صنعاء نيوز - 
ترددت كثيراً قبل أن أحسم أمري بالخوض في هذا الموضوع والكتابة عنه، ليس هروباً من موضوعٍ شائك

السبت, 03-ديسمبر-2016
صنعاء نيوز/يحيى كامل مصطفى -


ترددت كثيراً قبل أن أحسم أمري بالخوض في هذا الموضوع والكتابة عنه، ليس هروباً من موضوعٍ شائك أو من الحقيقة أو الواقع وإنماً لما يثيره ذلك من آلام وشجونٍ ومخاوف على حالنا الذي النا إليه، وربما لا يخلو الأمر من خشيةٍ مما قد تجره كتابةٌ كتلك من تخوينٍ، ومن يدري ربما اتهاماتٍ بالضلوع في مؤامرة كون تلك الأخيرة باتت أسهل ما قد تُصفع به إذا رفعت صوتك لا معترضاً فحسب، وإنما لافتاً مشككاً أو حتى متسائلاً.
جسرٌ آخر نحرقه مع ذلك النظام وتلك الدولة والطبقة التي تعبر عنها التي تدفعنا إلى حسم مواقفنا، ربما رغماً عن البعض منا. وقد توصلت منذ فترةٍ إلى قناعةٍ راسخة بأن الموقف الثوري الصحيح يقتضي حرق كل تلك الجسور دفعةً واحدة وطرح أي أوهامٍ بإمكانية إصلاح هذا النظام الميت بالفعل.
أزعم أن كثرةً، ربما الجميع، قد سمع بالفيلم المصنف خطأً بالوثائقي «العساكر» والذي أنتجته قناة «الجزيرة» يسرد فيه جنودٌ وضباط صفٍ وضباط احتياطٍ تجاربهم في الخدمة في القوات المسلحة المصرية، تجارب مزرية ملأى بالظروف المعيشية الصعبة والعبث والإهانة واللاجدوى، وكما هو متوقع فقد استفز ذلك رد فعلٍ عارم من قبل كل الصحف وعلى رأسها بالطبع المملوكة للدولة، والتهبت الفضائيات بالمشاهد الحماسية لعروضٍ عسكرية فيها رجالٌ ممتلئو الصحة مفتولو العضلات. كما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالإنكار والاستنكار والشجب والوعيد، وبالطبع السباب لقطر وأميرها وسائر الـ»فاميليا» الموقرة ناعين عليها صغر حجمها وحداثة (أو انعدام في الحقيقة) تاريخها واستحالة مقارنتها من ثم بمصر، بدورها الفارق والمؤسس في الحضارة الإنسانية.
لا شك أن هناك العديد مما يمكن أن يقال بصدد هذا الفيلم/ الفيديو من حيث الدوافع والتنفيذ التقني والأداء. بدايةً، وفي ضوء ما بات يشبه سراً معلناً عن تحالفاتٍ واصطفافاتٍ إقليمية حددت مواقع اللاعبين على خريطة الشرق الأوسط، فإن تبني قطر وتركيا لجماعة الإخوان المسلمين وإيواءهم أمرٌ معروف، كما هو معلومٌ مناصبتهم العداء للنظام المصري برئاسة السيسي، وعلى ذلك فإن ذلك الفيلم وأشباهه من التغطيات الإعلامية والتحليلات لا يعدو كونه نوعاً من «كيد النساء» كما نقول في مصر وتقويضاً لأحد أعمدة وجود الدولة المصرية المزعومة، إذ يتحتم ألا تتسرب إلينا ذرة شك واحدة في أن قطر، أحد محاور الرجعية والردة والمشروع الغربي- الصهيوني في المنطقة (مهما بدت تلك الكلمات عتيقة لا تعجب البعض) قطر تلك لا تأبه مطلقاً لحال المجندين المصريين «الغلابة».
كما أنني أتفق مع كون التنفيذ المهني والتقني لهذا الفيلم مفرط الرداءة، فهو لم يعرض لتاريخ الجيش والتجنيد الإجباري في مصر صاحبة أكبر جيش نظامي وأقدمه في الدول العربية، ولا لظروف تلك النشأة ومحوريتها في الدولة المصرية الحديثة وتطور المؤسسة العسكرية ولم يعرج على دورها في السياسة، ولم يسأل عن حال المجندين إبان حربي الاستنزاف و73 حين لم تكن الظروف أقل قسوة بأي حالٍ من الأحوال ومع ذلك ثبت هؤلاء «العساكر» في كل الجبهات وعلى كل المستويات وبكل معاني الكلمة. لم يحاور البرنامج ضباطاً في رتبٍ أعلى عن رأيهم في ذلك الواقع المصور مزرياً، كما أنني لا أعلم ما هو محل ذلك الأمريكي الذي أقحم على الشريط من الإعراب؟
كل ذلك صحيح، وما يثير العجب هو تغلب الرغبة في التجريح على الالتزام بالمهنية، حيث كان بإمكان «الجزيرة» إيصال الرسالة نفسها بأداءٍ مهني، نوعٌ من دس السم في العسل، لكنها الرغبة الجامحة المتعجلة في المشاكسة والمكايدة.
لكن…لكن…يبقى السؤال الأهم لا يطرح…نتهرب منه، ما هو نصيب المعروض، وهو مهينٌ مؤلمٌ، من الصحة والصدق؟ وإذا كانت قطر و»جزيرتها» بضعة الحال وضآلته إلى تلك الدرجة فلم الاكتراث من أصله؟ لماذا لم يتم تجاهله ما دامت مصر عملاقاً كما يرددون وقطر دون القزم؟ لماذا يتوقف العملاق في طريق أعماله العظيمة ليلتفت لترهات قزم أو ما هو دونه؟
الإجابة ببساطة وبفرط ألم لأن ما ورد في الفيلم كله حقيقي، أو هو جانبٌ من الحقيقة، دون مبالغات من واقع مشاهدتي الشخصية. يجوز أن وضعي كان متميزاً بحكم مؤهلي الدراسي، إلا أن ذلك لا ينفي أن كل ما قيل، كله بلا استثناء، حاصلٌ.
فالعساكر يستغلون ويذلون ويسبون ويداس عليهم ويتركون أرضاً مباحة لضباط الصف والضباط ليفرغوا عليهم تلك الشحنة الفائضة من الإحباط ومركبات النقص والسادية التي وحده الله يعلم من أي معينٍ لا ينضب يستمدونها. أحياناً تصورت أنهم يتوخون ويتعمدون انتقاء تلك الرتب من مصاف المرضى النفسيين. بالطبع لا يخلو الأمر من ضابطٍ هنا وقائدٍ هناك لم ينزع الله الرحمة من قلبه يحنو ويرفق بالعساكر، إلا أن الأمر أولاً وأخيراً متروكٌ له، فالقائد يكاد أن يكون ظل الله في الأرض؛ وإذا أنت سألت: لم كل هذا ولأي غرضٍ؟ فلن تجد إجابة سوى كلماتٍ مبهمة ما تني تفقد أي معنى من عينة: الوطن والمرابطة الخ، هذا بفرض أنك بلغت رفاهية أن يسمح لك بالسؤال في ساعة صفا.
فالمعدات قديمة ومتهالكة والتدريبات منعدمة أو دون المستوى، ولقد امتدت حالة التراخي والانحطاط هذه فترةً طويلة، ما يزيد على الثلاثين عاماً، أما الآن والإرهاب يتهدد ويضرب مصر فإن تلك الأسئلة والمراجعة تصبح مصيرية: فالإرهاب يضرب سيناء في الكمائن نفسها تقريباً وبالأساليب نفسها ولا شيء يبدو أنه يتغير. ما زال الشهداء يسقطون. وإن لنا أن نسأل، وبالأصح يتحتم علينا أن نسأل: هل هؤلاء الجنود والشهداء الذين رحلوا مدربون تدريباً كافياً ومؤهلون للتعامل مع الإرهابيين؟ هل يعاملون باحترام؟ هل يأكلون جيداً؟ هل تسليحهم مناسب؟ أين المدرعات المضادة للألغام التي أهدتها أمريكا لمصر؟!
أجل، لقد هاج وماج النظام وأبواقه وأنصاره، وبعض العاقلين ممن ما زالت الحمية الوطنية تحترق في صدورهم وكبُر عليهم ما وصلنا إليه، إلا أن وراء كل ذلك دافعٌ واحدٌ مشترك: الخوف…الخوف من الحقيقة…الخوف من المستقبل، مما هو آتٍ…فكثيرٌ منهم يعلم علم اليقين أن ما بثُ حقيقي والبعض الآخر يخشى أن يصدق ولكنه يحدس.
إن الطبقة الحاكمة في مصر وكثيرٌ من الغيورين يعيشون حالة إنكار يخشون المروق من تخومها. هل انحط الحال بمصر إلى هذا المستوى؟ هل من المعقول أن تتطاول على مصر دولةٌ كقطر التي لا يساوي تعداد سكانها حياً في القاهرة الكبرى؟ هل من المعقول ذلك الانهيار في قيمة الجنيه واشتعال الأسعار؟ أصحيح أننا سائرون إلى كارثة اقتصادية؟ حين يتكلم السيسي متلعثماً وبلغةٍ لا تليق بسائق ميكروباص يسأل البعض: أهذا أفضل ما تمخض عنه جبل المؤسسة العسكرية؟
لا وألف لا…بالتأكيد السيسي يعرف تماماً ما يريد، وبالتأكيد القائمون على الأمر (لاحظ كلمة غامضة أخرى) لديهم رؤية وخطة وإن كنا لا نعرفها وبالتأكيد لدينا أسلحة متطورة (ألم نشتر حاملتي حوامات؟).
لكن العساكر يموتون وتظل الأناشيد مرةً أخرى وتسجيلات العروض العسكرية تحارب بدلاً عنها. وتستمر حالة الإنكار والتشبث بوهم الجيش الحامي القادر، فالتحدي الحقيقي لا يحدث لأن إسرائيل من مصلحتها استمرار هذا النظام بل ومتحالفةٌ معه. الجديد الخطير في حكم السيسي هو الدور المتعاظم للمؤسسة العسكرية في الاقتصاد حيث تغولت وأصبحت إمبراطورية متشعبة كالأخطبوط لا يعلم أحدٌ حجمها كونها لا تخضع لرقابة علنيةٍ ذات معنى، وهي تعتمد على عرق العساكر في شكلٍ من الاستغلال المتوحش يعد ارتكاساً للعبودية وما دون القنانة.
لكن للأسف فإن العرض سيستمر للنهاية ومعه حالة الإنكار، وكما قال صديقٌ عزيزٌ لي، ستكون لحظة الحقيقة شديدة الإيلام.
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 01:11 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-47216.htm