بقلم / أحمد ختاوي/الجزائر -
قد تبدو ( التيجانية ) أو تغدو ( كشبه ) مذهب عقائدي ، ( يعتنقه) فضلا عن الأصل ،الجوهر ( الإسلام ) ما يربو عن خمسمائة مليون مريد أو أزيد في العالم . ،ففي نيجريا وحدها يفوق العدد عشرة ملايين ، على سبيل المثال وليس الحصر ،أضف إلى ذلك السودان ( منطقة دارفور )بالتحديد ..
يبدو الرقم مذهلا ،مما يوحي بانتشار هذه الطريقة عبر أصقاع العالم ،لها ممثليات في أغلب القارات ، لها مكاتب في جميع أنحاء العالم ، ،حتى في أوروبا ومنها ( لندن).) .
بوسمغون ،إحدى قلاعها ومعاقلها تشهد تدفقا غير مألوف للسياح وللمريدين من جميع الاقطار العربية وحتى الغربية ، من فرنسا وغيرهم ، ومن جنسيات مختلفة/ فرنسية وغيرها ، وما شهدته أثناء العطلة المدرسية الاخيرة لافت للآنتباه ، خاصة من قبل طلاب المدارس من مختلف أرجاء الجزائر ، من تيبازة وغيرها ، حلقات استطلاعية لمستثميرين ، وأفواج طلبة وباحثين عن السكون تحت ظلال واحة نخيل بوسمغون الخلابة ، وقرب ينابيع ( النخيلة ) التي صنقت مؤخرا من قبل وزارة الثقافة كفضاء سياحي على الطبيعة ، ومعلم سياحي ، بل حضيرة شأنها شأن الطاسيلي ، تشهد هذه الواحة الآسرة حركة غير عادية في صفوف السياح ، والباحثين الاركيولوجيين وغيرهم ،
السلطات ببلدية بوسمغون رممت المنطقة ، ورصعتها بمختلف التحف السياحية ، مما يجلب الراحة للسياح من محطات خفيفة ..الاشغال متقدمة ،اللافت أيضا في هذه الواحة هو تواجد ( الحجل ) بها وطيور مختلفة محمية قد لا تجد مكانا لك ، خاصة نهاية الاسبوع ، هذا ما حصل لنا ..
شددنا الرحال إلى هذه البلدة بأقصى الجنوب الغربي الجزائري ، على بعد 750كلم إلى الجنوب من الجزائر العاصمة ، بدافع الفضول للوقوف على هذه المآثر
كان من المزمع أن تنظم ببوسمغون طبعة من طبعات ( ملتقى الاخوان التيجان ) إلا أن هياكل الاستقبال كانت العائق في تنظيم هذا الملتقى بهذه البلدة ، هذا الاخير الذي ما يفتأ رهانا كبيرا للدولة الجزائرية تستثمره على أكثر من صعيد ، وترعاه رعاية شاملة ،تحت الرعاية السامية لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، وإن كان هذا الملتقى الذي عرفت وقائعه السنة الماضية ( عين ماضي- بالجزائر ) مسقط رأس الشيخ ( أحمد ، التيجاني ) أخذ أبعادا سياسية عند البعض ، فإنه يظل في نظر البعض ورقة ضاغطة ومؤثرة لجملة من الاعتبارات والدلائل ،منها الجانب الروحي و الصوفي .. ،إلى جانب اعتبارات أخرى سياسوية ، وغيرها.، فيما تراهن السلطات العمومية عل كونه موردا ( صوفيا) واقتصاديا ، من شأنه جلب الإستثمار في المجال السياحي وحتى الاقتصادي ، كما أن ( التجاذب ) حول من يظفر ب(شرف) امتلاك ( نورانية) هذا الشيخ (الزاهد ) ظل هو الآخر يطفو على اهتمامات المسئولين في المغرب والجزائر ،بل ظل إحدى الانشغالات الأساسية لذات الاعتبارات ، فإذا كان مسقطه بعين ماضي بالجزائر ، فإن وفاته كان بفاس المغربية.
. تدويل هذا الملتقى ، أو بالأحرى تدويل الملتقى في مناحيه المشار إليها ،ظل هو الأخر محط أنظار المسئولين في كلا البلدين ..( الجزائر والمغرب)من منطلق أن هذا ( المكسب ) حكرا على البلدين لاستقطاب المريدين، ومن ثمة استثمارهم كمورد اقتصادي هام ،قد يضاهي السياحة في المغرب أو الجزائر. .
في الثمانينيات طرحت فكرة ما أصطلح عليها ( الحج إلى البقاع المقدسة بالجزائر ) من قبل أحد المبادرين إلى الفكرة من دولة السنغال ، ممثلا في أحد المسئولين بالسفارة السنغالية بالجزائر ،حسبما علمنا من أحد أتباع الطريقة التيجانية ( الشاعرالجزائري الكبير المرحوم محمد الأخضر السائحي قبل وفاته ، والذي كان يشغل آنذاك منصب مستشار الوزير بوزارة الشؤون الدينية في عهد رئاسة الشاذلي بن جديد للجزائر قصد التأسيس(لموسم حج) يُتفق بشأنه مع السلطات الجزائرية ،طُرحت الفكرة بجدية ، على أن يؤسس لموسم حج قادم ( في تلك الفترة) وتبدأ (مناسكه) بولاية الأغواط وبالتحديد ( عين ماضي ) مسقط رأس الشيخ( أحمد التيجاني ) لتعم فيما بعد باقي الزوايا الفاعلة والمؤثرة ( روحيا) : ( بوسمغون) ( تماسين ).. حيث تعتبر أهم الروافد والمعاقل في الطريقة التيجانية. ما كادت أن تتبلور الفكرة ،وتأخذ طريقها إلى التجسيد حتى بدا العدد ( في أول ) دفعة له ،( 50 ألف حاج)، كدفعة أولى مقترحة ، مذهلا ومخيفا ،وربما من شأنه أن يثير جذوة ( النعرات) لدى الطرق الصوفية الأخرى ( كالقادرية) ( و( الرحمانية ) وغيرها من الطرق الصوفية في الجزائر أو يثير حساسيتها ، فيما أعتبره الطرف الثاني ( السنغالي )ضعيفا بالقياس مع الراغبين في أداء( الحج ) فتوقفت ( الفكرة ) عند هذا الحد وأفل نجمها وطوي ملفها
لعل الخوض في أبعادها الروحية وما شابها من ( تضليل )وتفريغها من محتواها الروحي الصوفي ،الطريقة بين خصومها ومؤديها وما كتب حولها ،قد يقودنا إلى دراسة أكاديمية ، نحن في منأى عنها ،قد لا يسعنا هذا التحقيق لاستيفائها، كما أنها تظل من اختصاص الدارسين والمؤرخين ، والفقهاء ورجال الدين ، غير أننا بالمقابل ، نورد بعض الومضات كاستهلال للموضوع تطعيما له من الناحية المنهجية لا غير ، .
إذا كانت هذه الطريقة تعرف رواجا في العالم ، ويزداد أتباعها من سنة لأخرى إلا دليل في اعتقادنا – أن هذه الطريقة – تحظى بالاحترام والتقدير ، وإن كان قد يرى البعض أنه ( تضليل)، فإننا قد نشيد بالكم – بغض النظر – عن كل الاعتبارات كعنصر أساسي في أسباب انتشار هذه الطريقة عبر أنحاء متعددة من العالم على حساب الطرق الصوفية الأخرى ،فإذا كان ( الكم) مقياسا ( لعقلانيتها) أو ( توافقها ) مع أنماط صوفية أخرى أو دعونا نقول ( فروع )( التديّن) حتى لا نقول ( السنّة) أو شيئا آخر ..فكيف لنا أن نبرر كل هذا الكم من ( المريدين ) علما بأن وقت انتشارها لم تكن وسائل الإشهار متوفرة ، ولم تكن تعرف المعمورة الأقمار الاصطناعية ، أو وسائل الاتصال المتطورة ، حتى (تذهل ) كل هذه ( المخلوقات ). قد يقول قائل بأنها كانت
(تخترق ) عقول ( الغافلين ( السذج ) هذا صحيح ، لكنه في نظر الآخرين ، اقتناع بصفائها، وهذا ما تتشعب بشأنه الدراسات التي لا نريد الخوض فيها ، بالرغم من إطلاعنا عليها ، أو الإلمام بها ،ثم أن ثمة أمرا منطقيا ،يتفق بشأنه الجميع ( خصوم ومؤيدون ) أن الطاعة لله ، وما دونه شرك .. في هذا المنحى يذهب ( الوهابيون ) في اعتقاد ( المالكيين ) التابعين لهذه الطريقة ، أنه مساس( بمقدسات) ( الأولياء الصالحين ) الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وهنا الحديث أيضا يطول ، ويتشعب ، فيما تجزم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة كبار العلماء،أن هذه الطرق من أشد الفرق كفرا وتضليلا ، هذه اللجنة ترأسها المرحوم العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله ، ،ضمن لجنة ترأسها (رحمه الله) كان من ضمنها العلامة عبد الله بن غديان ، عضوا ،والعلامة عبد الرزاق عفيفي نائبا للرئيس وخلصت هذه اللجنة بعد أن اطلعت على ما يؤهلها لإبطال هذه الطريقة ، أو كما سمتها هذه ( الفرقة ) ، حيث استندت على كتاب (جوهرة المعاني )لتلميذ الشيخ ( أحمد التيجاني ) علي حرازم وكتاب ( الرماح ) لمؤلفه عمر بن سعيد الفوتي ، فيما يذهب أتباع الطريقة من دارسين وأكادميين،نورد على سبيل الذكر الدكتور (عبد الرحمان طالب مؤلف كتاب ( سيدي أحمد التيجاني ) إلى تمجيد هذين الكاتبين ،ويعتبرانهما أحد أقطاب ( التنوير) في الطريقة التيجانية ، هنا تكمن الإشكالية ، ويظل ( التضاد ) قائما )..
على صعيد آخر ، نود أن نشير أن هذا التحقيق ميداني، انتقلنا من أجله إلى ( أبي سمغون ) (القصر الاسعد) التسمية الروحية له و بوسمغون التسمية الحالية قصد تقصي بعض الحقائق ، والولوج إلى خبايا هذه الطريقة وما اعتراها من شوائب ،لأن الطريقة هذه أسال الدارسون الحبر الكثير في شأنها ، وعلى جميع ( أصعدتها ) : موقف هذه الطريقة من الاحتلال الفرنسي للجزائر ، ، فمنهم من ذهب إلى أنها كانت ( حصان طروادة ) للاستعمار الفرنسي ، ، ومنهم من يذهب إلى أنها ساهمت بشكل سلبي في كبح( جماح ) الانتفاضات الشعبية التي عرفتها الجزائر ، قبل اندلاع الثورة الجزائرية سنة 1954،ومنهم من يرى أنها كانت عكس ذلك ،وكانت زواياها مراكز إشعاع للعلم وللتعبئة الروحية والنضالية ، كل هذه الحقائق هي الأخرى تحتاج إلى حقائق أخرى قد تكون من اختصاص المؤرخين والدارسين ،غير أن ما يهمنا في هذا الموضوع إطلاع القارئ على حيثيات هذه الطريقة في مفهومها الخرافي ، ومنحاها الشعبي والشعبوي.
بوسمغون فوق كف عفريت
كان يسود الاعتقاد لدينا قبل ولوج هذه البلدة المضيافةأن
كل سكان هذه البلدة المضيافة النظيفة ، يميلون إلى السمرة ، أو أن أغلبهم سود ، لكننا فوجئنا بالشعر الأشقر ، والعيون الزرقاء والبشرة الناصعة البياض...
أول ما يصادفك ، وأنت أمام مدخل المدينة لافتة ( لافتة ) مكتوب عليها باللغتين العربية والفرنسية (مدينة سيدي أحمد التيجاني ترحب بكم ) تحاذيها لافتة رسمية ( بوسمغون ترحب بكم )، تقليد دأبت عليه المدن الجزائرية على غرار المدن في العالم .
اتجهنا مباشرة إلى مقر البلدية ، حيث وجدنا في استقبالها السيد عمر تبون رئيس المجلس البلدي ،شاب أشقر يتوسط الثلاثينات ، شاب جامعي حاصل على الليسانس(علم اجتماع ) كله حيوية ونشاط ، وحول إبريق شاي ، ولجنا التاريخ ، من أبوابه العميقة ،تاريخ هذه البلدة الكريمة ،ما أذهلنا حقا نظافة شوارعها ، وحدائقها الغناء، الفيحاء ، وقصرها العتيق ،حيث كانت تتأرجح في مخيلتنا أن هذه الأرض قاحلة بيداء لا طير ولا شجر فيها ، ولا مياه، وما أذهلنا أيضا أن سكانها أمازيغ ( يتحدثون ) عن بكرة أبيهم اللهجة البربرية ( الأمازيغية ) ...وحتى لا يتشعب بنا الحديث،حصرناه في إطاره الذي جئنا من أجله ( التيجانية وعلاقتها بالتضليل وغيرها من المعتقدات ) وما أن نكاد ندخل دهاليز المعتقدات، حتى نلمح فتاة شقراء ،عيونها كالمها ، أو شابا أشقر يكاد يقطر منه الدم القاني ، على سطح الوجه ، من كثرة احمراره . سألت رئيس البلدية مازحا : أكان ' سيدي أحمد التيجاني ) أشقر مثلكم ، أو (إستهوته ) فتاة شقراء، فأستوطن في هذه البلدة ، 17 سنة كاملة، وهنا أدركه ( الفتح الأعظم) ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في بوسمغون بالذات (في اليقظة ) كما تقول أغلب المصادر ، الشفوية عندكم ، أم أن ثمة أمرا آخر ، ما هو ؟ لم أكد أنهي سؤالي حتى بادرني بالقول : لنذهب إلى الزاوية، وهناك ترى بأم عينيك ، أثناء توجهنا إلى الزاوية، صادفنا في طريقنا ونحن نعبر شوارع مظلمة من كثرة كثافة الأشجار ، السيد التواتي بلقاسم، منسق الزوايا على المستوى الولائي ( المحافظات ) رجل مفتول العضلات ،يتحدث البربرية بطلاقة، ويلْحَن في العربية والفرنسية التي يطعم بها من حين لأخر حديثه معنا ، رافقنا – مشكورا- قطعنا مدخل المدينة القبلي كما يسمونه ( الباب) ،ولجنا القصر مرورا بمنطقة تسمى (لجماعت) برلمان القرية ساحة '( الشهداء حاليا ) يتوسطها ينبوع ماء على شكل شلال ارتشفنا ماءه الزلال ، ونطق التاريخ ، قال الرجل المفتول العضلات : أتعرف يا أخي أن هذه القرية ،انزلقت من فوهة الاستعمار ، لم تقدم له ولو قربانا واحدا ، كان يقصد ( عميلا ) ، و أ ن (الهجرة)في 16 ديسمبر من سنة 1956 أسكتت ،بل كممت أبواق الاستعمار ، ( الهجرة ) هذه هي إحدى الملاحم البطولية في وجه الاستعمار الفرنسي ، خرج الأهالي كلهم ذات مساء ماطر من سنة 1956 إلى الجبال المحاذية( تمدة ) وتانوت ) تلبية لنداء جبهة التحرير الوطني ،فضلا عن البواسل الأحرار ، وقوافل ، الشهداء، والفدائيين، حاولتٌ استدراجه للحديث عن التيجانية ، أبى الغوص فيه قبل أن يقول لي: أتعرف أن بوسمغون مدينة حضارية بُنيت على ربوة ،تكسوها ا أشجار النخيل ( 15 كم كلها غابة للنخيل والبساتين )خاصة الرمان التي تشتهر به البلدة ، وأنه من أجود الأنواع ،وهذا بتأكيد الخبراء في المجال الزراعي ، وأن بوسمغون مدينة سيدي أحمد التيجاني ، وراح يسرد وقائعه ، في هذه البلدة أضاف محدثنا ، وب (الخلوة ) التي نتجه إليها الآن، أدرك (سيدي أحمد التيجاني ) الفتح الأعظم ، هنا بالذات ، وقد سلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ( الفاتح لما أغلق) وهو يضرب كفا بكف للتأكيد ، هنا رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة ،هنا ببوسمغون عكف سيدي أحمد التيجاني 17 سنة كاملة يتعبد ،هنا بالخلوة ، نعم ..كانت الكلمات تنساب من فمه كالزلال ، وساعة يطلقها مدوية ، كأن يقول ( أنصفونا) في مكاسبنا ،قد أدركت لتوّي أن هناك ( غبنا) ما من قبل الجهات الوصية في النهوض بالقرية على صعيد ترقية ((الزاوية ) إلى مصاف الزوايا الأخرى وإعطائها القيمة التي تستحقها ،حيث هنا ( الفتح الأعظم) وما سواها من الزوايا سوى ملحقات ، حقا ، قال: ، سيدي أحمد التيجاني ولد بعين ماضي بالأغواط ، لكنه جاء إلى بوسمغون قادما إليها من تلمسان وعمره لا يتعدى 15 سنة ، إذن هنا ترعرع وأدرك الرجولة..أسهب الرجل إلى أن وصلنا ( الخلوة )،كل افضاءاته كانت تنم على أن الرجل ملم بالطريقة في مفهومها العامي ،وأحيانا العلمي،يخلط الحقائق التاريخية بالمأثور الشعبي ،كنت أرصد كلماته ، واحدة بأخرى ،أستوقفه عند الحاجة ،يدثرني أحايين فأخال بوسمغون نائمة على كف عفريت ..أنقله إلى وجداني ، أمازحه ، أسلط أضواء التعبير الشفوي على مخيلته ،يسهب ، ثم يسكت ، إلى أن أفضى بعفوية : في هذه ( الخلوة ) هذا المزار ..أكل (أتباع الطريقة التيجانية ،جاؤوا من السنغال ، في زيارة ،كل ما وجدوه هنا ،حبال ،أقمشة رثة، وغيرها ، تبركا بالولي الصالح ( سيدي أحمد التيجاني )قاطعته: وهل تقضمونها أنتم كذلك ، ضاحكا أجاب : هذا غلو يا أخي ، نحن أتباع حقا لكننا لا نصل إلى هذا الحد ، نأخذ من الطريقة (أورادها) وأذكارها والمتمثلة في ( التسبيح ) والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذا والاستغفار ،نحفظ الأوراد و( الحضرة و ( الهيللة) وكلها أذكار ولا نزيد عن ذلك مقدار ذرة ،أو نحيد عن وصايا شيخنا قيد أنملة ،و المتمثلة في التسبيح والاستغفار وقد نهانا عن البدع والتقرب من الأشياء الجامدة .. ،طريقتنا نظيفة ، نسدل في الصلاة ، ونتبع ( المذهب المالكي) )
النبش في الذاكرة ، أو حفريات المأثور الشعبي:
سلطوية الذاكرة الشعبية، أو بالأحرى تجلياتها في الكشف عن مكنونات ما يعلق بذاكرتنا ، أفزرت مجموعة من الإسقاطات والرؤى ،ومجموعة ( فلاش باكات ) ،ونحن نتجول بين أزقة ( بوسمغون ) أو(أبي سمغون ) أو القصر الاسعد تحديدا حتى لا نهضم حق التاريخ ، اصطدم تفكيرنا العامي بالتفكير العلمي ، المنهجي ، هذان الأخيران ارتطما بصخرة من الظنون والمعتقدات ،وافرزا تاريخا يركض إلى الوراء ،الأول يغترف من معين المأثور الشعبي على حساب التفكير العلمي ، والثاني يركض نحو إيجاد صيغة ملائمة للالتحام بذاته كموروث حضاري ونمط سلوكي بعيدا عن الشعوذة والإطناب فيما يدحضه المنطق في سياق زمني متوازي بحثا عن الحقيقة المطلقة، والحلقة المفقودة وسط هذا التضارب وهذه ( الاضطرابات ) بصرف النظر عن حكم الشرع. .
الذاكرة الشعبية تجزم ب ( أبدية الطريقة وخلودها ) رغم أنف الحاقدين والخصوم ، فيما يلغي التفكير العلمي بصفة جذرية هذه الأخيرة ، معتبرا إياها نمطا من ( التخريف) و( التضليل ) هذا التناطح بدا لنا جليا في افضاءات مختلف الشرائح ،فيما تتفاوت درجة ( التناطح ) من طرف لآخر حتى في أوساط المثقفين أنفسهم، وكأننا على حلبة.
..تداعيات هذا ( التجاذب ) لمسناه ونحن نلج ( الخلوة ) مرقد ( الشيخ أحمد التيجاني ) ببوسمغون ،حيث المكان يوحي بالوقار والسكينة فعلا ، ماعدا شيخ يتوسط السبعينات ( يمسى ) (المقدم) بتعبير آخر ( خادم ) الزاوية والطريقة معا .ينتخب هذا الأخير دوريا لفترة غير محدودة من قبل ( أهل الحضرة) والحضرة هي ( تجمع) لكبار السن، يتلون( الأذكار والأوراد ) لهم نظام خاص بهم ،وتوقيت محدد ل( الحضرة ) ، أو يُعين مباشرة لورعه، لا يتقاضى أجرا بقدر ما يسهم في تزكية صندوق ( الزاوية ) في شكل تبرعات كغيره من (المريدين)والزوار .يرعى شؤون الزاوية التيجانية في بوسمغون ،.يتولى شؤونها في (الوقف)، ويحفظ الممتلكات ،حيث أجود البساتين والنخيل تمتلكها سلالة ( أل البيت التيجاني في عين ماضي ) بالأغواط بالجزائر....
عند مدخل ( الخلوة ) انتابنا شعور بأن المكان مقدس( لا تُسمع فيه لاغية ) غير أننا لاحظنا غير بعيد عن المدخل بقايا سجائر .سألت رئيس البلدية السيد عمر تبون،عما إذا يمكنني ،أن أشعل سيجارة قبل الولوج إلى داخل ( الخلوة ) ( مرقد الشيخ ) ،فيما استأذنت من عمي بلقاسم التواتي ، ضحكا ملء فيهما ،قال لي رئيس البلدية لا تكن شوفينيا ،ولا متزمتا ، ولا متطرفا ،فقط عند الضريح (يمنع التدخين ) كسائر الأماكن العمومية، وهذا من باب اللياقة واحترام الأماكن والأفرشة وغيرها ، ،أدركت لحظتئذ أنني أمام مثقف ينظر بمعيار أثقل وأشمل ،وأن التفكير الخرافي لم يخترق عقول الشباب ،وأن هذا ( المزار) فعلا ( مزار ) يؤمه الوافدون من كل أنحاء الجزائر ومن خارجها ، خاصة من السنغال ، ليبيا ، تونس مصر،ويحظى بالتقدير والوقار..وهذا ما يحدث فعلا ، لكنه أضاف بلباقة : أن الوعي بضرورة تلاقي ( النورانية ) مع الصوفية ضرب من التلاقي الإيجابي ، الروحي عند البعض،مثلما هو عند البعض الأخر ضرب من رياضة ( اليوقا).لكنه لم ينف من وجهة أخرى أن الطريقة سليمة في بعض جوانبها .استدرجته للحديث عن حيثيات هذه الطريقة ،ولماذا تعتبر (بوسمغون ) إحدى قلاعها الأساسية ، وهل لها خصائص في ذلك تؤهلها لأن تكون قطبا ( روحيا) للزوار من كل أنحاء العالم ، مثلما يتوافدون عليها الآن ، أكد لي أن حقائق تاريخية تؤكد أن الولي الصالح سيدي أحمد التيجاني أقام هنا لمدة 17 سنة ،لم يشر إلي (الفتح الأعظم ) ربما سهوا أو عمدا ،لكنه أفضى لي بأن دراسات تاريخية وأطروحات جامعية وغيرها تؤكد تواجد هذا الأخير بهذا المكان بصرف النظر عن أشياء أخرى ، وأن هذه الدراسات موثقة .. تشير كلها إلى ( خصوصية ) هذا المكان وتميّزه ( روحيا ) .. وما لمسناه نحن ،واستقصيناه ، فعلا وقار المكان ، و( حبل ) معلق إلى يمين ( المرقد ) كان ( الشيخ) يستعين به كلما انتابه النعاس ،
تدحرجت مخيلتنا إلى الركض وراء المعتقد البالي وقد علمنا أن العجائز إلى زمن ما ظل يسكنهن هاجس الإيمان المطلق بأن سيدي أحمد التيجاني كما يسميه أهل بوسمغون أقدر الأولياء وأصفاهم عقيدة ،حيث يقترب من النبي، وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حسب زعمهن- (من محمد ما بقي نبي، ومن أحمد ما بقي ولي)بمعنى أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء ، وأن أحمد التيجاني هو خاتم الأولياء وأن كل ما سواه من الأولياء يأتون في المراتب الدنيا من حيث الترتيب ، كما أن الاعتقاد الذي ظل سائدا أن( نور) الشيخ ، يحرق أجساد مريدي ' (الطريقة التيجانية ) إذا زاروا أولياء آخرين ،كما أنه يحرق ( أجساد) هؤلاء الأولياء ..مما يضفي حقيقة مرة ، مفادها أن( تضليلا ) اخترق ( عقول ) هذه العجائز ..كما أن الاستعمار الفرنسي أذكى هذه الفكرة وهذا الاعتقاد الشوفيني الباطل ، ثم أن ما لمسناه أيضا ، أنه إلى حد غير بعيد كان الإعتقاد في( بوسمغون أن بركة ( الشيخ ) وسلالته .. وأحفاده تشفي الأمراض، إذا شرب أحد المريدين ماء ( وسخا)مثلا (من يد أحد الأشراف ) من سلالة أل البيت بعين ماضي.. وأن الخمر الذي يشربونه يتحول إلى لبن ،وكل من يخالفهن يسمونه( باديسيا) و( قرمطيا) .. وهم لا يدركون معنى (باديسي ) وقرمطي ، لأن عبد الحميد بن باديس كان يحارب في منهاجه الطرقية ( هذا معروف ) أما (قرمطي ) تعود على ( حركة القرامطة )المعروفة ..
هذا ( المعتقد ) تسلل فقط إلى عقول العجائز .
وهناك حقائق مخيفة وجدناها ونحن نجري هذا التحقيق أن( شعبة ) أي وادي على مشارف البلدة ( يسود الاعتقاد أن أحد سكان ( بوسمغون ) أطعم ( الشيخ)هناك طعاما ، فدعا له الشيخ فامتلأت التلال والوديان بالغنم ،حيث أمره الشيخ ألا يلتفت حتى يرى رزقه أمامه .. كل هذه ا( الخرافات) تنسب إلى الشيخ وهو بريء منها كما قال لنا أحد الذين حاورناهم..
كل هذه الشوائب علقت بالذاكرة الشعبية وأنسجتها أياد مغرضة ،كما أضاف محدثنا ، لكنه لم ينف الماء الوسخ ، والخمر الذي يتحول إلى لبن فهذا ظل عالقا بالأذهان إلى غاية الستينات عندما كانت تتوافد على القرية وفود من أل البيت بعين ماضي ، قصد جمع الأموال والهبات من الأهالي ،هذه الظاهرة اختفت بفضل انتشار الوعي وتعميم التعليم .
الطريقة في منحاها الروحي( احتفظت) حسب ما لمسناه أيضا بما يخدمها كطريقة تبدو فيها الأذكار والاستغفار والتسبيح أهم الميزات والحوافز في التعلق بها .
الضالعون بشؤونها (أصرفوا ) بلاء( الشوائب ..وما يمكن أن يسيء إليها ..
احتفظنا بدورنا بحقنا في استقصاء الحقائق وفق ما تقتضيه المهنة الإعلامية ، وندع الحكم للقاريء الكريم ، غير أننا قبل أن نفترق، لا بد أن نشير إلى أننا اعتمدنا في تقصينا لهذه الحقائق على عدة أطراف ،واعتمدنا على مستندات ميدانية. .
غادرنا المدينة المضيافة على وقع مآثرها الخلابة ،وكرم الضيافة ،وعمق الحضارة، والتاريخ ،وفي مخيلتنا ( ألف عودة ) لهذه البساتين وللحقول والمياه وفي مخيلتنا أيضا كثير من العرفان لهذه البلدة ،التي كانت تسمى قديما وادي الأصنام وادي ( الصفاح) ).
التسمية الحالية تعود إلى ولي صالح يسمى ( سيدي بوسمغون ) جاءها وافدا من الساقية الحمراء ( حسب الروايات ) كان متجها لأداء فريضة الحج ،ولما حل بها ،وجد النزاعات بين أهالي القرية،وبالتحديد ( القصور السبعة التي اندثرت بفعل القدم والعوامل الطبيعية ،إذ يعود تاريخها إلى أزيد من 14 قرنا حسب الرواة ، حول كيفية توزيع المياه لسقي البساتين ،فكان مصلحا ،يصلح ذات البين، حسب الرحالة المغربي العياشي ،مما أكسبه مكانة رفيعة في أوساط الأهالي فأستوطن بها . .،مثلما استوطننا الشعور بأن نعود ذات مرة وفي مخيلتنا ألف سلام لسبعة قصور اندثرت، توّجنا بها التاريخ ، وهي قصر ( آت موسى ) قصر ( أت علي ) ،قصر ( أغرم )، والقصور الأخرى ندعها لعودتنا القادمة مع أواسط أكتوبر ، ومطلع نوفمبر إن شاء الله موسم جني التمور ، والرمان ، وهو من أجود الانواع والسلالات حسب المختصين والمعاهد الفلاحية والخبراء.
عانقنا بوسمغون بلطف حيث كان أزيز القوافل من الحافلات والسياح بين جيئة وذهاب بين الواحة والقصر العتيق .. زرافات زرافات. .. |