صنعاء نيوز - حبيب الحاج سالم

الثلاثاء, 31-أكتوبر-2017
صنعاء نيوز/حبيب الحاج سالم -



مرّت أمس الذكرى الـ52 على اختطاف (ثمّ اغتيال) المهدي بن بركة، الزعيم السياسيّ المغربيّ وأحد الوجوه البارزة في النضال التحررّي للعالم الثالث. لم يكن للرجل على امتداد مسيرته السياسيّة عدوّ واحد: قاوم الاستعمار، ودخل بعد اندحاره في صراع مع نظام الملك الحسن الثاني... فتحالف الاثنان لوضع حدّ لحياته

تونس | في 29 تشرين الأول 1965، انتهت كلّ التحضيرات وبدأ التطبيق. نُسِّقت العمليّة بين مخابرات المملكة المغربيّة والمخابرات الفرنسيّة والـ«سي آي إي»، والموساد أيضاً.
في ذلك اليوم، وصل المهدي بن بركة إلى باريس مطمئن البال للقاء مخرج فيلم عن حركات التحرر الوطنيّ كان قد التقاه سابقاً. إلا أنّ المخرج وطاقم الفيلم كانوا جزءاً من العمليّة، فغطوها، وكان بعضهم عناصر إجراميّين فرنسيّين مرتزقة.

وصل الهدف في سيارة أجرة، وتحت أعين المخابرات الفرنسيّة تقدّم إليه شرطيّان وطلبا منه مرافقتهما ليلتقي إحدى الشخصيّات الفرنسيّة المهمّة. تروي شهادات أن بن بركة كان يثق بالأمن والقيادة الفرنسيّين، بناءً على تجارب سابقة معهم، لكن الوجهة كانت أحد المنازل في ضواحي باريس. هنا تختلف الروايات بشأن ما حدث بعد ذلك: هل قُتل في المنزل وأخفيت جثّته في فرنسا؟ أم أنّه قُتل ورُحِّلت جثّته إلى المغرب حيث أُذيبت في حامض الأسيد؟ لا توجد تأكيدات، لكن المعلوم أنّ جثته لا تزال مفقودة إلى الآن.
كان المهدي بن بركة أحد الوجوه السياسيّة الفاعلة في المغرب، وذلك منذ ما قبل استقلال البلاد إلى حين قرر الحسن الثاني، بعد إمساكه بالسلطة عام 1961، التخلّص من كلّ من ينوي منافسته أو الوقوف في وجه سياساته. أطلق الملك الشاب حينها على نفسه لقب «ملك التجديد الوطنيّ»، وطالب الفعاليّات السياسيّة والنقابيّة بتشكيل «اتحاد وطنيّ نشيط» يكون دعامة لحكمه. لكن بن بركة الذي ترأس المجلس الوطنيّ الاستشاريّ (1956 ــ 1959) زمن الملك محمد الخامس، وصفَ حركة الحسن الثاني بـ«الانقلاب الرجعيّ»، وعاد إلى النضال الحزبيّ في صفوف «الاتحاد الوطني للقوى الشعبيّة».
لم يكن الوصف الذي أطلقه على الحكم الجديد اعتباطيّاً، إذ انقلب الملك بتوجهاته على السياسة التي قادها بن بركة ورفاقه في السنوات القليلة الموالية للاستقلال. فقد حاد الحسن الثاني خارجيّاً عن سياسة دعم حركات التحرر والتضامن بين شعوب العالم الثالث (وإن حافظ على ذلك خطابيّاً)، وابتعد داخليّاً عن سياسة تكريس العدالة الاجتماعيّة.
تجاوزت مشكلة بن بركة مجرد غياب الديموقراطيّة. يقول في نصّ الخيار الثوريّ في المغرب (1962): «إنّ الاكتفاء بالحديث عن الحكم الفرديّ قد يفيد استقلال هذا الحكم في اختياراته السياسيّة، بينما نحن نرى مطابقة واضحة وبسيطة لسياسة النظام مع خطة الاستعمار في بلادنا». لم يرَ بن بركة في سياسات الحسن الثاني وحكومته سوى استمرار لسياسات المستعمر الفرنسيّ. وما الاستقلال الذي حصّله المغرب والبلدان الشبيهة به سوى استقلال شكليّ يُمثّل «خطة دفاع للاستعمار عن نفسه، تحمل اليوم اسم الاستعمار الجديد».
طبقاً لهذا التوصيف، فإن البلد يحتاج إلى الابتعاد عن «استجداء المساعدة الماليّة والفنيّة، تلك المساعدة التي تصبح... وسيلة لتركيز مصالح الاستعمار الجديد، ومصالح حلفائه الاقطاعيّين والسماسرة البرجوازيّين». لكن «المخزن»، كان يسير عكس هذا المنطق السياسيّ، إذ رفض مشروع الإصلاح الزراعيّ وحصّن نفسه بجيش محترف، وقام من ناحية ثانية بتعزيز تحالفاته الذيليّة مع أميركا وأوروبا.
ضاق الحسن الثاني ذرعاً ببن بركة، فأخذ بملاحقته والتضيّيق عليه، حيث وُجِّهت إليه تهم المساس بأمن الدولة ومحاولة اغتيال الملك ومحاولة الهجوم على قاعدة القنيطرة وتكوين مخازن سلاح. صدر الحكم عام 1964 بإعدامه، وشملت المحاكمة التي عرفت باسم قضيّة «المؤامرة» 101 متهم آخر، بينهم اثنان من أشهر مقاومي الاستعمار الفرنسيّ، هما الفقيه البصريّ، وشيخ العرب، وتراوحت الأحكام بين الإعدام والسجن المطوّل.
بظهور برنامج الملك، غادر بن بركة المغرب إلى المنفى، وأخذ يجول بين سويسرا والجزائر ومصر، مواصلاً كفاحه. كان الرجل أمميّاً، وقد كان ذلك اقتناعه الراسخ. اختار أن يواصل «مع سائر القوى التقدميّة مهمتنا التاريخيّة لتصفية الاستعمار والقضاء على الامبرياليّة».
رغم ذلك، لم يكن تابعاً لأحد داخل المعسكر الشرقيّ، إذ أصرّ في اجتماع الدورة السادسة لـ«منظمة تضامن الشعوب الأفرو ــ آسيوية»، المنعقد في الجزائر، على الابتعاد عن تطارح الخلاف الصينيّ السوفياتيّ بتشديده على «إبعاد كلّ مسألة خارجة عن الكفاح ضد الامبرياليّة من المناقشات». رشّحته مواقفه تلك ليترأس المجلس التحضيريّ لمنظمة التضامن مع شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة التي عقدت اجتماعها الأوّل في كانون الثاني/جانفي 1966، بعد اغتياله بأشهر قليلة.
لم يحتمل نظام الحسن الثاني جرأة المهدي بن بركة، فكلّف جنرالَيه محمد أوفقير وأحمد الدليمي بالتخلصّ منه (المفارقة أنّ الأوّل قُتل في محاولة انقلاب فاشلة تزعمها ضد الملك، بينما توفي الثاني في حادث مرور مشبوه بعد خروجه من اجتماع في القصر في الثمانينيات). التقت مصالح المخزن مع مصالح الـ«سي آي إي» التي كانت تقود حملة عالمية للقضاء على الشيوعيّة، ومع الموساد الساعي إلى تخريب أيّ تجمّع أو جهد يصبّ في مصلحة القضيّة الفلسطينيّة، ومع المخابرات الفرنسيّة التي تنتشر مصالحها في أرجاء أفريقيا. تمّ الأمر. غُدِر ببن بركة... فالتحق بقائمة طويلة من رفاقه الشهداء، وبقيت الإمبرياليّة ودُماها تُقبِّح وجه التاريخ.

عربيات

العدد ٣٣١١ الاثنين ٣٠ تشرين الأول ٢٠١٧
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 22-ديسمبر-2024 الساعة: 02:00 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-56254.htm