفينة مليئةٌ بالطّيبة وليّنة جداً، تشعر أنهم أصدقاؤك منذ زمن بعيد جداً، ليتهم كانوا حكّاماً لنا، تحدّوا الرياح وأبحروا عكس التيار بهدوء، تعبوا كثيراً من أجل راحتنا، أذكياء جداً ومغامرون حدّ الهروب من البوارج الحربية التي تعترض طريق الجميع للتفتيش، كرماء ليصنعوا لهم الوجبات ويشاركوها معنا. أربعٌ وعشرون ساعة ونصف قضيناها سويّاً نصارع الموت القادم مع كل موجة كبيرة تضعها الرياح في طريقنا، ومع كل التفاتة هروب من البوارج الحربية في المياه الإقليمية.
الثامنة والنصف من مساء الخميس كنّا نراقب الأضواء القادمة من سواحل جيبوتي، لم نعد بحاجة لسترات النّجاة التي أخذناها كنوع من الإحتياط. كنت والزميل عبد الناصر الريفي الذي نزح لمقابلة زوجته في أمريكا رفيقَين في هذه الرحلة، كانت أحلامنا بدأت تتشكّل حول كيفية قضاء الليلة الأولى في جيبوتي: "نشتري شريحة اتصال ونستأجر غرفة رخيصة بدون تكييف، نغتسل فنتوجّه إلى أيّ مطعم لنسدّ ثغرات الجوع بداخلنا، ثم نتوجّه إلى صالون الحلاقة فأقرب مكان انترنت، ثم نتسكّع في شوارع جيبوتي لرؤية وجوه الناس الطبيعية التي فقدناها في اليمن بسبب الحرب التي رسمت البؤس والخوف والقلق على وجوه الناس". كان عبد الناصر الريفي حزينًا للغاية لمرور أربع وعشرين ساعة كاملة دون أن يعرف نتيجة مباراة فريقه المفضّل "برشلونة" الإسباني. كلّ هذه الأحلام التي صنعناها لأنفسنا تبخّرت بعد وصولنا الميناء.
وبدلاً من أن تنتهي رحلتنا بوصولنا إلى المدينة ثم الخروج إلى وجهتنا القادمة، انتهت بوضعنا في مخيم الميناء تحت حراسة مشدّدة من الأمن وضيافة البعوض ليلاً والذباب نهاراً. من أراد تقديم اللجوء في "جيبوتي" فإنّه لا يصل إلى الميناء بل مخيم يبعد عن المدينة ساعتين على القارب. ومن أراد استخدام جيبوتي كبلدِ عبور، يتمّ احتجازه في مخيم اللّجوء كإجراء روتيني لتوفير ضامن من مواطن جيبوتي، يضمن خروجه من البلد وعدم بقائه فيها، حتّى وإن كانت أوراقه سليمة.
في مخيم الاحتجاز:
وصلنا إلى مكتب الهجرة بعد أن نقلنا باص من موقف الزعيمة. قبل نزولنا، وقفت فتاة شقراء يتدلّى شعرها إلى كتفيها وصرخت بمكبّر الصوت، مخترقةً بكاء طفل: "الأمريكان واللي معاهم جوازات أمريكية يجو بعدي". أمّا الباقون فليذهبوا إلى الجحيم لأن بقية الدول -ببساطة- لا تهتمّ برعاياها.
أخذونا جميعاً وجوازاتنا ماتزال محجوزة لديهم، القانونيين وغيرهم، أخذونا إلى هنجر الإحتجاز. عطفوا علينا بالماء والأكل وشدّدوا علينا الحراسة، ابتسامة الحرس لم تكن كافية لمنع وقوع المشاكل المتعدّدة. الجميع يحمل تأشيرات لدخول دول أخرى ولكن لم يتمّ التعامل معهم بشكل ايجابي. قوانينهم الخاصة بإحضار ضامن جيبوتيٍّ كشرط أساسيّ للإفراج عن جوازك المحتجز، ليست مسلّية للكثيرين، لاسيّما وأنّ وصولنا كان مساء الخميس، ويجب أن نبقى محتجزين لديهم حتى صباح السّبت لنتمكن من توفير ضامن دون أن يوفّروا أيّ وسيلة اتصال مجّانية أو غير مجّانية.
تمّ وضعنا في هنجر يجمع الرجال والنساء ويمنع بعضهم من رؤية الآخر، من خلال ستار أبيض اللون عليه شعار المفوضية السّامية لشؤون اللاجئين، إلا أنّه لا يمنع صراخ الأطفال المرحين أو الباكين وما أكثرهم، ولا يمنع أيضًا همهمات النساء.
كان المخيم مكتظّاً باليمنيين، الكثير منهم محتجز لأكثر من شهر بسبب عدم توفّر ضامن، وآخرون أوراقهم غير مكتملة. لا يمكنك الخروج بسبب الأمن المشدّد وغياب جوازك، يمكنك فقط أن تحتجّ لتتمّ إعادتك إلى موطنك الأصلي أو الابلاغ عنك.
يقول الكاتب الصحفي، بشير عثمان، لـ"العربي" إنّ "أحدهم يصف نفسه بقنصل السفارة اليمنية في جيبوتي، يعمد إلى ابتزاز اليمنيين في مخيّم الإحتجاز، ومع وصول كلّ قارب يهرع إلى الميناء صارخًا: لا تعطوا أحدًا أيّ مال ثم يأخذ جوازاتهم، وبعد استكمال التأشيرة لهم يبدأ بعملية مساومة الجواز بالمال".
يضيف: "أحد الشباب الملتحين لم يعجبه هذا التصرّف، فعبّر عن تذمّره ليتمّ احتجازه كإرهابيٍّ بدعوة من القنصل، بقي أربعة أيام محتجزًا وتمّ الإفراج عنه بعد أن قدّم اعتذاره للمذكور". وبعد أن تحوّلت انتهاكاته إلى قضية رأي عام، تم اعفاؤه من منصبه.
السفارة اليمنية أو حتّى الجالية لم تكن متواجدةً في مخيم الاحتجاز، على الأقل فترة تواجد "العربي" فيها وما قبل ذلك. هذا ما أكّده أحد أفراد الأمن الجيبوتي لـ"العربي" الذي كان حارسًا على مخيم الإحتجاز، قائلًا إنّه "لم يشهد وجود أحد من السفارة، وأغلب الحاصلين على الضمانة إمّا بسبب علاقات أو بسبب الرشاوى التي قدّموها لبعض النافذين، باستثناء جمعية خيريّة جيبوتيّة تقوم بضمانة اليمنيين بشكل خيري".
ما بعد الإحتجاز:
واجه اليمنيون الذين غادروا مخيّم الإحتجاز مشكلة الإرتفاع الجنوني للأسعار وانعدام السكن. الهاربون من القصف الجوي والحرب الداخلية واجهوا خيارين فقط: التحدّي ومواجهة العوائق، أو العودة إلى اليمن. خياران أحلاهما مرٌّ للغاية.
مواجهة العوائق تعني السّكن في شقق يزيد إيجارها الشهريّ عن ألف دولار، وتسديد فاتورة الكهرباء التي تزيد عن مبلغ الإيجار، أو السّكن في غرف جدرانها من الخشب وسقفها كَبَابها من الزّنج، في شقّة مشتركة لمواطنين من جنسيّات مختلفة، ومروحة وحيدة غير قادرة على إكرام الساكنين بالبرودة.
قصص الهاربين من الموت في اليمن تزداد، كلّ فرد نازح خاض معركة البقاء حيًا بعيدًا عن قصف الطائرات وممارسات جماعة "أنصار الله"، لتبدأ معاناة أخرى لا تقلّ إيلاماً عن سابقتها.
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 07:10 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-44528.htm