صنعاء نيوز - شرف الحس

       إن كثيرين يظنون أن الدين يتجاوز الإدراك الحسي، وينقطع تبعا لذلك عن الواقع، جزئيا على الأقل. وهذا ما أدى منذ البداية،

الثلاثاء, 29-مايو-2018
صنعاء نيوز/ شرف الحس -


إن كثيرين يظنون أن الدين يتجاوز الإدراك الحسي، وينقطع تبعا لذلك عن الواقع، جزئيا على الأقل. وهذا ما أدى منذ البداية، إلى عدِّه ميتافيزيقا لدى الأقدمين. وقد أكد هذا الوهم، الفهم المغلوط للزهد، من كونه حالا للمؤمن. والحقيقة هي أن الدين يحث على التخلص من تأثير الحس من جهة التربية فحسب، حتى يتمكن العقل من الانطلاق شطر المعارف العليا؛ لكن هذه المعارف نفسها، لا بد أن تعيده إلى الحس، بوصفه تكثيفا للحقائق في أبهى صورة ممكنة. فإن لم تُعده إلى الحس، فإنه يكون غير كامل بالتأكيد؛ وإن بدا غير ذلك، لمن لا علم له. ولقد نشأت عن هذا الجهل بحقيقة الدين، نزعات متطرفة في التزهد، كما كانت الرهبانية عند النصارى.

وأما قول الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، فيدخل فيه الكافرون بالمعنى الأكبر والأصغر؛ ونعني أهل الكفر والعامة من المسلمين. وعلمهم بظاهر الحياة الدنيا وحده، يعني جهلهم بباطنها، الذي منه حقيقة الحس. لهذا، فمن يزعم من أهل العلوم الكونية علما بالمحسوسات (المادة)، فإننا نكذبه، ونقول له: إنما تعلم بعض ظاهرها. كل هذا، لأن الحقائق تظهر في الظاهر وتبطن في الباطن؛ وهي هي.
وأما إمكان الحس، فلا يعلمه إلا العارفون، ولا يشهده على الدوام إلا الأكابر منهم. وهو من أعجب ما يطلع الله عباده عليه. ولا يشبه ما ندل عليه هنا، إلا ما نراه من حقيقة الكمبيوتر، الذي لا تكون فيه المعلومات على اختلاف أجناسها، إلا أكوادا مركبة من الآحاد والأصفار. وإن أردنا المطابقة بين الحس والكمبيوتر، فإن الواحد سيكون للوجود الظاهر، والصفر للصورة العدمية، حيث كانا. والمجموع العائد إلى الواحد والصفر معا، هو الإمكان الظاهر في صور كل الممكنات.

والأشياء تكون مجموع إمكانات على حسب التركيب الذي فيها. وكل ما هو وجود فيها، هو آحاد؛ وكل ما هو أعدام هو أصفار. وهكذا يكون لكل مشهود في العالم، كود لا نظير له؛ وهو الاستعداد. وعلى هذه القاعدة، ينبغي فهم القرآن، عندما يُثبت أو ينفي. غير أن ما نذكره هنا، لا تتمكن العقول المظلمة من إدراكه، وإن كانت من أعلاها. وهذا هو السبب في جهل الفيزيائيين والفلاسفة لحقيقة العالم، وإن أرادوا مقاربتها من وجوه عدة قد تبهر العامة.

وإن كانت العقول، تعجز عن إدراك الحس وهو الأقرب إليها، فكيف تزعم بعد ذلك إدراكا للحقيقة الكلية؟!... وأي إدراك حسي، هذا الذي ينتهي إلى إدراك العدم؟!... نقول هذا، لأن كل العقول العلمية التجريبية، رغم يقينها أنها على علم ثابت صحيح، ليس لها من العلم إلا الاسم. وأما الفلاسفة، فهم صبيان العقلاء؛ يتشبهون بمن لا يبلغون شأوهم من جهة ظاهر المعنى. ثم إن حقيقة العلم، لا تؤخذ من جهة العادة والتلقين، اللذين يكونان عن التربية الاجتماعية؛ ولكن عن الله الحق رب العالمين. ولسنا نعني هنا فهم القرآن بآلة العقل؛ وإنما نعني فتح الله لعباده في كلامه. وهذا هو ما سميناه سابقا التلقي؛ ويسميه غيرنا (ونحن معهم) الكشف.

إن المحسوس، لا يدل حتما على الثبوت، كما تتوهم العقول الضعيفة. وإن اختلاف العوالم مع اشتراكها في كونها محسوسة، لا يعني أنها مدركة دائما. والتوازي الحاصل بين العوالم والتقاطع، لا يكون دائما مدركا للجميع. وبهذا يكون الإدراك الحسي لدى المدركين نسبيا من غير شك. فإذا أضفنا هذه النسبية العامة، إلى النسبية الخاصة، التي تجعل العالم الواحد، غير مدرك إلا جزئيا من جهة الحس؛ فإنه سيظهر مدى غياب إدراك المحسوس بالمعنى الشامل. هذا إن لم يزد العقل الضعيف من تحريف الإدراك الحسي، فتصير الظلمات طبقات، بعضها فوق بعض.

إذا كان العقل (المشترك)، لا يدرك المكان والزمان على حقيقتيهما، ولا يُدرك المحسوسات على حقيقتها، فماذا بقي له من الإدراك!... وإن من تكون حاله هذه، ولا يبحث عن تقويم لإدراكه، ويمضي على ما هو عليه، إلى حين انقضاء عمره، لا يصح أن يُعد عاقلا، إلا عند من هو أضعف منه عقلا!...

أما إذا كان المكان أمكنة، والزمان أزمنة، فللمرء أن يتصور مدى الجهل بالحس. ومن كان على هذا الجهل، فكيف يزعم أنه يعلم سبيله في العالم! وكيف يكون آمنا على نفسه، مع كل هذا الجهل!...

إن الحال التي نشير إليها، هي ما سماها الله غفلة مرة، وسماها عمى وصمما مرة. نعني أن من لا يرى العالم على حقيقته، فما رآه؛ وهذا هو العمى. ومن كان أعمى، فكيف يوثق في وصفه للعالم، وهو لا يراه!... يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

إن العمى والصمم اللذين ورد ذكرهما في القرآن، يفهمهما كثير من الناس على أنهما مجاز؛ وهما حقيقة!... لا يعلم حقيقة العمى إلا من رد الله عليه بصره؛ ولا يعلم حقيقة السمع، إلا من أسمعه الله!... {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]؛ أي: لا تظنوا أنكم تسمعون، في حال كونكم لا تسمعون!... الحكم منكم لا يصح!...

وعن ابن سلام رضي الله عنه، وقد كان يهوديا فأسلم، أنه قال: [إِنَّا لَنَجِدُ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يعني في التوراة): إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ. أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي؛ سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ؛ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَتَجَاوَزُ. لَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْمِلَّةَ الْمُتَعَوِّجَةَ، بِأَنْ يُشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ نَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًا، وَقُلُوبًا غُلْفًا.][1] . فمن أراد من الناس أن يُفتح قلبه وحواسه، فعليه أن يلتمس النور من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الفاتح لما أغلق. وسيجد هذا الوعد الإلهي حقا، وسيفرح بنعمة الله عليه.

لكن المسلمين، الذين يزعمون في أنفسهم أنهم أتباع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، قليل منهم من يجد ما ذكرنا. وقد زاد بعضهم أن شك في الدين، وتوهم أنه كغيره من الأديان، مبني على أقوال ملفقة، لا أساس لها. والحقيقة هي أن الخلل في المسلمين وفي اتِّباعهم. ولو أنهم حققوا الاتباع، لصحت لهم النتائج. ولولا أن الفقهاء قد غشوا الناس بإقرارهم على الباطل، لسهل عليهم تمييز ما نقول من أول نظرة.

________________________________________

[1] . أخرجه الدارمي في سننه.

تمت طباعة الخبر في: الأحد, 22-ديسمبر-2024 الساعة: 02:29 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-60626.htm