صنعاء نيوز/محمد عبد الوهاب الشيباني -
بالعودة الى القراءات الفاحصة للخطاب السياسي الذي ظهر في عدن اواخر اربعينيات وبداية خمسينيات القرن الماضي، سنلحظ كيف ان النزوع الإقصائي الانغلاقي لبعض التكوينات السياسية والاجتماعية (الجمعية العدنية 1949) قد استجلب اليه نخب المدينة، التي هي خليط من (القوميات والاعراق والديانات) التي استوعبتها المدينة ،في حضورها الواثب على الخارطة الاكثر تخلفاً وتشظي. فكانت ترى هذه النخب ان عدن لا يمكن لها الا ان تكون لعدنيي المخلقة الانكليزية، وان الوافدين اليها من سكان المحميات وعرب المملكة المتوكلية ليسوا اكثر من عابرين استوجب وجودهم، بوصفهم قوى عاملة رخيصة، ذلك التصاعد العمراني والنمو الاقتصادي الذي شهدته المدينة بعد ان وضعت الحرب الكونية الثانية اوزارها، وتحول عدن الى مركز متقدم (عسكري وخدماتي) للقوات الانكليزية في المنطقة. وبالمقابل اظهر (حزب رابطة ابناء الجنوب 1951) نزوعاً مناهضا لهذا الصوت، بخلق مساحة تشاركية اوسع من نخب الجنوب (سلاطين وزعماء قبليين وبرجوازية ريفية ومثقفين سياسيين)، فبدأ هذا التوجه اكثر وطنية وشعبية في انتمائه الجنوبي، الذي اصبح في أدبياته السياسية الجنوب العربي ، بوصفة جزءا من الامة العربية والاسلامية، لا علاقة له بالهوية اليمنية!!. وردا على هذين الصوتين ،بدأت تتأطر المكونات المقصية والمهمشة من الوافدين في النقابات العمالية، التي اخذت زخمها في مارس 1956 بتشكيل اتحاد نقابات العمال. وفي ظرف اعوام قليلة تحولت النقابات، ومؤتمراتها العمالية الى خزان بشري، يرفد القوى السياسية والكفاحية الجديدة المناهضة للاستعمار بالمئات من الاعضاء المتحمسين، الذين وقعوا تحت تأثير تبشيرات الخطاب القومي، الذي وعد الجميع بالوحدة والتحرر والرفاهية!!
فالجبلي (توصيف الاستنقاص) الذي اطلقه سكان عدن على كل وافد اليها من الريف، تحول، بفعل التغيرات التي شهدتها البلاد في اوج الزخم القومي، الى رقم فاعل في اطار التكوينات الجديدة، التي امسكت بالسلطة لاحقاً، وتحول صوت الغائه السابق الى مجرد ذكرى مجرَمة، وتحول مشروع اندماجه الى حقيقة فرضتها طبيعة التحولات آنذاك. لكن بالمقابل لم يمت الصوت الإقصائي والانعزالي ، بل ظل كامنا في التحول ذاته وكان يعبر عن نفسه ايضا في اطار بنية الحكم الجديد، التي تسرب اليها على قاعدة التكيف !! فكان يرى ،على عكس الوحدويين الفوريين، ان التمايزات الجوهرية بين الجنوب (التقدمي) والشمال (الرجعي)، تجعل من امر الوحدة معضلة حقيقية، دون ان انجاز التحول المنظور في بنية المجتمع في الشمال نحو الاشتراكية، غير ان احداث يناير 1986 كشفت هول الكارثة، وان القشرة الخارجية للخطاب الايديولوجي، كانت تغطي على تناقضات قاتلة في تركيبة المجتمع القبلي في الجنوب، الذي انعكس على تنازعات السلطة على اساس مناطقي واضح. ومن نتائجها كان ذلك الفرز والاقصاء للمواطنين على اساس الهوية !
هذا الزلزال ايقظ الناس من وهمهم الطويل متيحا للتيار الوحدوي الفوري التعبير عن نفسه بقوة ووضوح، منقادا ببوصلة حلمه الرومانسي الثوري في الوحدة، التي ذهب اليها ،في ذروة التحولات في العالم وعلى رأسها سقوط المعسكر الاشتراكي !! وفي اشهر قليلة، ستظهر التناقضات الحقيقية في بنية الحكم الجديد، وتقاطع مصالحها ،فبدأت تتأسس تحالفات عسكرية وقبلية وسياسية، لخوض غمار معركة تصفية حسابات مؤجلة، اخذت في ظاهرها طابعاً سياسياً وفي باطنها نزوعاً ثأريا لم يخل في كثير من تجلياته من بعد مناطقي، خصوصا تلك التي اعادت الصورة الدامية لأحداث يناير 1986، حين عاد مهجرو الفصيل المنهزم من ابناء (ابين وشبوة) كطرف منتصر في حرب 1994 (في اطار تحالف استباحة الجنوب). تداعيات الحرب ونتائجها (الضم والالحاق والسيطرة والنهب باسم الوحدة) ،افضت الى خلق هذا الشعور التذمري، الذي تحول بعد سنوات قليلة الى صوت قوي رافض للهيمنة والاستبداد لتحالف الحرب اياه. غير ان هذا الصوت، الذي تعاظم وتقوى بمرور الوقت، بدأ في انتاج انغلاقيته وانعزاله، فاعتبر كل ما هو شمالي عدوه، متيحاً للوعي الشعبي انتاج ملفوظ (دحباشي) عوضا عن (جبلي) ككلمة (تدوين واستنقاص) ضد كل ما هو شمالي!. فالعامل البسيط (في المقهى والمطعم والدكان والورشة والبسطة) صار مؤبلساً في هذا الوعي، الذي بدأ بالذهاب نحو التطرف، حتى غدا(الدحباشي) في هذا المسار سببا في مصائب الجنوب ونهب ثرواته، وعزز من ذلك العمل الممنهج للأجهزة، التي كانت تعتقد ان ضرب الجميع بالجميع سيبعد القوى المؤثرة في المجتمع عن مساءلة، نظام الحكم ودوائره المتورطة في الاستبداد والفساد. وبمرور الوقت صار المُضطهد يبحث عمن هو اضعف منه لاضطهاده ،في تركيم فاضح لعقد النقص ،وعدم الاستواء النفسي والثقافي . وهي قضايا كان بالإمكان (معالجتها) لوان مشروعا وطنيا مناهضا للاستبداد والفساد ،وصل الى عقل المجتمع قبل وجدانه بكثير من المكابدة، بدلا من الاشتغال على موضوعات التقاسم السياسي، وتشيبك المنافع الصغيرة على حساب مصالح المجتمع ومكوناته، التي بدأت انسجته بالتهتك، جراء الازمات المتعاقبة، التي افضت في منعطفها الحاد والاخير الى هذه الحرب، التي قوَت خطاب الكراهية، الذي يكتسي الان من خلال حضوره على الارض، بهذا النزوع العنصري الاهوج ، في مدينة لم تخلق اصلاً الا للتسامح والتعدد.
(*) المادة نشرت كما هي للمرة الاولى في 29 مايو 2016