كفاح محمود كريم -
يبدو ان كل كارثة تمر في بلادنا تفور بالأسئلة كما يفور تنور الإرهاب عند اطراف اي انقلاب او تنافس او تحايل او تجاذب او تسابق للوصول الى السلطة او الاستحواذ عليها، واذا كانت كثير من الاسئلة الممنوعة مشروعة كما كتبنا سابقا فان الآلام المتكلسة فينا والمتجددة عبر عصور وأنظمة وعهود حكمت بلادنا شئنا فيها أم أبيناها، ما زالت تنتج مئات من الأسئلة الموجعة حتى التورم او الارتجاف!؟
لم تك مذبحة كاتدرائية سيدة النجاة للسريان الكاثوليك في وسط بغداد مساء الواحد والثلاثين من أكتوبر تشرين أول الماضي، الأولى من نوعها في تاريخ بلادنا الملوث حتى العظم بجرائم يندى لها جبين الآدمية، فاذا كان اتباع معاوية ويزيد قد انجزوا ذبح عبدالله الرضيع فوق سبعين جثة من آل بيت رسول الله قبل اكثر من الف عام، فقد استطاع هولاكو أن يلون سطح دجلة بألوان الحبر والدم بعد ذلك بمئات الأعوام، وشهدنا نحن ومن سبقنا منذ تأسيس هذه الدولة في مطلع عشرينات القرن الماضي ممارسة القتل فيها جمعا لا قصرا، والموت المصنوع فيها بالجملة يفوق ما تبيعه كل مصانع الموت بالمفرد في كل أسواق الدكتاتوريات والعنصريات والهمجيات.
فلم تمض سنوات طوال بعد قيام دولتنا العتيدة حتى فار التنور بدماء الكُرد في أيلول 1930م بمدينة السليمانية لتتبعها بعد سنوات مذبحة الاثوريين في سيميل كي تبدأ سلسلة من أبشع ما عرفته الآدمية من جرائم القتل الجماعي في كردستان ووسط وجنوب الأرض التي احتضنت فوق ثراها اعرق وأقدم حضارات الإنسان التي أنتجت الحرف والعجلة والورق والقلم الذي تحول بعد ذلك الى آلة لجز الرؤوس ونسف الصدور، إنهن شقيقات كاتدرائية سيدة النجاة وشهدائها في قلعة دزه وحلبجة والمقابر الجماعية في الجنوب والوسط وآلاف القرى بمساجدها وكنائسها ومعابدها وبساتينها وينابيعها التي أحرقت في أنفال صدام حسين ثمانينات القرن الماضي.
انه تاريخ من الدماء والآلام المتكلسة التي تتعاقب كالليل والنهار، وتدفع حولها حلقات لا متناهية من الاسئلة المخزونة بالوجع تزحف دوما وراء لماذا؟
لماذا خرج المئات من اهالي عينكاوه* للتظاهر في اليوم الثاني للمجزرة، ولم يخرج عشرة اشخاص من العراقيين الآخرين في طول البلاد وعرضها؟
من الذي منعهم من أن يتظاهروا أو يحتجوا او يعتصموا؟
لماذا لم يخرج المسلمون في اليوم الثاني؟
لماذا لم يخرج أئمة الجوامع وعلماء الدين الإسلامي في اليوم الثاني للتظاهر والاحتجاج والبراءة من دماء سيدة النجاة؟
لماذا لم يأتِ فخامة الرئيس ودولة الرئيس وسعادة الرئيس ومعالي الوزراء الى مكان الحادث، او الى بيوت الثكالى في اليوم الثاني او حتى الثالث؟
ولربما من يقول ان العمليات كثر والضحايا اكثر!
لكننا لم نعد نملك كعراق من هذه الأقلية الكنز الا اقل من نصف مليون مرهب مرعوب مقهور؟
لماذا هذا الصمت المقابري؟
لماذا هذا الطوفان من السلبية واللاابالية المقيتة؟
الف علامة استفهام تزحف الآن وراء هذه الـ ( لماذا ) في عقول وصدور الاطفال والصبيان والصبايا وهم ينظرون الى الأفق في بلاد تجز رؤوسهم وتنسف بيوتهم وتقتل ابائهم وامهاتهم؟
ونحن نعزف مقطوعاتنا البالية عن التسامح والإخاء والوطن الواحد الذي رفض سكانه الآخرين ان يثبتوا لهؤلاء صدق هذه المفردات في اعمالهم وردود افعالهم حينما كانت الجروح ما تزال تنزف والشهداء لم تبرد اجسادهم بعدُ!؟
ان ما حصل في كاتدرائية النجاة وشقيقاتها في الموصل ومئات الضحايا وآلاف المهجرين ربما يبرر بأنه عمل ارهابي او سلوك اجرامي عنصري من قبل مجاميع فاشية، لكن الاخطر بتقديري هو ردة الفعل التي تحدثنا عنها وصمت القبور الذي خيم على الجميع طيلة ايام عديدة قبل ان تنطلق بضع ردود افعال متميعة لا ترتقي الى مستوى ما يحدث، وتؤشر حالة من الخوف والسلبية او الاستكانة او التشفي او الموافقة الضمنية او الإهمال وخلط الأوراق، وفي كل الأحوال صدق من قال ان الساكت عن الحق شرير اخرس!؟
|