صنعاء نيوز/ د.سناء الشعلان - كلّنا نعرف حكاية سندريلا التي كان حذاؤها هو من قاد الأمير إليها،حتى غدا حذاؤها الزّجاجي رمزاً من رموز الرّومانسيّة والبحث عن الحبيبة المجهولة حتى الظّفر بها لتنتهي حكاية الحبّ بأجمل نهاية مأمولة،وتظلّ السّعادة حليفة العاشقين حتى آخر لحظة من حياتهما،وترفل الرّعية في السّعادة والعدل في ظلّ الأمير العاشق الذي هذّبه الحبّ،وجعل منه حاكماً عادلاً رقيق القلب والرّوح.وقطاع كبير من النّاس لاسيما المتخصّصون ينسبون هذه القصة الشهيرة إلى إلى الأخوين يعقوب وفيلهام غريم الألمانيين.
لكن الحقيقة المجهولة أنّ سندريلا ذات الحذاء الزّجاجي المفقود لم تكن وليدة مخيال الأخوين غريم،بل كانت إعادة تدوير إن جاز التعبير لقصة الغانية الفرعونيّة الشّهيرة" رداوبيس"،وهي شخصيّة حقيقيّة لا خرافيّة،ولعلّ رواية "رادوبيس" للروائي المصري نجيب محفوظ من أشهر الأعمال التي استحضرتها من جديد إلى الذّاكرة المعاصرة،وهذه الرّواية صدرت في طبعتها الأولى عام 194،وقد أراد نجيب محفوظ فيها أن يسقط التّاريخ الفرعوني على التّاريخ المصري الحديث،ليفضح رموز الطّغيان والفساد في عصره عبر تعرية العلاقة بين فرعون والسّلطة الدينية والدنيوية في زمانه من خلال قصّته علاقته الغراميّة غير الشّرعية مع الفاتنة" رادوبيس".فضلاً عن أنّ هذه الرواية إلى جانب روايات أخرى كانت ضمن خطّةكان نجيب محفوظ قد اختطها لنفسه في بداية مشروعه الإبداعي، ثم تراجع عنها لصالح الرواية الاجتماعية، ومن ثم لصالح الرواية الفلسفية.
وتبدأ قصة رادوبيس عندما يختطف نسرٌ حذاءها وهي تستحم، ويحلّق به بعيداً، ليلقيه في حضن الفرعون (مرنرع الثاني)، سيراً على اعتقاد شعبي يقول إنّ النّسر يتعشّق الحـسان، وإنّه يخـطف من العـذارى ما تهوى إليها نفسـه، ويطير بها إلى قمم الجبال، فالفرعون (مرنرع الثاني) قررّ أن يقابل الغانية (رادوبيس) عندما رأى صورتها مرسومة على حذائها الذي أسقطه النسـر في حضنه , فقال وهو يشير إلى صورتها "ما أجمل هذه الصـورة،ثم يسعى إلى هذا اللقاء بأن يذهب بنفسه إليها حاملاً حذاءها،ويلقاها، فيقع في غرامـها، ويعكف نفسـه على حبّها،وسرعان ما يحدث ذلك، ويقع في غرامها، وتبادله الغــرام بغرام، فينحرف عن رعيته، ويُغدق عليها بالمال والجواهر والهبات، فيستفزّ سلوكه الرعية، التي تطيـح به في نهاية المطاف، وتقتله بسهمٍ طائش.
أمّا النّسر سارق الحذاء فيختم القصّة معه بالامتنان لصنيعه؛ لأنّه كان السـبب في لقائه بـ (رادوبيس)، ويقول "سأعلن رغبتي على الملأ ألاّ يعرض إنسان من شعبي لنسـر بسوء"،وبذلك يُهبه بُعداً تقديسياً خاصاً، ويجعله رمزاً من رموز الحـبّ، عبر قصة حبّ حدثت اتفاقاً، ليغدو المقدّس موروثاً شعبياً يرتبط بالذاكرة الجمعية بقصة شعبية كرّستها الصدفة.
والحذاء البطل في هذه القصة هو ليس مجرّداً من الرّمزية عند المصريين القدامى ووسيلة لاتقاء أذى الأرض, وتوفير الحماية للقدم فحسـب, بل يتجاوز ذلك ليـغدو رمزاً مقـدّساً, فهو يعدّ في الشـعائر الجنائزية رمزاً للطـهارة, إذ يقتـرب المتوفى من (أوزيريس)، وهو يرتدي حذاءً أبيض فيكون بذلك خالصاً من جميع الأتربة الأرضية والقذارة، وكثيراً ما كان يُرسـم زوجان من النعال على النهاية السُفلى من الخارج أمام قدمي التابوت.
وكان الحذاء مثله مثل القدم رمزاً للسلطة ولاقتناء الثروة. وكان الفراعنة يرتدون نعالاً ذات مقدمّات تنحني إلى أعلى. وكان الأسـرى الأعداءُ يمثّلون على النّعال كي يتمكن الملك رمزياً من وطئهم. كما كانت كذلك دليلاً على المقام الملكي .
وإن كانت سندريلا فتاة يتيمة رقيقة جميل الخصال،فـ"رادوبيس" لم تكن مثلها خُلقاً أبداً،فقد كانت غانية فاجرة تهب جسدها لكلّ من يدفع ثمنها بسخاء،حتى الفرعون العاشق لها أنفق عليها بلا حساب،ولكنّها كانت على قدر خارق من الجمال والذّكاء والثّقافة،فاستطاعت أن تسرق قلب فرعون،وتلهيه عن واجبه المقدّس في خدّمة الشّعب تماماً كما كان الملك فاروق في زمن تأليف رواية "رادوبيس" المستقاة من التاريخ الفرعوني غارقاً في الملذات والشّهوات،والمقاربة واضحة كما أعتقد،ومحفوظ يريد أن يحذّر الملك فاروق من مصيره المنتظر إن أصرّ أن يكون فرعوناً آخر غارقاً في شهواته من "رداوبيس" العصر الحاضر. |