صنعاء نيوز/ علي شهاب - كاتب صحفي وصانع أفلام وثائقية. له العديد من المقالات في CNN بالعربية، "هافنغتون بوست"، "السفير" وغيرها.
ليست السعودية على شفا انهيار مالي بالتأكيد. ووضعها الإقتصادي، بالرغم من استدانتها 27%من احتياطي النقدي الأجنبي في الأعوام الأخيرة، لا يعني الكارثة. لكنّها بالتأكيد ليست المملكة نفسها التي كانت تملك إلى حد بعيد السيطرة على مفاصل قرارها الإقتصادي. وهي اليوم ترهن قرارها السياسي أيضاً بالكامل مقابل الحماية الأميركية. وفي حين يزخر الإعلام العربي بالحديث عن الأزمات المالية في المنطقة ويتحدّث عن انهيارات مالية مُبالغ بها في بقع محدّدة، فإنه يغيّب تماماً أيّ حديث عن الوضع الإقتصادي للسعودية، التي باتت قوتها تنحصر في قدرتها على تلبية حاجة ترامب للمال في لحظة اقليمية لا تملك الرياض القدرة على استشراف مصيرها.
يناقش بعض الإقتصاديين في أنّ الإجراء السعودي في سحب ثلثي الاحتياطي النقدي الأجنبي لتسديد عجز الإنفاق في العامين الماضيين خطوة اعتيادية، و أنّ أفضل إقتصاديات العالم تعمد إلى ذلك (راجع المقال السابق على الميادين نت). هذا النقاش قابلٌ للتوسّع لو كنا نتحدّث عن دول تمتلك موارد متعدّدة يقوم عليها إقتصادها؛ بخلاف السعودية التي يتحكّم إنتاجها من النفط بالمفاصل الإقتصادية للبلاد. فما هي تردّدات الوضع الإقتصادي المُتراجع في المملكة وما تأثيره سياسياً عليها؟
تعاني "رؤية 2030" لوليّ وليّ العهد محمّد بن سلمان، بصفته رئيس مجلس الشؤون الإقتصادية والتنمية، من ضعف جوهري في معالجة أسباب الركود الإقتصادي والعجز القياسي في الميزانية في العامين الأخيرين. فالرؤية، التي تروّج نظرياً لإنشاء اقتصاد متعدّد الموارد، لا ترقى إلى مستوى هذا الهدف بالنسبة للقطاع الخاص الذي يعتمد على الإنفاق الحكومي المتعثّر أساساً. في العامين الأخيرين، ينقل الكثير من الوافدين من المملكة الأنباء عن شلل يضرب قطاع البناء بسبب العجز المالي للحكومة نتيجة انخفاض أسعار النفط من جهة، و توجّه لدى بن سلمان بفرض حصار مالي على كُبرى الشركات بغرض تطويعها. بكلمات أخرى، تحمل رؤية بن سلمان في طيّاتها نواة فشلها لكونها تدور في حلقة مُفرغة، ما دامت الحكومة المُتأثرة بأسعار النفط هي الزبون الأول للقطاع الخاص المطلوب تطويره.
لا تقف المشكلة عند هذا الحد. فالإنتقال من إقتصاد يعتمد على النفط الى إقتصاد متعدّد الموارد، كان يمكن أن ينجح قبل عشر سنوات باستهداف القطاعات التقليدية، لكنّ توخّي هدف بهذا الحجم في العام 2017 يتطلّب الإستثمار أولًا في مجال التكنولوجيا الرقمية؛ القطاع الأهم في الحاضر والمستقبل. هذا الإستثمار لا يكاد يبين في رؤية 2030، خاصة مع حجم العمالة الأجنبية التي تعتمد عليها السعودية وغياب الموارد البشرية المحلية القادرة على النهوض بهذا القطاع وحدها.
أمام هذا الواقع، تسعى الرياض لكسر الحلقة المُفرغة بجذب استثمارات أجنبية. يبحث أي مستثمر أجنبي عن موارد بشرية محلية لتوفير الإنفاق وزيادة الربح. في حال السعودية، عدنا إلى المربّع الأول؛ فغياب اليد العاملة المتخصّصة الجاهزة للدخول إلى سوق العمل يطرح إشكاليات مستعصية، و يضع الُحكم في سباق مع الزمن لناحية الحفاظ على مستوى المعيشة للمواطن السعودي بالتزامن مع تأهيله ليقود زمام إقتصاد بلاده.
هنا تماماً ظهرت مشكلة "أرامكو" بعد أن قرّرت الرياض بيع أسهم من أهم شركة تدرّ دخلاّ على المملكة. اللجوء إلى هذا الخيار، مع ما يعني إقتصادياً من خيار انتحاري بنظر بعض الخبراء، يعكس بشكل لا يدعو للنقاش حجم الأزمة المالية السعودية. ولكن ماذا تعني كل هذه المُعطيات في السياسة؟ وكيف من الممكن أن تنعكس على دور وموقع السعودية الإقليمي والدولي؟ لعلّ أول ما يخطر على البال عند محاولة استنباط تداعيات الأزمة الإقتصادية السعودية هو الإبتزاز الموصوف الذي يمارسه الرئيس الأميركي دونالد ترامب إزاء حليفته الأهم عربياً.
يمسك ترامب السعودية من اليد التي تؤلمها: الإقتصاد.
وجّه الرئيس الأميركي ضربةً موجعةً لحليفته الخليجية حين أبدى أخيراً انزعاجه من أن المملكة لا تدفع ما يتناسب والحماية الأميركية التي تحصل عليها.تتجاوز حدود هذا الانزعاج الصفقات القادمة بعشرات مليارات الدولارات؛ إذ أنّ ترامب قد أرسى عملياً علاقة نفعيةً يُمسك تماماً بزمامها بغضّ النظر عن المصلحة الوطنية السعودية والوضع الإقتصادي في المملكة.
لن تملك الرياض بعد الآن أن تنتقي مشترياتها العسكرية، بل هي ملزمة بعقد صفقات غير مسبوقة بغضّ النظر عن حاجتها الفعلية. رفضُ عقد هذه الصفقات يعني ببساطة خروج العلاقة مع الولايات المتحدة عن حدود الملعب الذي خطّ حدوده ترامب، الذي صار من الواضح أنّه يقيس مصالحه وسياسة بلاده بحجم الاستثمارات والأرباح المالية لا الرؤية الاستراتيجية.ولئن كانت المسألة الأميركية العامل الأكثر بديهيةً لدى تحليل تداعيات الأزمة الإقتصادية السعودية، فإنّ في العمق ما هو أخطر من ذلك. إذ على حكّام المملكة الإجابة على الإشكاليات التالية:
- بنى الأمير محمّد بن سلمان رؤيته على حقبة زمنية تبلغ ذروتها بعد 23 عاماً. كيف سيكون قادراً على تحقيق هذه الرؤية مع استمرار انخفاض أسعار النفط واتّساع العجز في الموازنة؟- الاستنزاف المالي نتيجة حربي اليمن وسوريا مفتوح الأمد، ولا تلوح في الأفق نهاية قريبة لأي من هاتين الحربين. هل يمكن تحقيق أية رؤية إقتصادية مع وجود البلاد في حال استنزاف؟- لا يخفي وليّ وليّ العهد رغبته في التغيير وإجراء إصلاحات غير مسبوقة على الصعيد الإجتماعي والديني والثقافي، لكن هذه الرغبة تصطدم بالتأكيد بوجود شريحة دينية تقليدية شريكة بالحكم تاريخياً. هل يستطيع الأمير الشاب التعامل مع هذه الشريحة وتحقيق رؤيته الإقتصادية في حال صار ملكاً؟لا تشي الأجوبة المحتملة على أيّ من هذه الأسئلة بوجود حلول قطعية، لكن الغريب أن يبادر بن سلمان، أمام هذا المشهد، إلى القفز فوق الحقائق، كما فعل في مقابلته التلفزيونية الأخيرة. يقول وليّ وليّ العهد إنّ بلاده ثالث أكبر بلد في الإنفاق على التسلّح عالمياً. قبل أيام قليلة من هذه المقابلة، صدر تقرير معهد "ستوكهولم" المشهود له بالمصداقية في موضوع الإنفاق العسكري العالمي. يكشف التقرير أنّ الإنفاق العسكري السعودي انخفض بنسبة 30% في عام واحد ليصير في المركز الرابع. ولولا أنّ الدول الأخرى تراجعت بسبب معاناتها الإقتصادية لكانت مرتبة المملكة في تصنيف أكثر تأخراً. لم يُشر بن سلمان إلى هذا من قريب أو بعيد. تماماً كما يفعل عند الترويج لرؤيته بالقول إنّ هدفها تنويع مصادر الدخل الوطني، وعدم الاعتماد على النفط في حين أنّ أساس الرؤية بيع أسهم "أرامكو" النفطية!ماذا بعد إذا؟ليست السعودية على شفا انهيار مالي بالتأكيد. ووضعها الإقتصادي، بالرغم من استدانتها 27%من احتياطي النقدي الأجنبي في الأعوام الأخيرة، لا يعني الكارثة. لكنّها بالتأكيد ليست المملكة نفسها التي كانت تملك إلى حد بعيد السيطرة على مفاصل قرارها الإقتصادي. وهي اليوم ترهن قرارها السياسي أيضاً بالكامل مقابل الحماية الأميركية.
وفي حين يزخر الإعلام العربي بالحديث عن الأزمات المالية في المنطقة ويتحدّث عن انهيارات مالية مُبالغ بها في بقع محدّدة، فإنه يغيّب تماماً أيّ حديث عن الوضع الإقتصادي للسعودية، التي باتت قوتها تنحصر في قدرتها على تلبية حاجة ترامب للمال في لحظة اقليمية لا تملك الرياض القدرة على استشراف مصيرها. |