صنعاء نيوز - بقلم: هايل المذابي

السبت, 01-يوليو-2017
صنعاء نيوز/ بقلم: هايل المذابي -
قصيدة بمواصفات طائرة إيرباص طراز A380
قراءة سيميائية في قصيدة "جنون" للشاعرة سميرة عبيد

صنعاء نيوز - بقلم: هايل المذابي



أولا: النص



جنون

سميرة عبيد


«سلّم على بيتنا يا غريب

فناجين قهوتنا لا تزال على حالها

هل تشمّ أصابعنا فوقها؟»

محمود درويش

جنون الأخضر
رائحة الموج
عبق الصباح
صمت الوجود
أي لون تعشقه أيها المتموج فيَّ؟
أي عطر يرويك؟
انتظرني
أنا سؤال يظمأ في وجه الماء
من شرنقة صحراء البحر
يخرج
انتظرني
في صباح القهوة «السادة»
تبتسم لي
تمحو صوتي بصوتك
جناح واحد
لابتسامة الريح
يدعوني إلى سهرة برج الحرية
كي أفقد حواس
جذوري
هل شَحَّ الماء أم توقفت عقارب الساعة؟
انتظرني
لبقية العمر
أنا عبق جنون
يحاكي سطوة طفلة تصرخ:
لست حلما مؤجلا
أو حطبا لروح متفحمة
أنا ذاكرة تشتعل بالمجاز
ترجلت طريق المستحيل
عجلات الاستعارة
جنون بنفسجة
يفتك بها البحر
دقيقة وأدخل باب البحر:
وجوه قزحية تحدق في طقطقة حذاء أسود يرتبك لجلبة العين بين طاولات الأمس.. نظارات تستنشق عبق عدسات عطري من بعيد، عيناي تمسح دخان كأس العشق. هل يفكر الهوى كيف يرسم أناي؟
أنا شلال بوح يطوق فنجان الحلم
استدارة وجه تتأمل في تؤدة تمثال الحرية
بعين واحدة أجلس على كرسي معدني
دفعة واحدة
دون أن ألقي تحية الصباح
كم أنت رائع أيها الكرسي المعدني
دقت أجراس الكون
في شفتيّ
هذا الجنون المارق
يهدهد أجنحة الغياب
الصمتُ سرير الكلام
قلتُ. أحيانا أبلغ من الكلام
شريدة تزهر غيمة فراشة
نصف العبارة
والكأس فارغ هذا المساء
الكلماتُ
الأنفاس
الدقائق
مطر السياب
شمس الفيتوري
طائر الفينيق
تطل من مراياك يا بورخيس..
زجاج القصيدة يتبخر من لظى حرفك
وأنت في قمة الرؤيا
أحرس أزهارك يا بودلير في الحلم
لا أعرف متى تداهمني فصول القبح
كي تزهر الحياة؟
لا أعرف كيف أقلم أظافر قلبي وأنا في مرآتك
عطرا لنافذة للبحر
للغرق
للتيه
للولع
للقبلة الأخيرة
تحت الأنقاض

====

ثانياً: القراءة

السيميولوجيا هو علم العلامات أو الإشارات أو الدوال اللغوية أو الرمزية سواء أكانت طبيعية أم اصطناعية، ويعني هذا أن العلامات إما يضعها الإنسان اصطلاحا عن طريق اختراعها واصطناعها والاتفاق مع أخيه الإنسان على دلالاتها ومقاصدها مثل: اللغة الإنسانية ولغة إشارات المرور، أو أن الطبيعة هي التي أفرزتها بشكل عفوي وفطري لادخل للإنسان في ذلك كأصوات الحيوانات وأصوات عناصر الطبيعة والمحاكيات الدالالية..


في قصيدة الشاعرة سميرة عبيد التي نشرت بتاريخ 8 إبريل بصحيفة القدس العربي و المعنونة بـ "جنون" و هي من ديوان "لحن بأصابع مبتورة" و التي أوردنا نصها في طليعة هذه القراءة يمكن اللجوء إلى علم العلامات كمنهج في اقتفاء الدلالات اللغوية و غير اللغوية في القصيدة و شرحها بدلا عن القراءات النقدية المألوفة التي لا تزيد النصوص إلا غموضاً و عدا ذلك و هو الأهم أن القصيدة تستحق لأنها مكثفة و ثرية في دلالاتها... و علم العلامات في قراءتها قد يعطيها شيئا مما تستحقه.

سنتجاوز توطئة الشوق التي كتبها الشاعر العملاق محمود درويش أبرز ما فيها أنها بصيغة استجداء و رجاء و كبرياء لمحمود درويش لنصل إلى ما تطالعنا به أول علامة في النص و هي العنوان " جنون" ولكن هذا العنوان المنفتح على كل شيء وله أبواب و وجوه كثيرة يحمل عليها لا يمكن الإمساك بأي خيط من خيوطه سوى بالاستهلال الذي تبدأ به القصيدة و التوصيف لذلك الجنون و هو "جنون أخضر" و قبل الحديث عن كلمة أخضر و دلالاتها نتساءل: هل هناك جنون أخضر أو هل للجنون لون أصلاً؟؟..
إنه تشبيه يجعل الجميل مخيفا فالأخضر عالم من الجمال واقعا و سنذكر بعض دلالاته التي اشتهر بها على مر الزمن لاحقا و هو يشبه قول إمرؤ القيس "أيقتلني و المشرفي مضاجعي.. و مسنونةٌ زرقٌ كأنياب أغوالِ"..
لقد صنف أهم علماء الجمال " عمانوئيل كانط " طبقات الجمال ومراحله، جانحاً بالنفسي مجنح الرياضي: الحلو ، الحسن، الجميل ، الجليل ..
الأول يُلذُّ والثاني يُبهج ، والثالث يُسرُّ، والأخير مخيف ..!!
كيف يصبح الجميل مخيفاً ..!؟
يقول جوته :" ربما استطعنا أن نتحمل الجمال الذي يرعبنا بسموّهِ وأبعاده .."
عندما نتأمل الجميل نفرح له ونتمنى إمتلاكه، سوى أنه عندما يكون كثيفاً متعدداً، متنوعاً، فإنه يُشعرنا بالفوات، والعجز عن اللحاق به، فنأسى لأن الزمن الذي هو عنوان الفناء سيمحو الفرصة التي نعاود بها الجمال الجليل ونشعر أن بيننا وبينه هوّة الموت .. فنرتعدُ فرقا ..
أما دلالة الأخضر فالمقام لا يكفي لحصرها و الاخضر له دلالات غنية على مر العصور ففي الكوميديا الإلهية لدانتي ؛ استخدم اللون الأخضر للرمز إلى قوى الأمل. وقد اكتشف العلماء انه عندما تدخل طاقة الضوء إلى الجسم فإنها تنبه الغدة النخامية والجسم الصنوبرى مما يؤدى إلى افراز هرمونات معينة تحدث مجموعة من العمليات الفسيولوجية وبالتالى السيطرة المباشرة على تفكيرنا ومزاجنا وسلوكياتنا. وللألوان تأثير على مكفوفى البصرتماماً كالمبصرين نتيجة لترددات الطاقة التي تتولد داخل أجسامهم وهذه الفكرة استخدمها الصينيون القدماء في علاج الأمراض وتسمى بال " فينج شوى " وبذلك عرفوا السر في استخدام الفراعنة للون الأخضر في مقابرهم لحفظ المومياوات من التحلل البكتيرى وصدق الله العظيم في قرآنه الكريم عندما جعل اللون الأخضر لون لباس اهل الجنة ولون فرشهم ليلفتنا إليه والى مندوبية التشبه بهم في ملابسنا وفرشنا في الدنيا لعلنا نذوق جزءاً من سعادتهم وننعم ببعض سلامتهم من الأمراض في الآخرة. و الأخضر يستخدم في إشارات المرور وإشارات السكك الحديدية والإشارات الملاحية كعلامة على التقدم أو الانطلاق في العصور الوسطى الأخضر يرمز إلى الحب. و استخدم تعبير الدهان الأخضر للإشارة إلى تعاطى الماريجوانا (المخدر) في الولايات المتحدة وأوروبا.
و كل هذه الدلالات تجعل الحياة مختلفة لها مذاق آخر يصل إلى حد الجنون من شدة المتعة..
و لا تنفصل العلامة الثالثة التي نجعلها سيماء في النص عن عالم اللونيات فتيه الشاعرة وحيرتها في اللون الذي يجعل المحبوب يظهر يجعل اللون سراً عظيماً و معرفته لغزا من استطاع ادراك فحواه فقد فاز بقلب من يحب..

في المقطع الذي يلي العلامة الثالثة تظهر لنا في تقديم الشاعرة لنموذج مرتبط بالقصيدة لكنه من فصيلة الهايكو
تقول..
"انتظرني
أنا سؤال يظمأ في وجه الماء
من شرنقة صحراء البحر
يخرج"

و هكذا كل علامة جديدة في القصيدة تفصح عما هو أعمق و أعمق و أشد غموضا و بالإجمال فأن الشاعرة سميرة اشتغلت على المفارقات القائمة على الاستعارات و التشبيهات بطريقة ملفتة لكنها من النوع الخفيف و ليست ثقيلة كما نجدها لدى بعض الشعراء الذين لا يفرقون بين المفارقة لغاية و المفارقة لمجرد المفارقة الخاوية عن المضامين و القيم..
لنرصد بعض تلك المفارقات في القصيدة..
مثلا هذا المقطع "جنون بنفسجة
يفتك بها البحر
دقيقة وأدخل باب البحر:
وجوه قزحية تحدق في طقطقة حذاء أسود يرتبك لجلبة العين بين طاولات الأمس.. نظارات تستنشق عبق عدسات عطري من بعيد، عيناي تمسح دخان كأس العشق. هل يفكر الهوى كيف يرسم أناي؟
أنا شلال بوح يطوق فنجان الحلم
استدارة وجه تتأمل في تؤدة تمثال الحرية
بعين واحدة أجلس على كرسي معدني
دفعة واحدة"..
و لنتوقف عند علامة أخرى تحمل قيمة عظيمة و لها دلالة عميقة "الصمتُ سرير الكلام
قلتُ. أحيانا أبلغ من الكلام" فالتشبيه هنا في أن الصمت قد أصبح سريرا للكلام أي عندما يتعب الكلام يلجأ إلى الصمت كسرير يرتاح فيه لكن هذا السرير فعل له قدرة على التغيير في عالم الموجودات و تصفه الشاعرة بأنه أبلغ من الكلام في بعض الأحايين نعم فقد يتجسد بصورة جامدة لكن الكلام لن يستطيع أن يقول ما تقوله...

أختم هذه القراءة بالقول أنك أيها القارئ عندما تقرأ قصيدة للشاعرة سميرة عبيد حتما ستشعر أن هذه الشاعرة لا تكتب قصيدة بل تقود طائرة و طائرة عملاقة أيضاً طراز إيرباص A380 فهي تحلق بك عاليا عاليا و بكلام آخر قبل أن تقرأ لهذه الشاعرة يجب عليك أن تربط حزام الأمان حتى لا تتضرر و كلماتها تحلق بك حيث لا يلحق بها جناح.
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 08:08 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-53445.htm