صنعاء نيوز/ بقلم: عمر دغوغي الإدريسي -
كانت الحرية وما تزال من القضايا المطروحة على طاولات المَطالب الشعبية في تاريخ البشرية كلها، وأمست في زماننا من المسائل التي لها الأولوية القصوى في قائمة المطالب، حتى صار الحال أن تُرفع أصوات تطالب بشرعنة الحريات الفردية، حتى اللاأخلاقية منها كـ(الزنا، اللواط، السحاق، الإجهاض…)، بل صار يُقال إنَّ كل مَن يرفع شعار اللاحرية رِجعي متخلف، يسير بالمجتمع إلى الوراء، وإلى عصور الاستعباد، وهذا أمر معلوم -في حال إجمالِ لفظ الحرية- وحق مشروع، لا ينكره فعلا إلا مُجحف، ولا يقف أمامه إلا مكابر، لكن، مَن المعترِض، ومَن المُطالِب، وماهي المَطالِب؟ وماهي الحرية المنشودة؟ وهل أمر الحرية على إطلاقه؟
إن مِن أمضى الأسلحة التي تنخل مفاهيم مجتمع ما (كمجتمعنا المغربي الإسلامي) سلاح التلاعبِ بالمصطلحات، وسَكِّ مصطلحات جديدة تتوافق مع بعض ما جاء به الإسلام من ألفاظ، موافقة لها في المبنى، مخالفة لها في المعنى ، ولمّا كان مفهوم الحرية من المفاهيم الفضفاضة التي تباينت فيها الآراء -وهذا معلوم لا داعي لبسطه ، كانت المطالبة بتقنين الحريات (الفردية) ونخص هنا الزنا من الأمور التي يتم تمريرها تحت اللفظ المجمَل للحرية، بدعوى أن الفردَ حر في ذاته مادام قد توفَّرَ له شرطَا عدم إلحاق الضرر بالغير، والرضا بالممارسة، وهذا عند التأمل مبني على خلل منهجي، وخلط مفاهيمي.
أما الخلل المنهجي فهو البناء على مركزية الإنسان لا الدين، وإقصاء اعتبارات تتأسس عليها النظرة الأخلاقية المغربية الإسلامية، باعتبار المغرب دولة تستمد مرجعيتها التشريعية من الدين الإسلامي، وكذا الثقافة المغربية التي تشجب هذا النوع من الحريات كابرا عن كابر.
أما عن الخلط ألمفاهيمي فهو كامنٌ في تغيير المصطلحات، بتكسير الحِدَّة الدلالية لِلَّفظ التي تُعلَم بداهةً ردةُ فعل المسلم والمسلمة تجاهَها، الصغير والكبير، الجاهل والمتعلم.
إذ بدلَ الاصطلاح على الفعل أنه (زنا)، هُتِكَ فيه عِرضُ فلان أو فلانة، يتم تغيير هذا اللفظ إلى آخر هو: ممارسة الجنس خارج إطار الزواج.! ولا يخفى على كل ذي لبٍّ ما لهذا التدليس الاصطلاحي من أثر في تمرير هذه المفاهيم تحت بساط الغرابة الاصطلاحية، وهو الأمر الذي يجب أن يُتَفَطَّنَ له، ولْنُسَمِّ الأشياء بمُسَمَّياتِها.
ومما تجدر الإشارة إليه، هو أن التقدم والتطور الحضاري وتحسين ظروف العيش، وتحسين جودة التعليم، والسير قُدُما بالبلاد إلى مصافِّ الدول الصناعية الكبرى، وشق طريق غائرة في الصراع الاقتصادي العالمي، كل هذا لن يتأتى ولن يتحصل لنا بتقنين الزنا ولا برفع تجريم الإجهاض، لأن هذه الأخيرة ليست سوى ممارسة غريزية لا تنتج بشراً أسوياء (في ظل العقد الشرعي والظروف القانونية) وإنما تنتج أطفالا متخلّىً عنهم، وتزيد قضايا التحاكم في محاكم الأسرة، وارتباكا في المجتمع، وخلطا في الأنساب غير هذا، فليس لنا أن ننتظر شيئا من أناس يطالبون بتفعيل رذائل الحداثة، غاضِّين الطرف عن تقليد اجتهادات الحداثيين في خدمة بلدانهم وتطويرها، وتكاسلهم عن المطالبة بما هو جدير بالمطالبة، كتوسيع ميزانية البحث العلمي، وتحسين جودة التعليم والتطبيب، وحل مشاكل البطالة.
ولذلك، فقد أضحت خطاباتُ بعضِ السياسيين وأفرادِ نخبِ المجتمعات المهزومة فكريا، والمتخلفة اقتصاديا وتنمَويا، دغدغةً للعواطف وتنميقا للكلام، مع فُشُوِّ الاعتماد على التأثيرات العاطفية، فصار بعضهم يميل في أثناء حديثه عن الحرية ونقاشه حول قضاياها إلى الاعتماد على الشعارات العاطفية، التي عادةً ما تعتمد على المبالغة وتتوجه إلى مخاطبة العاطفة بدل العقل، وتستند إلى التلاعب بالكلمات والألفاظ أكثر من استنادها إلى الدليل والبرهان، وتسعى إلى تجميع أكبر عدد من المعجبين أكثر مما تسعى إلى ضبط التصور وإتقانه.
وفي ظل تلوّن مصطلح الحرية بعدة معانٍ، صار الداعون إليها يُجملون الألفاظ ويغيرون الأسامي، أو يُمَثِّلون بأمثلةِ حرياتٍ مقبولة شرعا وعرفا، لتمرير حريات أخرى ممنوعة شرعا وعرفا يجمعها مع الأخرى لفظ مشترك، وهذا مما فطِن له الفيلسوف غوستاف لوبون وعبّر عنه بقوله: “إن قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، وهي مستقلة تماما عن معانيها، والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك أحيانا أكبر قدرة على التأثير والفعل، نضرب على ذلك مثلا الكلمات الآتية: ديمقراطية، اشتراكية، مساواة، حرية، فمعانيها من الغموض بحيث إننا نحتاج إلى مجلدات ضخمة لشرحها فهي تجمع المطامحة اللاواعية المتنوعة وتركبها، وتحتوي على الأمل بتحقيقها وساعد في إنجاح فاعلية هذا الأسلوبِ سياقُ ما بعد الاستعمار الذي مرت منه أمتنا، والذي حدَا بها إلى الشوق إلى التحرر، وسهولة إقناعها بأهمية الحرية مطلقا، فصارت الشريعة الإسلامية محل نظر، وموضع اتهام، وصار الناس يستنكرون بعض أحكامها التي ظاهِرُها تقييدٌ للحريات الفردية.”
إن الحرية مطلبٌ إنساني مشروع، وأشكالها تتعدد بتعدد الأزمنة والأمكنة، وتنزيلها يختلف باختلاف أحوال الناس، إذ مِنَ الحريات ما يصلح لشعب دون آخر، ومنها ما هو مُستساغ عند قوم دون آخرين، وذلك لاعتبارات عديدة، ومعطيات متباينة، منها ماهو مُستقىً من أصل مرجعي، ومنها ذو الطابع الثقافي، ومنها ما هو عائد إلى الطبائع وإلى أنساق العيش وبناءً على هذا، فإن طردَ مفهومٍ واحدٍ للحرية والانتقالَ به من بلد إلى آخر، والتجوالَ عبر الأقطار بمطالب شعبوية واحدة، يعتبر ضربا من العبث، وجهلا بالواقع حالا ومآلا، وضَعفا في التكوين التدبيري للأمة، أو على الأقل -وهو الأسوأ استيرادٌ بالتقليد لمفاهيمَ ومناهجَ مجربةٍ في مجتمعات غربية وغريبة، وتنزيلُها في مجتمعات مختلفة عنها تماما في المرجعية والثقافة الشعبوية، فكيف إذا نتوسم الإصلاح والتقدم في دواء ليس لنا، وغير فاعلٍ فينا؟!
حالُ مفهوم الحرية في الإسلام كحاله في الميادين المعرفية الأخرى، يتعدد بتعدد زوايا النظر إليها، والمجالات المقصودة منها، لذلك، فإنه من الصعب ضبط مفهوم واحد يشمل جميع المجالات دون إجمال أو تخصيص، غير أن من أوسع التعاريف التي تراعي مبدأ التأصيل (المرجعية) ومبدأ التطبيق (السلوك) هو ما عبّر عنه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن بأن “الحرية هي أن تتعبّد للخالق باختيارك، وألَّا يستعبدكَ الخلق في ظاهرك وباطنك.”
وقريبا من هذا التعريف، اعتبر الطاهر بن عاشور رحمه الله مفهوم الحرية مفهوما نسبيا، وانتقد إطلاق معناه الذي يراد منه عمل الإنسان ما يقدر على عمله حسب مشيئته لا يصرفه
عن عمله أمر غيره.
إن غياب ركن المرجعية واضح في هذا المفهوم الأخيرومن خلال التعريف الأول، يمكننا القول بأن الحرية في الإسلام ليست مُطلقةَ العواهِن، وإنما هي مطلقة من وجه، مقيدة من وجه آخر، مطلقة باعتبار أن الأصل في الأشياء الإباحة، ومقيدة لأن هذا الإطلاق تم تقييده بحدود وقيود مسَطَّرة تكبح جماح المتحرِّر، وتقف به عند حدود حقوق الغير، (حقوق الله، حقوق الغير، حقوق الطبيعة، حقوق النفس ذاتها،)، ولذلك، فإن اعتبارَ جانبِ الإطلاق دون تقييده بما نُصَّ عليه عبثٌ منهجي .
أما الإطلاق كما يُراد له اليوم فإنه غير مباح ولا مشروع في الإسلام، لأنه يستلزم العبث والفوضى، ويستلزم تقاطع الحريات وتصادم المصالح ونشوء الصراعات، والإسلام يأبى ذلك ولا تستقيم به طبيعتُه. وهذا ما اختصره التوصيف الذي قام به الطاهر بن عاشور رحمه الله في عبارته الجامعة: “الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض، حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير، ولم يدخل عليه -أي البشر- التحجيرُ في أعماله إلا بتعارض متعَلَّقاتِها أي الحرية ، مثل أن تتعلق إرادته بفعل شيء يبتغيه، فإذا تأمل أعرض عنه إعراضا، إما اختياريا، إن كان لتغليب إحدى منفعتين على أخرى تعارضها، كما يكف عن عمل يسوؤه أو يسوء ابنه أو حبيبَه، فيترك ما يريد لما يريد،وإما إعراضا قهريا إذا صرفه عن عمله توارد مشيئة غيره على ذلك المبتغى.
تتأسس الحرية عندنا على أصل كبير، وهو قاعدة معلومة عند علماء المسلمين، هي: “الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم.
فكل شيء، سواء كان فعلا، أو قولا، مأكلا، أو ملبسا، أو غيره جائز أصالةً، إلا أن يحمل ما يقتضي حرمته، فنصوص الوحي وتشريعاته قلّمَا تحمل ألفاظ الإباحة، لأنها الأصل، وإنما غالب نصوصها إيجابٌ أو استحباب، أو كراهة أو تحريم، والذي يقيد حرية المرء أمران، الإيجاب والتحريم، فالأول جالب للمنفعة، والثاني دارئٌ للمفسدة، وكلاهما إلزامي، الأول معراج للارتقاء، والثاني سياج للاتّقاء، فمن فرّط في الأول هوى، ومن وقع في الثاني غوى، وذلك بدرجات تتفاوت بحسب التفريط والاجتراح.
ولما كان الأمر كذلك، فإن حدود الحرية في الإسلام تتحدَّدُ في امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، وهو ما يؤصله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها وهذا من أصول الاستدلال على إباحة المسكوت عنه، إذ معنى العفو هو نفي الحرج، أو عدم المؤاخذة ، وهو قسم من أقسام الإباحة عند بعض الأصوليين ، لأن عدم المؤاخذة على الفعل مع السكوت عنه هو حدّ المباح، وبناء على هذا، وإضافة إلى كون الفرائض والمحرَّماتِ محدودةً بمحدودية النصوص وعِلَلِها ومقاصدها، فإن ما عداها كلّه مباح، ما لَمْ يُعارِض ما شرعَه الشارع الكريم، وهذا مقرَّر في كتب الأصول.
وفيما يخص موضوعنا الجزئي، الذي هو (الزنا)، فإنه يدخل ضمن ما تكلم فيه الشرع لا فيما سكت عنه، بل إن علماء المسلمين استقروا قاعدة عامة هي: “قاعدة: الأصل في الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله” وعليه فإن موقف الإسلام هو تحريم جميع الفروج، إلا ما قرَّرَ حِلَّه بتكامل شروطه وانتفاء موانعه، لتحقيق مقاصده التي منها بقاء الجنس البشري، ولذلك، فإن المطالبة بتقنين الزنا ورفع تجريمها معارضةٌ صريحة للمرجعية الدينية للمسلمين عامة، وللمغاربة خاصة، الذين يتخدون من الإسلام المرجعية الأولى لهم في تشريعاتهم الدستورية، كما أن هذه المطالبة الشاذة مؤذِنةٌ بحصول نكبة اجتماعية عظيمة، تماما كالتي جرّها طغيانُ الشهوة المطلقة ورواجُ الإباحية وقَبولُها على التمدن الفرنسي، الذي تسبب في خراب النظام العائلي، وتقوُّض بنيانِه، إذ إن النظام كما هو معلوم يتألف مما يُعقد بين المرأة والرجل من الرابطة الأبدية التي يُعبَّر عنها بعقد الزواج، فهذه الرابطة فيما بينهما تملأ حياة الأفراد بالسكينة والدوام والاستحكام، وهي التي تُحوِّل (فرديَّتَهم) إلى(الجماعية)، وتذلل ما فيهم من نوازع الفوضى والشتات وتُخضِعه للتمدن ، ويمكننا استخلاص نتيجة لازمة وهي التقابل والتضاد بين الحرية الدينية (المقيدة بوجوهها المعتبرة)، وبين مطالب الحرية العصرية (المطلقة تماما)، ومَكمن الافتراق بينهما هو غياب اعتبار ركن الإيمان باليوم الآخر في الفكر العصري، وهنا تتسلل الماديّة إلى منظومة الفكر المغربي المعاصر، الذي يجعل من الإنسان مركزا للكون، وأن اعتبار حريته فوق كل اعتبار، بينما في الجهة الأخرى نجد ما يقابله، وهو عبودية الإنسان لله تعالى.
وهنا، نجدنا بين تقابل طرفين، طرف مرجعيته الدين الذي يحث على ضرورة الاعتقاد باليوم الآخر وأن كل ممارسة بما فيها الحرية الشخصية يجب أن تكون وِفق هذا الاعتقاد، وطرفُ الحريةِ بالمفهوم المتداول، التي لا شأن لها بالمطلق أو بالمرجعية الدينية ومصيرِ الإنسان بعد الموت، فهي نفعية محضة، أرضية محضة، تلبي نزوات وأهواء الفرد. ولذلك، فإنها أدت إلى هذا التصادم بين مَن يتبنى الهوية الإسلامية كمرتكز لكل أفعاله وممارساته، وبين من يعتقد أن الفعل الشخصي لا علاقة له بمعتقدات المجتمع أو ثقافتهم.
وهنا، لنختم هذا الكلام، نطرح سؤالا على كل من ينافح عن الحرية إلى دعواهم أن الحرية الشخصية لا تدخل في إطار وصاية المجتمع أو الدين، مادام أنَّ القانونَ نفسَه يحميها:
هل اطلعتم على النصوص المقيِّدة لهذه الفصول العامة والتي أنتم أنفسُكم -أو على الأقل الكثير منكم- قد صوَّتُّم عليها؟
ألم تطلعوا على دستور المملكة الذي يحمل نصوصا قاطعة تحمل أساسات التشريع المغربي، والتي تعتبر دين الإسلام الدين الرسمي لها؟
من هذه النصوص:
الفصل 1: تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي.
الفصل 3: الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية.
إنه لمّا كان الإسلامُ دينَ الدولة ومصدرا من مصادر تشريعها الدستوري، وهو الذي جرّم الزنا بشكل قاطع لا يحتمل التأويل، فإن المطالبة برفع هذا التجريم ضرب مباشر في دين الإسلام باعتباره دينا وشرطا للنجاة في الآخرة، وباعتباره ركنا أساسيا في هوية المملكة المغربية ومنبعا تستمد منه الوحدة والاستقرار، وعليه، فإن هتك عروة من عُرى هذا الأصل مسوغ لهتك سائر أركانه، وهل هذا إلا سير نحو طمس الهوية وتفكيك الوحدة بداعي التقدم والتحرر؟ أليس هذا ما عبر عنه النبي ﷺ بقوله: “لتُنقَضنَّ عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة.”؟
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.
[email protected] https://www.facebook.com/dghoughi.idrissi.officiel/