صنعاء نيوز / حمّودان عبدالواحد / فرنسا - " نحن طلبة ، نحن متأدبون ، نحن نتظاهر بطريقة سلمية ، نحن لسنا إرهابيّين ، نحن نريد حرية التعبير، نريد شغلا... ، أين هي الكرامة ؟ ماذا ارتكبنا حتى يعاملنا الرئيس بهذه الطريقة ؟ " . هذا ما صرخ به شاب مصري وهو يكاد ينفجر، شاهقا بالبكاء وعلى وجهه علامات الغضب مشتعلة. كان يعبّر عمّا وصلت إليه الوضعية في شوارع القاهرة والسويس والاسكندرية وغيرها من المدن المصرية لمّا اصطدم الشعب برجال الأمن فتصرف هؤلاء بعنف ووحشية بلغا ذروتهما...
النظام الحاكم في مصرلا تعرف الرحمة سبيلا إلى قلبه ، والصور المأساوية المؤسفة لمصريين يتعرضون للضرب والقمع الهمجييْن ، والتي شاهدها العالم لدليل قاطع على أنه من أسوء الأنظمة المستبدة اليوم على وجه الأرض. كان لهذه الصور وقع خطير وعميق في نفوس الفرنسيّين وغيرهم من جنسيات وأصول أخرى. ولم يصدّق أحد منّا ما يقع ! الصدمة النفسية كبيرة جدا !
ياالله ! ياالله ! كيف سمح الرئيس المصري حسني مبارك لنفسه أن يعطي الضوء الأخضر للبوليس بأن يطلقوا النار على شعبه ؟ هل فقد عقله ؟ لماذا يواجه مطالب الشعب الشرعية بجواب تقديره مائة قتيل وألف جريح ؟ هل كل المصريّين أصبحوا يمثلون خطرا على أمن الدولة ؟ هل كلهم " إخوان " ويجب رميُهم في الزنزانات إلى أجل غير مسمى ؟ وحتى لو كانوا بجملتهم " إسلاميّين " ، أين هي المشكلة ، إذا كان كما يدّعي بأنّه ديموقراطيا ؟
الكل متفق على حقيقة مفادها أن ما يحصل في مصر هو حدث تاريخي عظيم جدا ربّما لم يسبق له مثيل في تاريخ هذا البلد الكبير. هل خطرَ على بال أحد أن يرى في يوم ما من حياته شبابا شجعانا يتحدون الشرطة وقوى الأمن والجواسيس المدنيّين ويمزقون صور الرئيس الذي تحيطه فرقُ الانتهازيين والمستغلين والمتملقين والمنبطحين والمنافقين والمتخلفين بهالة من القداسة والمناعة الفرعونيتيْن ؟ هل تصوّر محللٌ سياسي متخصص في شؤون الشرق الاوسط والأدنى ، عربيا كان أم غربيا ،أن الشارع المصري سيخرج يوما غاضبا ومتحديا خفافيشَ الظلام والقهر والاستبداد وهو يرفع لافتات تقول أبرزها بالفرنسية " ديكاج " Dégage ؟
*******
التونسيون هم الأوّلون الذين قاموا بتدشين المعنى الربيعي العربي لكلمة " ديكاج ". فما هو هذا المعنى ؟ وماذا يمكننا أن نفهم حين يقول الشعب لحاكمه " ديكاج " ؟
أن تقول لأحد " ديكاج " بالفرنسية أو بلغة أخرى - كالانجليزية Go outأو الاسبانيةFuera مثلا - معناه في ثقافة المتكلمين بهذه اللغات أنه بالغ كثيرا في نقصه الاحترام للآخرين وتناولهم بالأذى كلاما أو/ وفعلا... وضيّق عليهم الخناق بوقاحته حتى لم يعودوا قادرين على تحمّل أي علاقة كانت تربطهم به ...فقرّروا أن يعيشوا في محيط لا يوجد هو فيه ، وأن يقطعوا اتصالهم به ، ويشقوا طريقهم في الحياة مستغنيّين عن خدماته ورفقته ...
كلمة " ديكاج " في مفهومها الانساني العام تقول - علاوة على هذا- أشياء أخرى ، منها أننا لا نريد أن نسمع كلامك أو يصل صوتك إلى آذاننا ، ولا أن نتكلم معك أو نهذرريقنا مع تافهين أمثالك ، ولا أن نجلس معك حول نفس الطاولة – نأكل معا ونشرب قهوة على إيقاع صداقة شفافة وثقة متبادلة - أو نتقاسم معك نفس المكان ، ولا أن نرى وجهك ... في حضورك تعكيرٌ لصفاء جوّنا وإفسادٌ لنشوتنا وشرّ لمجلسنا ، وفي غيابك راحة لنا وإيذان بخير كثير...
" ديكاج " تقال أيضا – كرّمكم الله – لمن كان نجساً وسخاً يلوّث جوّ الداخل بالروائح الكريهة التي تصدر عن أنفاسه ولهاثه وأمراضه السلوكية والخلقية... وتستعمل كذلك في وجه من بلغ به الذل والهوان أعلى الدرجات ، فلم يعد يُطيقه أحدٌ لأنه بدون شخصية وبلا كرامة ولا يعبأ بالحفاظ على ماء الوجه ، فهو كالطفيلي الذي يحبّ أن يعيش ويبنيَ لنفسه وأهله وولده وأقربائه مجداً على حساب الآخرين ، أو كالجرثومة التي تهدد صحة وحياة كيان ما من داخل جسده بالأمراض والموت ... بل هوكالكلب الموسخ النتن ، كثير اللعاب ، مليء القمل والطفيليات والحشرات المضرة ...
وفي زمن العولمة والمعلوماتية والثقافة الرقمية ، عندما يتعرض حاسوبٌ ما لهجمة خارجية تقوم بها مجموعة من الفيروسات ، ويستطيع المرء التخلص منها في النهاية يقول : " ديكاج " !
*******
لسنا بحاجة إلى تناول " ديكاج " في العربية من خلال مرادفاتها اللغوية والثقافية فهي عالمية وكونيّة في ما يخص مسبباتها ومحتوياتها ، تطوّراتها وجميع الأبعاد التي ترمي إلى تحقيقها . هي قريبة من " أخرج " ، وهي نفسها " غَيّب عليّ سِفتك " أو بالعربية الفصحى " أغرب عني بوجهك ". والذي تصدر في حقه يكون كمّنْ حُكِمَ عليه بالطرد وحلت به اللعنة ... وهذا العنصر الدلالي له علاقة بالمفهوم الاتنولوجي للكلمة ، إذ أنّ الانسان المعني مباشرة ب" ديكاج " يحدُث في تجربته نوعٌ من القطيعة مع أي انتماء لقيم ومبادىء وحياة الجماعة التي صادر انسانيتَها وحقوقَها ، وتحكّم في رقابها من قبل باسم الأبويّة Le paternalisme كقناع للاستغلال والقهر. وهي من هذا الجانب ذات صلة ب " بارّه " التي يصبح المعنيُ بها نوعاً ما " برّانيّاً " أي إنسانا أجنبيا وغريبا عن المجتمع ، إذ لا تجمعه به نفس الأصول ولا يتقاسم معه نفس التقاليد والعادات.
ويخطىء من يعتقد أنّ كلمة " ديكاج " كما استعملها الثائرون التونسيّون ويرفعها المنتفضون في مصر ضدّ السلطة الحاكمة هي مجرّد شعار فارغ من المعنى أو كلمة دون روح ... يخطىء من يعدّها من أساليب الإثبات أو التنديد أو من أخوات التمنّي والترجّي ... بل يظل بعيدا عن الحقيقة من يحسبها فعلَ طلب يبقى صاحبُه ينتظرجواباً ما...
إنّ " ديكاج " فعلُ أمر مسؤول ونابع عن وعي حقيقي واقتناع مسبّق بتحقيق مضمون فعل الأمر هذا. ويمكن من هذا المنظور تصنيفه في خانة ما يسمى في علم الدلالة التداولي بالأفعال الكلامية الإنجازية Actes du langage performatifs .(1) حين يقال في سياق ما لفرد ما " ديكاج " فإن الشخص الذي يصدرعنه هذا الفعل الكلامي يكون قد أخرجه من حيز القوة - أو ما يسمّى في نظرية اللسانيات التحويلية بميدان القدرة La compétence– إلى مجال الإنجاز La performance. لهذا فالأمر ب" ديكاج" هو فعل كلامي إنجازي لا ينتظر صاحبُه شيئا آخر غير التطبيق والتحقيق الفعلي على أرض الواقع. وهذا ما يظهر بجلاء في سلوك الشاب العربي المنتفض الغاضب ، إذ لا يكتفي بكتابة " ديكاج " على لافتة ، بل يرفعها إلى أعلى ما يمكن وغالبا ما يكون محمولا على كتف المتظاهرين ، ويردّدها آلافَ المرّات دون ملل أو تعب. وفي هذا برهان ساطع على مدى التحام الكلمة بالتجربة ، واتحاد اللفظة والمعنى. ولمّا يتحقق هذا الشرط ، يحدث ما لم يكن في الحسبان ، تقع المعجزة : ثورة مباركة تعطي أكلها بإذن ربّها. إنّ الكلمة الصادقة لمّا تخرج من الأعماق تذهب بكلّ بساطة توّا إلى القلب، ويصبح المستحيل آنذاك ممكنا. وإيمان الانسان بهذا المبدأ يكفي لتحقيق الأحلام !
وحين يلقي الرئيس حسني مبارك خطابه ويتعهّد في أسلوب إنشائي ، كما فعل من قبله بن علي ، ببداية إصلاحات حكومية ويتنكّر للمطلب الرئيسي للثائرين ، فهو لم يفهم بتاتا المعنى الإنجازي الفعلي الثوري لكلمة " ديكاج ". إنها ليست فقط لفظة تخرج من الفم ولا تصل إلى الآذان أو ترتطم بحدودها فلا تجد منفذا إلى العقل والدماغ والروح والنفس. " ديكاج " صيحة تخرج من القلب ، هي كائن من دموع وآلام وآهات ... " ديكاج " كلمة الصارخ الذي لم يسمعه أحد من قبل رغم محنته وتعاسته الطويلة ... " ديكاج " لغة من هو مضطر أن يكتبَ ماساته الانسانية والاجتماعية بعرق الجوع والجري وراء رغيف العيش من أجل إطعام عياله...أوَلا يملك الرؤساء والحكام في العالم العربي والاسلامي آذاناً يسمعون بها شكاوي الشعب اللامتناهية ، وقلوباً ترقّ لدموع المعّذبين وتحنّ على الجوعى والعاطلين والمحرومين من الحرية ؟
إنّ أقبح شيء يمكن أن يحصل لحاكم على ظهرالأرض هو أن يضيعَ منه شعبُه ويفقدَ الثقة التي كان قد وضعها فيه. " ديكاج " تقول بصراحة وبكل قوّة هذا المعنى أي أن الشعب قد زهد في رئيسه ، ويعتبره لا يملك شيئا مُهمّا يمكن أن يقدمه له ، إنه لم يعد يساوي شيئا فهو بدون قيمة تُذكر ولا ينتظِر منه أحد شيئا !
إذا قيل لك يوماً " ديكاج " فاعلم - رحمك الله أيّها الحاكم المستعبد لشعبه - أنك غير مرغوب فيه وعليك أن تبحث لنفسك عن محيط خارجي يأويك ، عن طريق آخر تأخذه ، عن رفاق من نفس طينتك ... وستعيش ، حتى ولو استقبلك من يتقاسمون معك نفس التصور للاشياء ويقبلون بك ، ضيفا ثقيلا وعابرا يُحتاطُ منه وغريبا لا تُحمَدُ عدواه ...
" ديكاج " موقف رافض يختزل في طلقته الرعدية وتفجيره الصاعق إرادة التحرّر التي ينطق بها لسانُ حال الثائر: قررنا أن نبعِدك عنا لأنك سبب تعاستنا ، لأنك المسؤول عن كل همومنا وشقاءنا ، لأنك وراء تخلفنا وتدهور حالتنا وتقهقر أوضاعنا... وعزمنا على أن نشطبك من لائحة اهتماماتنا ... وسوف نرمي بك في سلة المهملات ومزبلة اللامبالاة كما لو كنت منتوجا متعفنا تجاوزت صلاحيته تاريخ استهلاكه... " ديكاج " كلمة شجاعة وغاضبة ومليئة بالوعود ، ولا تخرج إلا من أحشاء من صبر على تحمل الإهانات وذاق طيلة السنين مرارة العذاب وعاش طويلا في جو مختنق ، وأحس في نهاية المطاف أن سكاكين الجزار – بعد أن ذبحت الشاة وسلختها وقطعت اللحم وفرقته عن الشحم - قد بلغت العظام... حين يهتف الشعب غاضبا في وجه حاكمه الطاغية : " ديكاج " فمعناه بكل بساطة أن العباد يكرهون هذا الرجل وأصحابه لأنه خان الأمانة التي أخذها على عاتقه لمّا تربّع على كرسي السلطة ، وأنهم عازمون على اختيار طريقهم بأنفسهم ...
" ديكاج " إذن صوت الحرية لما تسمع - وهي تختنق في أقفاص حكام العرب المستعبدين لشعوبهم - صفيرَ الرياح حين تنادي على الطيور لبداية التحليق ، فتجرؤ على تحطيم القيود ، وتعبر على الخوف ، وتكسر القضبان ... وترمي بنفسها في فوهة البركان وبين أنياب الأحداث...
قرأتُ وسمعت هنا وهناك : "ديكاج" بداية التحدّي... أمّا أنا فأشهد أنّ "ديكاج" هي التحدّي...
حمّودان عبدالواحد / فرنسا / 30-01-2011
----------------------------------
(1) أنظر : J.L. Austin, Quand dire, c’est faire, traduction de Gilles Lane, Seuil, Paris, 1970 |