صنعاء نيوز عامر العظم - السلطة الفلسطينية... سلطة المبهور بجلاده القامع لشعبه!
كنت من الأشخاص الذين نزلوا إلى أريحا لاستقبال الرئيس الراحل ياسر عرفات والقوات الفلسطينية العائدة في عام 1994 بعد توقيع اتفاقية أوسلو في سبتمبر 1993، كأي فلسطيني حبا أو فضولا لهذا الحدث الاستثنائي لأرى زعيما لشعبي أشغل العالم يصل إلى وطنه الذي ناضل لأجله، وفي التلال القريبة لمدخل أريحا أوقف سيارتنا شاب – 41 عاما - بزي عسكري معتدا ببزته العسكرية، كان وجهه مألوفا لي لكنني لم استطع تذكره في تلك اللحظات، يسألني عن حجم وأعداد الناس القادمين إلى أريحا لاستقبال الرئيس الفلسطيني ذاك اليوم، وكان هذا الضابط الفلسطيني الشاب الذي ربما يرتدي البزة العسكرية لأول مرة في حياته هو جبريل الرجوب! تذكرته بعدما واصلت السيارة المسير باتجاه أريحا، عندما تذكرت أنني كنت أرى صورته في أواخر الثمانينات في الصحف المحلية عندما كان يعمل صحفيا أو كاتبا في صحيفة أو مجلة في القدس بعد الإفراج عنه في عملية تبادل الأسرى في عام 1985، وكنت أعرف قصة حياته وتاريخ اعتقاله، وأذكر أنني قرأت له كتابا ألفه قبل إبعاده في بداية الانتفاضة الفلسطينية.
وأذكر أيضا أنني رأيت في ذاك اليوم أو بعدها بفترة قصيرة صائب عريقات الذي كان يبلغ الـ 39 عاما في ذاك الوقت، فوق "مُغتصبة معالي افرايم"، وكان شابا مغرورا، في نظر كثيرين، يحمل دائما حقيبة دبلوماسية على ما أذكر، علما بأنني كنت أقرأ له في الصحف الفلسطينية ورأيته مرة أمام مقر صحيفة فلسطينية في منتصف الثمانينات في القدس شابا ممتلئا معتدا بنفسه قبل أن يصبح الآن متواضعا بعد عشرين عاما من المفاوضات المضنية التي سرقت عشرين عاما، من عمره وأعمارنا وتركته وتركتنا على أعتاب الشيخوخة خاليي الوفاض بلا وطن، بدون مقابل أو نتيجة من عدو لا يفهم ولا يرحم!
وكلنا قرأ وتابع وقتها والعالم يتحدث عن أصغر عقيد في العالم وهو محمد دحلان – 32 عاما - الذي أصبح لاحقا قائدا للأمن الوقائي في غزة. طبعا هذه الرتب العسكرية منحها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وسلطته الناشئة للمناضلين والسجناء، وحتى العملاء، وأكثرهم لم يلتحق بدورة عسكرية.
قابلنا في تلك الفترة أنا وصديقا له اسمه الدكتور محمد اشتية في رام الله وكان شابا ـ عمره 35 عاما في عام 1993 ـ يتحدث بكل زهو عن قربه من عرفات وأنه قال له كذا وسلمه كذا ومنحه شيك على بياض لعمل كذا وهكذا! كان يتحدث بزهو الشباب حيث عمل لاحقا رئيسا للمجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والاعمار "بكدار" ثم وزيرا للأشغال العامة والإسكان الآن في حكومة فياض.
وكان مروان البرغوثي - 35 عاما - مسؤولا كبيرا في حركة فتح في تلك الفترة وأعرفه أيام كان رئيسا لمجلس الطلبة في جامعة بيرزيت حيث كنت أدرس.
لا أريد أن أقسو أو أظلم أحد ولست هنا لأقيم أو أنتقص من وطنية أو كفاءة أو إنجازات أو قدرات الشباب لا سمح الله، لكن كان معيار وضعهم في مناصب هامة هو قربهم أو حبهم لياسر عرفات شخصيا أو لتاريخهم النضالي في السجون الإسرائيلية، ليسوا هم وحدهم بل هنالك آلاف حصلوا على رتب عسكرية ومناصب حكومية وإدارية لذات السبب. عليك أن تتصور وضعا فوضويا كل يتنافس ويسابق الزمن لترسيخ أقدامه وتعزيز مصادر قوته وصلاحياته وسلطاته.
أنت تتحدث عن شباب في أوائل أو منتصف الثلاثينات كان بعضهم، كالدكتورين عريقات واشتية، أعضاء في الوفد التفاوضي في مؤتمر مدريد في عام 1991 والبعض الآخر تبوأ لاحقا مناصب حكومية وإدارية كبيرة. لا شك أن كثيرا من الشباب ـ وهنا أتحدث بشكل عام ـ وُضعوا في مواقع لا تلائمهم أو لا تتناسب مع خبراتهم أو فوق قدراتهم وهم يواجهون عدوا شرسا وساديا ومراوغا.
كان الدكتور عبد الستار قاسم، ومناضلون كثيرون، على سبيل المثال لا الحصر، أكثر شهرة منهم في ذلك الوقت لكنهم رفضوا أو لم يتبوأوا منصبا أو يلعبوا دورا في مؤسسات السلطة.
يُقال أن أي حركة تحرر، تمارس دورا قمعيا ضد شعبها أو معارضيها بعد جلاء المحتل، وهذا ما حصل في فلسطين بعد قدوم سلطة أوسلو، فقد اختلط الحابل بالنابل وانضم مئات من العملاء والقتلة، المحسوبين على فتح في الانتفاضة الأولى، إلى جهاز الأمن الوقائي، بدلا من محاسبتهم ومعاقبتهم، ومارسوا دورا قمعيا كما كان يفعل ـ ولا يزال ـ المحتل الإسرائيلي، حيث ساد الفساد والإرهاب ولا يزال.
كان هؤلاء الشباب الذين ناضلوا أو حلموا بوطن مُحرر أو سلطة خاصة بهم مبهورين بمناصبهم وأدوراهم الجديدة وقدرتهم على مخاطبة جلادهم "السابق" (والحالي!) "على قدم المساواة" من مواقعهم ومناصبهم الجديدة التي أفرزتها سلطة أوسلو الجديدة، حالهم كحال القوات الفلسطينية العائدة إلى فلسطين!
كانت القوات الفلسطينية العائدة من اليمن وتونس والسودان والأردن وغيرها منهكة من الشتات والترحال تبحث عن استقرار ومسكن ولم يكن أبناؤها يبحثون عن ترقية أو دور مختلف لأنهم عسكريون يعملون بنظام عسكري بالأساس بالرغم أن بعضهم تورط في ممارسات لا أخلاقية مع نساء وأطفال في غزة والضفة ـ وهذا نشر في وقته في الصحف الفلسطينية ـ وبعضهم ضبط متلبسا يمارس "فتوة التحرير الجنسي في قلب العدو" مع عاهرات وفي بارات إسرائيلية، كانوا مبهورين ليروا الإسرائيلي جنديا أو مدنيا وجها لوجه وينسقون ميدانيا معه على الأرض، وهم عاشوا على أسطورته كجندي متفوق وجيش لا يُقهر، ولهذا كان لديهم مناعة أقل في الحفاظ على صلابتهم الثورية واعتزازهم واتجاههم الوطني.
ما أفرزته السلطة الناشئة في فلسطين هو سلطة تتألف من مسؤولين وصناع قرار فلسطينيين ـ من المواطنين والعائدين بعد أوسلو ـ مبهورين بالإسرائيلي، تعلق الضحية بجلادها وإعجاب بممارساته ونمط حياته!
إن خلاصة ما حدث بعد أوسلو هو نشوء سلطة المبهور بجلاده القامع لشعبه، مع ما يرافق ذلك من انقياد فطري وطوعي للمُحتل وبطش بالشعب في الوقت ذاته، ولهذا لم تفاجئنا الوثائق التي تعرضها الجزيرة هذه الأيام، من قتل وقمع وفساد وانقياد تلقائي، فمعظم التسريبات الواردة كنا نعيشها أو نعايشها أو نعرفها أو نقرأوها أو نستنتجها.
قد يستغرب كثيرون إن اعترفت الآن لأول مرة أنني هاجرت في عام 1996 لأنني لم أستطع تحمل ما يجري من ظلم وفساد وقهر في وطني!
|