صنعاءنيوزبقلم : علي بدوان -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستطيع المراقب والمتابع لأحوال التجمعات اليهودية داخل الولايات المتحدة الأميركية أن يلحظ وجود تحولات ما داخل هذه الكتلة السكانية التي تشكل جزءاً أساسياً وفاعلاً من المجتمع الأميركي. والتحولات المشار إليها هي تحولات سياسية بالدرجة الأولى من حيث علاقة اليهود هناك مع «إسرائيل»، أو لجهة تراجع منسوب الهجرة الاستيطانية الكولونيالية من الولايات المتحدة باتجاه فلسطين المحتلة.
ومن المهم الإشارة إلى أن أعداد اليهود في الولايات المتحدة، بقيت ثابتة بشكل تقريبي، وطرأ عليها انخفاض بسيط في بعض المناطق من الولايات الأميركية، أو في بعض دول أوروبا الغربية حيث يتواجد في المنطقتين ما يقارب (5.6) منهم نحو (490) ألفاً في فرنسا، و(295) ألفاً في بريطانيا ونحو (120) ألفاً في ألمانيا. أما في أستراليا ونيوزيلندا فقط طرأ ارتفاع في عدد اليهود حيث بلغ وفق إحصاءات الوكالة اليهودية المنشورة قبل فترة نحو (111) ألفاً مقابل (70) ألفاً في عام (1970). ومقابل الانخفاض في عدد اليهود الذين يعيشون في العالم، تضاعف عدد السكان اليهود في إسرائيل منذ عام 1970، التي باتت تضم نحو (40%) من إجمالي السكان اليهود في العالم.
وبالطبع فإن أحد أسباب انخفاض عدد يهود في الولايات المتحدة وأوروبا، يعود للهجرة التوسعية الاستيطانية إلى فلسطين المحتلة، ولكن هناك أسباباً قطعية جديدة بدأت تتحدد بالنسبة ليهود أوروبا والولايات المتحدة الذين لم يعد يروا أن إسرائيل نقطة اجتذاب لهم، كذلك باقي يهود العالم، حيث برز على السطح وبقوة عامل (التمثل والاندماج)، فقد بلغ معدل التمثل في الولايات المتحدة نحو (50%)، وفي غرب أوروبا نحو (45%). وازدياد ميل اليهود للاندماج في مجتمعاتهم الأصلية وفي المحيط الذي يعيشون فيه. ومن هنا فإن (50%) من يهود الولايات المتحدة متزوجون زواجاً مختلطاً، كما تشير المعطيات إلى أن (50%) من الشباب اليهودي في الولايات المتحدة لا يهمهم مصير إسرائيل، على حين نجد أن نسبة (20%) فقط من يهود دول الاتحاد السوفييتي السابق يحافظون على المضامين اليهودية، كما يشير الاستطلاع إلى أن نصف يهود الولايات المتحدة اندمجوا وباتوا يوجدون في مراحل متقدمة من الاندماج. ولاسيما في ضوء الميل الشديد للزواج المختلط تراجع الشعور بالانتماء والأهمية بالنسبة «لإسرائيل» وخصوصاً لدى الأجيال الشابة الأمر الذي اعتبره البعض مؤشراً إلى اضمحلال الجمهور اليهودي المؤيد والداعم لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، ومؤشراً إلى نجاح الاندماج والتماثل اليهودي في المجتمع الأميركي الذي زادت نسبة الزواج المختلط فيه بين اليهود والديانات الأخرى إلى أكثر من (50%) الأمر الذي يفسر تراجع مستوى الشعور بالانتماء، بما يعنيه من تراجع نسبة التأييد والدعم لإسرائيل ورؤية أهمية وجودها وبقائها، فقد تبددت قوة جذب إسرائيل معظم الهجرات اليهودية تمت بفعل سيل الدعاوى الصهيونية وتجاوب معها قطاعات من يهود العالم بسبب تكرار الدوافع التي رفعتها الحركة الصهيونية (اضطهادات، مظاهر اللاسامية، الوضع الاقتصادي الصعب، قوة جذب اقتصادية إلى فلسطين).
ومن هنا، فقد تآكلت قوة الجذب أكثر فأكثر، فتراجعت الولايات المتحدة عن كونها خزاناً للطاقة الكامنة للهجرة اليهودية إلى فلسطين، فقد جاء منها في عام (2007) على سبيل المثال نحو (2600) يهودي فقط، كذلك فإن المستودع الروسي أخذ بالنضوب منذ عدة سنوات، فيهود الاتحاد السوفييتي سابقاً، والذين اعتبروا مصدراً كامناً كبيراً لتعزيز الانقلاب والتحول الديمغرافي على أرض فلسطين التاريخية، كفوا عن الهجرة، ليصل من هذا المصدر نحو (6600) يهودي فقط إلى إسرائيل عام (2007) على سبيل المثال، حيث يرى رئيس الوكالة اليهودية، زئيف بيلسكي، في الحياة المريحة التي يعيشها أغلبية اليهود في الخارج دافعاً لهذه المواقف حيث إن (90%) من اليهود في العالم يعيشون في بلاد مستواهم المعيشي فيها أعلى من المستوى المعيشي في إسرائيل، مثل الولايات المتحدة ومن ثم فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية. وأضحت إسرائيل من وجهة نظر بعض القطاعات اليهودية الثرية في العالم، دولة من الخطر العيش فيها ووجودها موضع شك، على حين يعتبرها البعض الأخر من اليهود، بلاد لجوء لحين الضائقة، فزالت عند قطاعات من اليهود الصفة التي كانت ترى إسرائيل نفسها فيها، وتستند إليها في تحشيد اليهود وراءها كموطن السلامة اليهودية.
ومن جانب آخر، فإن المتتبع لشؤون المواطنين اليهود من أبناء ومواطني الولايات المتحدة يلحظ حصول تحوّلاً دراماتيكياً ولو محدوداً في مواقف اليهود الأميركيين من إسرائيل الصهيونية وخصوصاً بعد الحرب العدوانية البشعة التي شنت على قطاع غزة أوائل عام 2009، والتي استخدمت فيها «إسرائيل» قوة نارية ساحقة وغير متكافئة ضد مدنيين عزّل في معظمهم. وهذا التحول له طابعه وبعده السياسي المباشر في الموقف من «إسرائيل»، كما له أبعاد مهمة في عزوف تلك القطاعات اليهودية عن منطق الدعم الأعمى «لإسرائيل» وهو المنطق الذي اعتادت عليها طوال العقود الماضية من الصراع العربي والفلسطيني مع «إسرائيل»، وهو ما أدى إلى تراجع انسياب الهجرة الاستيطانية من يهود الولايات المتحدة باتجاه فلسطين المحتلة، علماً بأن يهود الولايات في حال قدومهم إلى فلسطين والاستيطان بها يحافظون على جنسيتهم الأميركية، وهو أمر يخفي وراءه حقيقة شعورهم الباطني، بأن استيطانهم في فلسطين غير شرعي ولابد من زواله في نهاية المطاف.
لقد ازداد اهتمام (منظمات يهودية شعبية) منذ العدوان على قطاع غزة في انتقادهم للموقف الإسرائيلي وافتراقهم عنه، وتضاعفت لائحة المشتركين برسائل البريد الإلكتروني على موقع منظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام» التي تتّخذ من أوكلاند مقراً لها، لتصل إلى (90) ألفاً مع تسجيل ستة آلاف شخص كل شهر.
وبهذا المعنى، فقد كانت غزة وصمودها في وجه الفاشية الصهيونية، وسياسة البطش والقوة والمحرقة النارية، بمثابة الخط الفاصل الذي يُطلق الآن مرحلة جديدة مختلفة عن مرحلة ما بعد حرب 1967 وذلك بخصوص يهود الولايات المتحدة وعلاقتهم مع «إسرائيل» على الرغم من بطء هذا التحول أو وجوده بنسبة مازالت متواضعة ولكنها على غاية من الأهمية، ويقدر لها أن تتسع وأن تراكم نفسها في سياق ما يجري الآن من تحولات في المنطقة والعالم.
وعلى هذا الأساس، فإن قطاعات من الشبان اليهود الأميركيين باتت تشعر اليوم أكثر فأكثر باللامبالاة حيال بلد كان في قلب «الهوية اليهودية» طوال العقود الماضية، وقد بلغت احتجاجاتهم على «إسرائيل» وسياساتها، ذروتها مع انعقاد المؤتمر الوطني الأول للوبي الإسرائيلي الإصلاحي «جي ستريت» في أواخر تشرين الأول 2009. وهي التي أضحت في مواجهة لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية المسماة (أيباك). ومن هنا فإن «جي ستريت» تبدو الآن وكأنها ثورة مخملية في أوساط اليهود الأميركيين، على الرغم من استمرار «الأيباك» في نشاطها المعتاد داخل أروقة مواقع القرار والنفوذ في الولايات المتحدة.
|