صنعاء نيوز - 
           كانت اللغة السليمة هي المادة الاساسية المشكلة لهذهِ القصيدة، وكان للشاعر طريقتهُ الخاصة

السبت, 06-مايو-2017
صنعاء نيوز/د . باسل مولود الطائي - د . سفانة شعبان الصافي -

كانت اللغة السليمة هي المادة الاساسية المشكلة لهذهِ القصيدة، وكان للشاعر طريقتهُ الخاصة في استعمال الكلمة وتركيب الجملة من حيث النمو البلاغي، وقد تعامل الشاعر مع اللغة بطريقة دقيقة وسليمة فجر فيها خواص التعبير الأدبي وجعل العبارات، والانساق والجمل، قوة تتعدى الدلالة المباشرة، ونقل الاصل الى المجاز لتفي بحاجة الفن في التعبير والتصوير.
وقد وجدنا أن النظم اللغوية في جمل الحوار في قصيدة تقفي الأثر لم يكن ترتيباً عفوياً للألفاظ، بل كان في كثير من المقاطع صدى للتوترات الانفعالية والوجدانية التي تعتري أحد أطراف الحوار، فضلاً عن أن أهم أغراض التقديم والتأخير التي مرت في التركيب البنائي لهذهِ القصيدة هي الاهتمام والتعظيم والتأكيد والابراز، وضمان وصول المعنى إلى ذهن السامع وكشف المنحنى الوجداني والانفعالي لدى أحد أطراف الحوار، وبهذا قدم لنا الشاعر قصيدة سليمة اللغة حواراً وترتيباً ومعنى
ينتسب هذا النص إلى قصيدة النثر حيث تتكثف الصورة الشعرية لتختلق شعراً متميزاً يشي بفكرة عميقة هي العلاقة بين الروح والجسد ويخلق فرج ياسين حالة من التراسل بين البطل وتموز البابلي أحد أبطال الدولة البابلية ، وهو بهذا يصل بطلهُ بماضيه، أَي أن نوفل هو امتداد لتلك الشخصية العراقية، وقد أَكد على عروبتها من خلال الومضة الدالة بقوله:
(حيث لم يبقى أمامنا
سوى انتظار عودتك
عودة تموز البابلي
من متاهات العصور) ولتأمل شاعر كيف ربط بين بطله ومستقبل حاضره ، وكيف تنامى ذلك الارتباط.
-بعد رحيلك يا صديقي...
أقفرت المدينة...
ونزعت هويتك
-صرنا نقعد على الأرصفة عجائز مهدمين...
نجتر ذكرى
-شواهق...
مدينة راحلة...
ونحلم بمدينة مستحيلة
-نطلقها بين الاسماء والوجوه
الشاع ربدأ يهيء بطل قصيدته وكأنهُ يرسم لهُ دور بأنه منذور لدور كبير، وبدأت فكرة الولاء للواقع وهمومه تتسرب إلى روحه وعقله، وهو على وعي أولي طري واعد (ولابد من الإشارة إلى أن الشاعر قد قدم لنا صورة ؛ أن نوفل حي لم يمت كرمزية نسيج من فكر الشاعر لإيهام القارئ وتأكيد لواقعية بطله وإنسانيته، وترسيخاً لجذوة في واقعه
-من أَجل أن تبقى شفرتك فينا
-وهي ترفل بشبابها
وهذا الترتيب لمحاور السيرة يأتي من أفق الوعي بتطور شخصية البطل، فالصدق والأمانة في كثير من السير يُعدّ كل منها حافزاً ضرورياً ومهماً لتحقيق الذاتي، ويحقق الارتباط بالمكان وهذا أمر في غاية الضرورة عند بناء النسيج الفني للقصيدة، كما أن البطل الذي سيتحدى أعداء الواقع، وسيصبح الموت عنده هاجس يتربص به بحاجة إلى أن يصل نفسهُ بالحياة، عودة الرمز الذي يرمز إلى الحياة، وخصبها، واستمرارها، والقيم العليا هي أوتاد الحياة، وهي جذور البطل الضاربة في تربة الواقع وهنا يصبح نوفل معداً لطور من الولاء والوعي بدوره، يليق بصيته الطيب وحسن أَخلاقهُ وطيب معشره ، وهذا المستوى من الإعداد الجسدي والروحي (للبطل) يقترب به من الذات الكاملة ومن النموذج الأصلي للجماعة، ومن صورة الرجل الحلم المنذور لتغير القيم الأخلاقية والنظم الاجتماعية وقد يصل مدى خيال الشاعر إلى الإصلاح السياسي في مجتمعهِ، نوفل تبلغ ذروة أعدادها، وتدرك حدود مسؤوليتها حين يجتاح النثر الحياة من حولة، وقيمة نوفل تزدادا بمقدار وعيه - بالخطر الداهم، واستعداده لمواجهتهُ، وقدرتهُ على تغير معادلات - الوضع الراهن المقلوبة – (أمطرت السماء...
وحل الدفء
وأرهصت الأرض بالشقائق والخزامى
حيث لم يبق أمامنا
سوى انتظار عودتك)
وفي لغة ذكية من الشاعر، الذي يدرك أهمية البعد الأيماني لبطل ورجل شعبي، وبهذا البعد تبلغ ذات البطل أقصى مايراد لها من نضج على تحقيق الذات الكاملة، وتقديم النموذج الأصلي في أبهى تجلياته.
قام الشاعر بالربط بين نوفل وتموز البابلي بشكل مميز ودقيق وذلك بكثافة الشعر وقدرته على اللمح والإيجاز، ويوظف الشاعر شخصية تموز البابلي ونوفل ويخلق بذلك حالة من التراسل بين صورتين وزمنين مختلفين.
وحين تتأمل بناء التجربة، سنجد أن الشاعر قد استعاد تقنية سردية حديثة، تقوم على البدء بالحدث الضخم، وهو حدث النهاية ثم يأتي سائر التجربة من خلال تقنية سردية حديثة أخرى، وهي الاستدعاء من الذاكرة، وتتوالى أحداث السيرة من خلالها، حتى تضع الملتقى أمام الحدث المأسوي.
ويجعل ختام قصيدتهُ دعوة إلى تموز البابلي للعودة الميمونة، وأن يعم الخير والسعادة وتهطل الأمطار ويعم الامن وتشيع الفضيلة وترتفع رايات المبادىء والقيم النبيلة، لأن نوفل كان قيمة كبرى في حياتهم.
نبدأها بعتبة العنوان: (تقفي الأثر) الذي يدل حدث بكلمات موجزة فالفعل (تقفي) من (قفو) قفوتُ أثَرهُ قفواً، من باب قال: تبعته.( ) أمّا الأثر من (أثر الدار: بقيتها، والجميع: آثار، مثل: سبب وأسباب)( ) فالمعنى أنّه تَبِعَ ما بقي من صاحبه الذي رحل عنه. ثم يبدأ الشاعر بتصوير ما حدث بعد رحيله فيقول:
بعد رحيلك يا صديقي
اقفّـــــرت المدينـــــــة
ونزعت هَويتــــــــــها
تصوير جميل لمشهد ما بعد الرحيل، بألفاظ جميلة متناسقة تَنُمُّ عن ذوق قائلها ورقي لغته، يقول: (اقفرت) و (القَفْر: المفازة لا ماء بها ولإنبات، وأرض قَفْرٌ، ومفازةٌ قفرةٌ، ويجمعونها على قفاز، فيقولون: أرض قِفَار... والمعنى: خالية من أهلها... وأَقْفَرت الدارُ: خَلَت)( ) أما الفعل (نزع) فمنه: (نزعته من موصغه نزعاً، من باب ضرب: قلعته)( ) في حين نجد أنّ الهُوِيّة الثقافية وغيرها( ). والهُوِيَّة حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره، بهذه المفردات يذكر الشاعر ما حدث بعد رحيل صديقه، يرى أنّ المدينة أصبحت خالية من كل شيء من ماء وزرع ونسل، خلت من أهلها، وقلعت حقيقتها وما هو كائن لها، يضيف قائلاً:
صرنا نقعد على الأرصفة عجائز مهدمين
نجتر ذكرى شواهق مدينة راحلة
ونحلم بمدينة مستحيلة
هنا يصور حال هيئتهم بعد رحيله، فهم يقعدون على الأرصفة يشبّه حالهم بحال العجائز وهو جمع (عجوزة) المرأة المُسنة( ) أمّا لفظ (مهدَّمين) فهي على الاستعارة لأنَّ الهدم إنّما يكون في البناء من هدمتُ البناء هَدْماً، من باب ضربَ: أسقطته فانهدم، ثُمّ أستعير في جميع الأشياء فقيل: هَدَمت ما أبرمه من الأمر ونحوه)( ) أمّا (نجتّرُ) من (اجتَّر الكلام: كررَّه وأعاده مرات من غير الإتيان بشيِء جديد يجتُّر أفكار السابقين)( ) وقوله (ذكرى) من (ذكر ذكرتهُ بلساني وبقلبي، ذِكرى بالتأنيث وكسر الذال)( ) فهو يعيد ويكرر بقلبه ولسانه ذكرى وصور لرفيق دربه الذي غادر الحياة فيرى أنَّ رحيلهُ رحيل مدينة كاملة؛ قال: (ذكرى شواهق مدينة راحلة) استعمل الشاعر جمع (شواهق) وهو أحد أنواع جمع (شهق) إذا أردنا أنْ نقول: جبال شاهقة وشاهقات وشواهق، مؤنث لجبال، استعملها أيضاً المؤنث لأنّه يتحدث عن مدينة راحلة وعن ذكرى هذهِ المدينة، ثم يضيف الى منظر الرأس والقنوط صورة أُخرى بقوله:
(ونحلم بمدينة مستحيلة)
فهم يحلمون بمدينة أُخرى غير التي يراونها الآن، مدينة مستحيلة لايمكن تحقيقها حتى بعد ان يبذلوا اقصى مالديهم ثم يعود مجدداً لذكر سمات هذا الغائب الحاضر فيقول:
أنتَ من كنت تطلق أفراسـك
في حلبــــات المكـــــــــــــان
تطلقها بين الأسماء والوجوه
هنا كناية عن تلك الاشياء التي اتسم بها هذا المفقود الحاضر كلمة (أفراس) من فرس، وهو يقع على الذكر والانثى، يجمع على غير لفظه فيقال: خيل، وعلى لفظه ثلاثة أفراس وثلاثُ أفراس للمذكر والمؤنث( ) أمّا حلبات من الحَلْبة وهي خيل تُجمع للسباق من كل أوب ولا تخرج من وجه واحد، يقال: جاءت الفرسُ في آخر الحَلبة، في آخر الخيل( ). لذا ناسب هذا اللفظ مع (الأفراس). ثم يستذكر ماكان بين وبين ذلك الغائب الحاضر بقوله:
وفي كــــــــــــــل لحظـــــــــــــة
نرى الدروب ونقرأ كتاب طالعنا
من أجل ان تبقى شفرتك فينــــــا
وهي ترفـــــــــل بشبابهــــــــــــا
فهو يستذكر تلك الدروب، جمع (درب) وهو المدخل بين جبلين، وليس أصله عربياً، والعرب يَستَعمله في معنى الباب، فيقال لباب السّكة: درب، وللمدخل الضيق: دَربٌ لانه كالباب لما يُفضى اليه( ).
نرى هذا اللفظ غير عربي، إلاّ أنه استعمل لمعنى الباب ثم تطور دلالياً ليصبح ذلك الممر الذي يتوصل به إلى الباب، لكنه أراد تلك الطرق المتنوعة المختلفة التي مضوا فيها وقرأوا كتباً مختلفة بالصورة والمنظر، كل ذلك من أجل ان تبقى شفرته فيهم، والشفرة هي رموز يستعملها فريقٌ من الناس للتفاهم السري فيما بينهم، والجمع: شِفَارٌ وشَفْرٌ( ) أي أرادوا أنْ تبقى تلك الرموز والايحاءات التي كانت بينهم- أرادوا- أنْ تبقى خالدة وهي تتنعم وتزهو بشبابها. ثم بصور لوحة أُخرى بقوله:
أمطرت السماء
وصـــلَّ الدفء
وأرهصت الارض بالشقائق والخُزَامى
لوحة جميلة مشرقة يرسمها الشاعر بأنامله الذهبية مستوحاة من تعاقب الفصول وتتابع الأيام، لغة إيجاز في تصوير حركة تلك الايام والشهور، فبعد أن أمطرت السماء وسقَتِ الأرض وارتوت- وأمطرت لغة في (مطرت) وهي من باب طَلبَ: فهي ماطرة في الرحمة( ). ثم يوجز الحديث وكأنما أراد بعد ذلك أنها سقت الارض ثم حلَّ الدفء لتظهر لنا تلك النباتات الجميلة الملونة على وجه الارض، اختار من بين النباتات الشقائق والخزامى، أمّا الشقائق فهي شقائق النعمان وهي (الشقرُ) وسمي بذلك لأنَّ النُّعمان من أسماء الدم، فهو أَخُوه في لونه، ولا واحد له من لفظه، وقيل: واحدته شقيقة( ). في حين نجد أَنَّ الخُزامَى، بألف التأنيث: من نبات البادية، قال الفارابي: وهو خيريُّ البَرّ، وقالَ الازهري: بَقلة طيبة الرائحة لها نَوْر كَنَورْ البنفسج( ).
أمّا (أرهصت) من أرهص الشيء: أثبته وأسسه( ). والمعنى أنَّ الأرضَ أنبتت وأسست تلك الاشياء الجميلة التي فيها:
الشقائق والخزامى، وأخيراً يسلم نفسه لليأس فيقول:
حيث لم يبقَ أمامنا سوى انتظار عودتك
عودة تموز البابلي من متاهات العصور
الجملة الاولى عبارة عن يأس مطلق وقنوط دائم، ثم يؤكد تلك الحالة برمز آخر يذكر فيه الأسطورة، أسطورة (تموز) أو (دموزي) إله الخصب والذكورة، ولم يكن اختيار القاص لهذهِ الاسطورة اعتباطاً وانما اختاره لغاية في نفسه، فغياب تموز البابلي هو غياب الخصب والحياة، هكذا صوّر لنا الشاعر هذهِ المأساة التراجيدية، انتهى باعادة ما قاله سابقاً، (نحلم بمدينة مستحيلة) كيفَ يبني مدينة بدون تموز البابلي؟ فهو يحلم لاغير.
الشاعر في هذهِ القصيدة استعمل اسلوب الخبر السردي، والخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب( ) تنوع أسلوبه بين الجمل الفعلية والاسمية فضلاً على شبه الجملة من الجار والمجرور والظروف، أخبار نقلها لنا بصور مختلفة تعددت فيها الألفاظ والمعاني فضلاً على تلك الرموز التي كانت حاضرة في هذهِ القصيدة الرائعة المصورة لمشهد الوداع والفراق والافتقاد والحضور لرمز كان ومازال وسيظل حاضراً في ذاكرة الشاعر.


تمت طباعة الخبر في: الأحد, 22-ديسمبر-2024 الساعة: 02:07 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-51995.htm