صنعاء نيوز/ د.أورانك زيب الأعظمي/ الهند -
لعبة النّسيان والتّذكّر وآليّات التّشكيل والرّؤية في رواية " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" / جزء 2
د.أورانك زيب الأعظمي/ الهند
النّسيان الانعتاق وجدليّة النّهايات:
هذه الرّواية تزعم أنّها منحازة إلى النّسيان وتجاوز الماضي بما فيه من ألم،حتى أنّها تدعو إلى تجاوز الحاضر،والتّطلّع إلى المستقبل،ولكن الحقيقة عكس ذلك تماماً،فهي تلمز النّسيان،وهي تدعو إليه،وتكرّس التّذّكر وهي تهرب منه؛ فحتى " بهاء" لم تستطع أن تهرب إلى النّسيان إلى عندما عاشت الواقع كاملاً،وباحت بأسرارها جميعها، و" الضّحّاك" كذلك حاول أن ينسى ما حدث له في أرض الوطن،وأن يزوّر ماضيه،ولكنّه ظلّ حبيس وجعه وتذكّره " لقد أتقن كذباته التي زوّرها كما يشتهي؛ فأخبر الجميع في عوالم الثّلج والصّقيع أنّه سليل أمراء الشّرق،وأنّ جدّه الأكبر كان يملك آبار نفطيّة قبل أن يخسرها على طاولة القمار،وأنّ والده كان من أعاجيب دهره لأنّه وُلد بأسنان بعد أن حملت أمّه به لعامين كاملين،وأنّه طار نحو نجم في السّماء في ليلة قدر،واختفى هناك إلى الأبد. لقد ظلّ يكذب على الجميع حتى تحوّل إلى الكذب على الورق لينسى أوجاعه جميعها،فنجح في ذلك،وأصبح روائيّاً شهيراً لأنّه يجيد أن ينقل الألم من الصّدر إلى الورق"
لكنّه على الرّغم من ذلك ظلّ يتذكّر أوجاعه " اللّيلة لا يريد أن يتلوَ على نفسه سوى أحزانه التي اسمها ذكرياته والاغتصابات المكرورة لإنسانيته في الميتم والشّارع والمعتقل،ولا يريد أن يحلم بأيّ امرأة سوى حمرائه الفاتنة النّائمة حتى ولو كان عارياً في حضن هذه العاشقة الشّقراء التي قضمته،وقرقشت عظامه،ونامتْ في جلده،وزكمتْ أنفه برائحتها المنتنة"
لقد بدأت الرّواية برغبة " الضّحّاك" في أن يبعث ذاكرة " بهاء" من العدم،ولذلك أخذ يقرأ لها في مخطوطتها الرّواية لعلّ ذلك ينعش فعلها " إذن عليه أن يقرأها عليها؛ لعلّها تكون محرّضاً لها على التّذكّر،ومحاربة طغيان النّسيان الذي أَدْرَكَهَا في وقت هي أمسّ الحاجة فيه إلى التّذكّر،وهو وقت العشق ولقاء حبيبها الصّغير الكبير " الضّحّاك"،ولكنّه عندما اكتشف كارثيّة ما هو موجود في هذه المخطوطة قرّر أن ينحاز إلى قرار" بهاء"،وهو النّسيان،وأحرق المخطوطة،وكتب لها ذكريات جديدة في رواية أطلق عليها اسم " أَدْرَكَهَا النّسيانُ".
لقد وصل " الضّحّاك" إلى نقطة الإفلاس التي وصلت " بهاء " إليها من قبل عندما استسلمتْ للنّسيان "هذا المرض عندما يلتهم ذاكرتي سوف يقضي على كلّ ما فيها من ألم وتوجّع وتمزّق وتهافت،وأخيراً سوف يدركني مدرك،وينقذني منقذ،إنّه النّسيان من سوف يدركني،وينقذني من ذاكرتي المشحونة بالألم،وأنا من كنتُ أحلم أيّها " الضّحّاك" بأنّ تدركني ،وأن تنقذني من أحزاني وضياعي وأوهامي،ولكنّ المرض قد سبقكَ إليّ،وقرّر أن يستأثر بي استئثاراً كاملاً"
والطّريف في الأمر أن الشّرط الافتراضيّ لـ " بهاء" للاستيقاظ من غيبوبة نسيانها كانت أن تعيش حياة يقظة كلّها نسيان،وهذا ما كان فعلاً ؛ فهي لم تستيقظ من سباتها المميت لمدّة عامين إلاّ عندما أحرق " الضّحّاك" روايتها المخطوطة حيث كتبت سيرة حياتها،وكتب لها تاريخاً جديداً في رواية جديدة أسماها " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" ،ثم انحاز إلى رغبتها في الارتداد إلى عوالم الطّفولة،وانضمّ إليها في ذلك،وهجر حياته بتفاصيله جميعها،وتفرّغ للفرح والطّفولة والحبّ "هو يعيش معها بجسد رجل على أبواب السّبعينيّات من عمره ،وبروح طفله الصّغير المتواري في أعماقه الذي استطاع بعد عقود طويلة أن يبرّ بوعده لحبيبته الصّغيرة،وأن يهرّبها من سجنها في الميتم،وأن يهرب بها نحو البعيد؛ ليعيش معها أجمل تفاصيل السّعادة والفرح والحرّية والبحبوحة؛ فيسير معها تحت المطر،ويجري معها في الطّرقات الصّغيرة بين البيوت القديمة،ويقرعان أجراس البيوت،ويوليان هاربين وهما مغرقان في الضّحك،ويشربان المرّطبات الباردة في زيارتهما لمدينة الألعاب،ويحضنها إلى صدره وهي تخشى الأشباح في مدينة الخوف،وينفقان النّقود بسخاء على شراء الألعاب المسلّية والحلويّات والسّكاكر والمرطّبات والمثلّجات،ويتشاركان في أخذ دروس في التّمثيل المسرحيّ والعزف على " البيانو" والرّقص الذي كان محرّماً عليهما حرمة كاملة في الميتم،كما كانت محرّمة عليهما المباهج والأفراح والأمل المهرّب إليهما من أيّ مكان كان"
لقد قرّرت " بهاء" وقرّر " الضّحّاك" أن ينسيا كلّ شيء في الماضي إلاّ اسميهما،فقد صمّما على الاحتفاظ بهما لأنّهما أرثهما الوحيد السّعيد من الماضي التّعيس،وكلّ منهما حصل على اسمه من الآخر لا من أسرته ووطنه " الضّحّاك" عرض على " بهاء" أن تختار لها اسماً جديداً إن كانت ترغب في ذلك؛ كي يقطعها من الماضي بشكل كامل،بعد أن حظيتْ بحياة جديدة ومولد جديد،لكنّها صمّمتْ على أن يظلّ اسمها " بهاء"، وأن يظلّ اسمه " الضّحّاك"
لكن الرّوائيّة لم تسهّل خيارات النّسيان والتّذكّر في هذه الرّواية،بل دفعتها إلى القلق والحيرة والشّك عندما ختمت روايتها في الفصل الأخير المسمّى " النّسيان الثّلاثون:الماضي" بجملة من النّهايات المفترضة والمقترحة،وتركت للقارئ أن يختار منها ما يشاء وفق قناعاته وميوله وتوقعاته،وتركته في شكّه وظنونه دون أن ترجّح نهاية على أخرى،وإنّما تركت للمتلقّي أن يختار النّسيان الذي يناسبه،إلاّ أنّها مالت إلى نهاية الحبّ وانتصار العشق،ولكنّها لم تجعل ذلك في متن الرّواية ما قبل نهاية الأحداث،بل علّقت ذلك بين النّهاية والبداية،وبذلك افترضت أنّ نهاية انتصار الحبّ هي الأمل الوحيد للإنسان كي يشفى من جراحه وألمه " في أفق بحريّ ما كان هناك ظلّان يركضان نحو الرّحب فرحين بالعشق الذي لا يموت،ولا أحد كان يعرف لهما اسماً أو ذكريات أو تاريخاً،والشّمس التي تغرق في أفق البحر الدّامي بها تحوّلهما إلى خيالين أسودين يلتحمان طويلاً في جسد قبلة عميقة "
الرّؤية والتّأويل ومتاهة الرّموز:
المتاهة السّرديّة التي خلقتها سناء شعلان في روايتها هذه هي متاهة وهميّة إلى حدّ كبير؛ فهي توهم المتلقّي بأنّه في إزاء رحلة مضنية ومدوّخة في سرد يمتدّ لنحو سبعين عاماً من الوجع،وتزيد من فعاليّة هذا الوهم عندما تفتح المكان والزّمان على فضاءات غير محدّدة،فلا نعرف في أيّ وقت حدثت أفعال الرّواية،ولا في أيّ مكان،إنّما تكتفي بأن تقول إنّ ذلك قد حدث في الشّرق حيث يتكلّم النّاس اللّغة العربيّة،ومن ثم تشير إلى انتقال " بهاء" إلى الشّمال البارد الثّلجيّ دون أن تحدّد البلد أو المكان أو المدينة بالضّبط.
ولذلك يشعر المتلقّي السّطحيّ بأنّنا إزاء رواية خارجة عن المكان والزّمان،ومعنيّة بحكاية عاشق وعاشقة التقيا بالصّدفة بعد عقود ستة من الفراق والعذاب،ليجد العاشق " الضّحّاك" أنّ حبيبته " بهاء" قد عانت الويل في رحلة حياتها،وأنّها استسلمتْ لمرض السّرطان كي تضع حدّاً لمعاناتها ووجعها،في حين كان حظّه أفضل عندما هرب إلى البعيد،وعاش في وطن بديل حنون عليه.
وهذا تأويل سطحيّ جدّاً للرّواية،وهو ينزع عنها رموزها الكبرى،وإسقاطاتها الذّكيّة اللّماحة،فمنذ اختيار زمن السّبعين عاماً لمعاناة البطلة " بهاء" نستطيع أن نسقط ذلك على المعاناة الكبرى في تاريخ النّضال العربيّ في العصر الحديث،وهو نضال الشّعب الفلسطينيّ إزاء الاستعمار الصّهيونيّ الغاشم،والإلحاح على الرّقم سبعين هو إلحاح على هذه المفردة؛فـ "بهاء" هي تجسيد للضّياع العربيّ والاستلاب أمام منظومة عملاقة من منظومات الاستلاب حيث يغدو المواطن لعبة في أيدي أنظمة القمع التي قد تحوّل فناناً انتهازيّاً مثل "يراع طرب" إلى لوطيّ يستغلّ شذوذه للوصول إلى المال والشّهرة في مجتمع متساقط منهار " لكن ثريّاً مشرقيّاً لوطيّاً سبق المقطوعات النّسائيّة الأخرى إليه،واتّخذه له،وأعلى كعبه في امبراطوريّة ثروته،وأستحدث له مشاريع إعلاميّة وفنيّة لأجل أن يبقيه إلى جانبه؛ فما كان يستطيع أن يفارقه،أو يستغني عن فنونه في الشّذوذ الجنسيّ،بعد أن هجر الأغاني الوطنيّة والدّينيّة والإنسانيّة التي كان يتكسّب منها،ويزعم أنّه سفيرها لما تحمله له من شهرة وجماهيريّة ودخل عريض،وتخلّى عنها جميعاً لصالح شذوذه الذي فتح له كنز علي بابا والألف شاذّ".
فـ " بهاء" الرّمز للعروبة المسلوبة لم تسجّل في سيرتها انحناء بإكبار لأحد العابرين في حياتها سوى لـ " ثابت السّرديّ" لأنّه مناضل يدافع عن وطنه الذي يسهل أن نعرف أنّه فلسطين من سيرة حياة أهله " الحياة عندهم كانت تنحصر في البناء والامتداد والإخلاص لتفاصيل حياتهم البسيطة حيث العمل ليل نهار،وانتظار المواسم،والمشاركة في الأفراح والأتراح،وتربية الأبناء،ومعاونة الجيران،ومجاملة الأقارب والأنسباء،ثم جاءهم السّخط والغضب وأيام العذاب علي أيدي شرذمة من الجائعين الغرباء المحتلّين الذين جمعهم الموت والجوع والتّشرّد،فجاءوا إلى أرضهم تحميهم الأسلحة والعصابات وجيش الانتداب والإرادة الدولية الغاشمة التي صمّت آذانها عن أبسط مبادئ العدالة الدولية،وتواطأت مع تلك العصابات في أكبر سرقة في التّاريخ،إذ هي أوّل مرة يُسرق فيها بلد كامل!" ،لكن "ثابت السّرديّ رفض الانصياع لأقدار الذّل والاحتلال،واختار قدراً جديداً صنعه بنفسه " هذه هي حكاية "ثابت السّرديّ"،وحكاية شعبه التي تتلخّص في أن لا تكون لهم حكاية سوى حكاية كابوسيّة واحدة ،اسمها العذاب والرّحيل والانتظار.ولكنّه دفع عمره ثمناً ليغيّر نهاية هذه القصّة،لتصبح النّهاية هي التّحرير،ولا شيء غير التّحرير".
وهذا النّضال،وهذه الشّهادة جعلت شخصيّة " ثابت السّرديّ" تخرج على مآلات سائر شخصيّات الرّواية التي سقطت في الظّل ،في حين ظلّ هو وحده بنضاله الثّابت الذي يروى/يسرد قصّته للتّاريخ والإباء " لقد عاش " ثابت السّرديّ" بطلاً،واختار أن يموت بطلاً،مات سنبلة رافعة الرّأس،كما عاش زيتونة شامخة ضاربة في الأرض،ولذلك لم أملك إلاّ أن أسميّه منذ ذلك اليوم باسم ـالشّهيد " ثابت السّرديّ" الذي أقرأ الفاتحة على روحه كلّما قرع اسمه ذاكرتي أو قلبي" ،وبذلك استحقّ اسمه " ثابت السّرديّ"،كما استحقّ نهايته المشرّفة،وهي الشّهادة على خلاف النّهايات المخزية التي آلتْ إليها معظم الشّخصيّات في الرّواية التي سقطت في الظّل والعار ومزبلة التّاريخ،ولذلك عندما وصلت رسالة " ثابت السّرديّ " إلى " بهاء" قدّرتها،واحتفت بها،وشربت ماءها إعلاءً لقيمتها " إكراماً لقصيدته ذات الكبرياء الشّامخ طهوتها في الماء المغلي حتى تمزّقت،ثم شربتها كي تتمتّع أعماقي بكلّ كلمة كتبها لي،ولا تسرق النّوائب هذه الكلمات من يدي بعد أن سقيتها لجسدي كي يمتصّها حتى الثّمالة"
وكأنّ " بهاء" تقول بهذا الفعل الغرائبيّ أنّ لا أحد يستحقّ الحياة إلا أولئك الذين دافعوا عن الوطن،أمّا الذين خانوه،وقبلوا بالذّل والصّلح مع الأعداء لم يتجاوزوا أن يكونوا صورة عن " هملان أبو الهيبات" الذي لم يكن إلاّ مسخاً للذّكورة وهو يدافع عن العدوّ،ويدعو للخنوع له " وأصبح من هواياتي الحميمة أن أتابع تصريحاته السّياسيّة الخطيرة حول ضرورة التّعايش السّلميّ مع العدوّ بدل طحنه؛ لأنّ السّلام الحقيقيّ يصنعه الرّجال الحقيقيون،وهو يرى نفسه رجلاً حقيقيّاً،ولذلك يطالب بسلام الرّجال الأشاوس الذي يعدّ نفسه واحداً منهم بامتياز بشهادة لائحة كبيرة من المومسات وشهادتي المجيدة " ،ولذلك كانت " بهاء" تحتقره،وتسمّي كلّ شيء جبان باسمه " في حين ظللتُ أطلق اسم " هملان" على أيّ شيء خنثى أو جبان "،بل وكانت تخصّه بكلّ عمل فيه احتقار وازدراء،وتجعله يمسح بلاط حمامها إمعاناً في إذلاله " تصريحاته الطّويلة المشحونة بالأكاذيب كانت تضحّكني حتى تنسيني ذلك الوجع الذي بدأ ينبتُ في ثديي الأيسر،وتحمّسني كي أطلب منه أن ينظّف بلاط حمّامي عندما يعود إلى شقتي،ويخلع رجولته المطالبة بسلام الذّل والهوان مع العدوّ،ويلبس أنوثته الكسيحة التي ترضى بتنظيف حمام مومس في درجة الاعتزال بسبب التّقادم"
حتى أفعال الإنسانيّة والخير في صورها جميعها كانت " بهاء" تجعلها حكراً على من كان لهم باع في درب النّضال والحرّية،فابن عم " الضّحّاك" الذي أنقذه من جحيمه وضياعه،وأخرجه من المعتقل،وتبنّاه،وأخذه إلى عالمه حيث المهجر كان أيضاً صاحب تاريخ نضاليّ " لأنّ والده كان صديق شبابه ورفيقه في النّضال وهما يقاتلان في جبهة تحرير في إحدى القرى المداهمة من العصابات المتنمّرة على المسالمين العزّل،يومها كانا يملكان الكثير من العزّة والإباء والدّفاع" ،وحتى والد " الضّحّاك" كان فدائيّاً،وقد عانى نفسيّاً من انكسارات الأمّة حتى اختنق ومات " لقد بقي والده عالقاً في مصيدة الخراب والذّل حتى مات مختنقاً بغاز المدفأة مع زوجته بعد أن مات ألف مرّة قبلها بذلٍ الهزيمة والخذلان والخسارة،في حين هاجر ابن عمّ والده إلى بلاد الثّلج لعلّه يجد فيها ما أضاعه في صحارى الحيرة والذّل".
و " بهاء" لم تعشق في درب حياتها إلاّ الفدائيين والمناضلين " فذلك الفدائيّ الذي أُستشهد قبل أن يزرع قبلة على جبين حبيبته هو بطلي،وذلك العالم الجليل الذي اغتاله الأعادي كي لا يمطر علمه على أبناء جلدته هو فارسي،وأولئك الغارقون في بحار الدّنيا هرباً من الفتك والتّنكيل هم أحلامي" ،بل إنّها تصمّم على أنّ تهب جسدها لفدائيّ فقد قدميه في نضاله تعبيراً عن مساندتها لنضاله وقضيته " لم أكن أحبّه أو حتى أشتهيه،ولكنّني كنتُ متعاطفة مع خسارته لقدميّه برصاص العدوّ في مجابهته الشّجاعة لهم،ولذلك قدّمت جسدي له هدية تعبّر عن تقديري لتضحيته لأذيقه جسد امرأة بعد طول حرمانه منه بسبب إعاقته الشّديدة.هذه التّجربة عددتها نوعاً خاصّاً من العمل الوطنيّ السّري لدعم مسيرة النّضال،وتحفيز همم المناضلين" .
ونرى طفلاً صغيراً بريئاً مثل " الضّحّاك" يُعتقل في طفولته،وتُلصق به جريمة سياسيّة،ويتعرّض لأبشع أنواع التّعذيب لأنّ والده كان مناضلاً في زمن غابر" لقد أصبح فجأة معتقلاً سياسيّاً خطيراً ؛ لأنّ سجلاّت الزّبانية تقول إنّ والده كان - في زمن غابر لم يدركه- فدائيّاً مدافعاً عن بعض أرض الأمّة،ولذلك عليه أن يدفع ثمن تهمة الفدائيّة العار التي وسم والده نفسه بها،وأورثه جرائرها السّوداء" .
وفي المعتقل حيث تسحق الحريّة والكرامة والإنسانيّة تعرّض الصّبي البريءّ " الضّحّاك" للاغتصاب الجسديّ والفكريّ " لقد ظنّ أنّه نسي ذلك بشكل كامل كما أمر ذاكرته أن تفعل، لكنّه اللّيلة يتذكّر تماماً وجع الاغتصاب وذلّه وحرقته وذلك العسكريّ الوغد يملص بنطاله وملابسه الدّاخليّة،ويغتصبه مقنّعاً على مرأى من المعتقلين المعذّبين والجنود وقائدهم الضّابط؛ كانوا يريدون أن ينتزعوا منه أسماء لا يعرفها،وأحداث لم يشارك بها،وأفكاراً لم يزرعها ثائر أو مصلح في رأسه"
وأمام هذا التّعذيب المتوحّش اضطر " الضّحّاك" إلى خلع إنسانيته والاعتراف زوراً على مناضلين أحرار أبرياء كي ينجو من العذاب حتى ولو عنى ذلك أن يأخذوا مكانه في التّعذيب والتّنكيل والموت " بعد اعترافه بأيّام ورد الكثير من المعتقلين على سرداب التّعذيب،وخال أنّ الكثير منهم هم ممّن اعترف عليهم زوراً وبهتاناً،ولكنّه لم يبالِ بصراخهم واستغاثاتهم،وما رقّ لعذاباتهم،وما قرصه ضميره وهو يسلمهم للجحيم بشهادته الزّور واعترافاته الملفّقة ؛ فكلّ ما كان يعنيه هو أن يخرج من هذا المكان بنورٍ في إحدى عينيه على الأقل".
وأمّا رمز الميتم فهو رمز صريح للحياة في قسوتها وللأوطان عندما تحترق،وما فيها من فظائع واستغلال للأطفال واستعبادهم وقتلهم ينسحب على ما يحدث في المجتمع " كنتُ أظنّ أن الميتم ينحصر داخل أسواره الخانقة فقط،وأنّ المعلّم " أفراح الرّمليّ" نسيج وحده من أنسجة الظّلام في ذلك المكان الرّهيب،ولكنّني اكتشفتُ سريعاً أنّ العالم كلّه ميتم كبير،وأنّ نُسخ " أفراح الرّمليّ" من البشر لا حدود لها،وأنّ من الطّبيعيّ في هذا الميتم أن يغتصب " أفراح الرّمليّ" وأشباهه من يشاءون ومتى يشاءون"
وفي هذا الميتم/ الحياة/ الأوطان يضطر الإنسان المسحوق إلى أن يعيش أقسى تجربة حياتيّة ممكنة " الحياة ساحة حرب حدّ التّناحر،هي أكثر وحشيّة من حلقة صراع رومانيّة بين أسد هصور غضوب وعبد عارٍ حتى من رغبة المقاومة لأجل المحافظة على حياته.وفي هذه السّاحة الجهنّميّة أُجبرت على أن أقاتل فيها وحوش البشر ؛ لأنّني لم أملك حتى حقّ الاستسلام،ولذلك واجهتُ عذابي القدريّ،وهو التّمرّغ في وحل الرّجال الوحوش"
ونجد في الميتم أنّ كلّ شيء جميل ممنوع فيه،فحتى الأحلام والفرح ممنوعة فيه،فطفلة تجلد فيه؛ لأنّها " تقول إنّ الغناء ليس حراماً،وتريد أن تصبح ممثلّة مسرح عندما تكبر" ،وطفل يُقتل فيه تجويعاً ؛لأنّه كان " يرفض أن ينصاع لأيّ أمر فيه إذلال له،ويصمّم على موقفه على الرّغم من تعذيب المشرفات له،وتنكيلهنّ به حتى مات جوعاً وهو محبوس في قبو الميتم،وما استطاع أحدٌ منّا أن ينقذه،أو أن يحتجّ على مصيره خوفاً من أن مصيره" .
وفي هذا الميتم المتوحّش يتمّ اغتصاب اليتيمات من المعلّم " أفراح الرّمليّ" بموافقة ورضا الإدارة " لقد طوّف على أجساد اليتيمات الواحدة تلو الأخرى،وضمن تستّر المشرفات على جرائمه بأن أعطاهنّ أنصبة مشبعة ومرضية من الجنس الذي يتحرّقن للحصول عليه،حتى عاملة النّظافة المسنّة التي كانت رائحة القمامة تفوح منها قد غزاها في غرفتها المنزوية في مطبخ الميتم،وأشبعها جنساً حتى غدتْ حيوانه الأليف الذي يلهث خلفه أعمى عن كلّ شيء سواه" .
وهذا الميتم صورة مصغّرة عن الحياة المحترقة في الشّرق حيث الخراب في كلّ مكان " الشّرق الذي تقوّض، دون أن ترى الأوطان أو الشّعوب أيّ بصيص أمل أو حريّة أو عدالة،لا شيء سوى الموت والجعجعات والنّقيق الموصول دون فائدة أو تحسين،وذلك العدوّ الكونيّ الذي يلفّ العالم بعلمه الشّرير،ويذبح النّاس باسم الحريّة والدّيمقراطيّة والإخاء يزفّ الموت إلى كلّ مكان يذهب إليه" .
وأهل الشّرق يهجرونه ليعيشوا الضّياع في البعيد حيث المنافي ليهربوا من جحيم الدّمار في أوطانهم " كان الشّرق يحترق برمّته،وحواضره تهوي في النّار،والمدن ترحل عن نفسها وعن أهلها،والجميع في هرج ومرج،والقيامة قامتْ هناك منذ سنين طويلة،والحساب شنيع وطويل،ولا جنّة أو نار،لا شيء فيه سوى وقوف طويل على الأعراف،أو سقوط في سقر" .
الوطن في الرّواية يتمرّغ في العذاب والألم " وقرع ذهني سؤال قلق نخزه بوجع مسلّة عمّا تراه يحدث الآن في مدائن الشّرق التي فارقتها وهي تستعر بالنّار والفتن والابتلاءات والمصائب،ويجوبها اللّصوص والقتلة آمنين فرحين،ويموت فيها الأبرياء والأبطال والصّالحين،في حين تسمن الكلاب والأبقار والخنازير والفئران الآدميّة حتى تختنق بسمنتها" .
وأصوات الحرّيّة في هذا الوطن تُقمع ببطش من طرف السّلطة والمتنفّعين بها " فقد حضر فيه شرارة انطلاق إحدى الاعتصامات الكبيرة في المدينة احتجاجاً على الغلاء والفقر وارتفاع الضّرائب والفساد وخنق الحريّات،وسرعان ما تحوّلت إلى مواجهات دامية داس الجنود فيها على المحتجّين دون رحمة"
وفي هذه الأوطان المتهاوية الملعونة بالمفسدين نجد السّقوط في التّفاصيل جميعها،ونستطيع أن نسقط شخوص الرّواية على رموز حقيقيّة في الحياة،لتكون الفاجعة بقدر كشف القناع،وفكّ شيفرة الرّمز،وإسقاط الشّخصيّات الرّوائيّة على مجرمي الأوطان الذين أفسدوا كلّ شيء،وخرّبوا الحاضر والمستقبل في حين تعليق " بهاء" على ذلك كلّه أنّها لا تبالي بما يحدث لهذا الوطن من الخراب لأنّها لا تنتمي إليه،وتعيش فيه بغربة كاملة " ولكنّني لم أكن أبالي بذلك كلّه؛ فتلك المدن قد رحلت عنّي منذ زمن،ولا قلب لي فيها ولا أمل،وما لها محبّة في قلبي حتى أبكيها؛ فأنا نبات شيطانيّ لا علاقة له بأيّ شيء هناك؛ لستُ أكثر من لقيطة ربيبة ميتم سرعان ما أدركت أنّ أوطان الشّرق جميعها مياتم كبرى،لا كرامة فيها ولا حنان ولا أمل".
الخاتمة ولعبة التّرميز:
ويبقى هناك الكثير ليقال عن هذه الرّواية التي تشكّل تجربة فريدة وناضجة في السّرد الرّوائيّ العربيّ في آخر ما قدّمه للمشهد الرّوائيّ لا سيما أنّ هذه الرّواية هي من أحدث ما صدر من راويات عربية في الأيام الأخيرة من العام المنصرم 2018،وهي تجربة جديدة للروائية سناء شعلان.
ويظلّ هناك سؤال معلّق في الذّهن،وهو: هل النّسيان هو الانتصار؟ أم البوح من له سبق ذلك؟ أم الهروب إلى الحبّ هو الحلّ والانتصار والمآل السّعيد للأرواح التّعسة؟
أكاد أجزم أنّ لا أيّ خيار من هذه الخيارات هو ما فكّرت به سناء شعلان في روايتها هذه انطلاقاً ممّا جاء فيها من تعرية خطيرة وجريئة للظلّم والاستعباد والفساد والتّخريب؛هي لم تكن مشغولة بالبوح وجماليات العشق ومصارع العشّاق ومآقيهم،ولم تدعُ أبداً إلى الهروب إلى النّسيان.
لا بدّ أنّها كانت تفكّر فيما هو أخطر من ذلك؛هي باختصار كانت تفكّر في مشروع سرديّ لتعرية واقع الكذب والتّزوير والتّلفيق في العوالم المعيشة في العصر الحاضر،وليس أدلّ على ذلك من حرصها على تعميم التّجربة،وعدم حصرها في أسماء وأماكن وجغرافيا محدّدة،وتركها مفتوحة على التّأويلات لتتسع لأيّ تجربة بشريّة مشابهة لتجربة أبطال هذه الرّواية.
لذلك يمكن القول إنّ هذه الرّواية هي ليست رواية الحبّ والعشق والحرمان فقط،بل هي رواية لأسفار الواقع ومآلات البشر ومصارع الأحرار ونكد المتسلّطين وقبح الظّالمين ومعاناة المسحوقين والمهمّشين وفضح صريح لستر الكاذبين والمدّعين وأرباب السّلطة والنّفوذ والنّفاق ،هذه هي رواية سبّ الفساد والمفسدين،ولعن المخرّبين،وتجريم الخائنين،إنّها مساحة كونيّة تشبه تجربة الأحرار والمنكودين والمحرومين والمسحوقين في كلّ زمان ومكان.
بل يمكن القول إنّ " بهاء" و" الضّحّاك" يمكن أن يكونا رمزاً للأوطان لا للمواطنين فقط،كما يمكن أن تكون تجربتهما المريرة في الحياة صورة مصغّرة عن تجربة الأوطان والشّعوب في أزمان المكابدة والسّقوط والانحطاط والفاسدين والخونة،وفي ظلّ هذه التّرميزات يمكن أن نفسّر ونؤوّل الرّواية وأحداثها من منظور أعمق من مجرّد حكاية امرأة مسحوقة يصيبها مرض السّرطان،ويفقدها ذاكرتها،وتجد ملجأ لها في حضن حبيبها المخلص الحنون.
الإحالات والمراجع:
|